مرحلة جديدة.. وبعد؟
وأخيرا حصل المكروه وسقطت ثورة الحرية والكرامة بتونس لعام 2011 بين أيدي من شاركوا فيها واستبشروا بانتصارها. ولا بدّ من الإقرار بداية ومجدّدا بتحمّل حركة النهضة لجزء هام من مسؤولية الحكم خلال فترة ما بعد الثورة، والاعتراف بارتكاب قيادتها أخطاء غير قليلة، ذات تداعيات سلبية على جماهيريتها ورصيدها الانتخابي المتراجع، وأيضا على ما انتهت إليه الأوضاع من تردّ على أكثر من صعيد. ولا بدّ من مسارعة قيادة النهضة بالاعتذار للشعب التونسي التي أعطاها أكثر من فرصة ومنحها المرتبة الأولى في الانتخابات. ولها في ظلّ المرحلة الجديدة ما بعد القرارات الرئاسية لمساء 25 جويلية 2021، مجال للنقد الذاتي المعمّق في أفق مؤتمرها 11 المقرر لنهاية هذه السنة، لإعادة النظر في خياراتها وتموقعها. ولن تحجب أخطاء النهضة والمنسوب الشعبي العالي في تحميلها المسؤولية، الانتباه أيضا إلى أخطاء بقية الفاعلين ومسؤولياتهم من موقع المشاركة في الحكومة أو دعمها، أو موقع الوجود بالمؤسسات والأحزاب والمنظمات الفاعلة وممارسة التعطيل من خلالها.
فبعد عشرية من التجاذبات الحادّة والإخفاق الاقتصادي والاجتماعي وترذيل المشهد السياسي وتنامي الغضب الاجتماعي، تمّت الإطاحة بالمكتسبات الديمقراطية للثورة بنفس الأدوات التي انتصرت بها. فالفضاء الافتراضي تم توظيفه بمختلف صيغه (فايس بوك وتويتر و…) أداة رئيسية لخلق رأي عام من الشباب خاصة، كاره لمنظومة الحكم القائمة وداع لإسقاطها. وقد وجد في الحصائل التنموية السلبية لعشرية الثورة، والجفوة بين مجتمع الحكم والأغلبية من الشعب المهمشة، وفشل حكومة مشيشي في مواجهة الجائحة والتحديات في توازنات المالية العمومية، مادّة مناسبة للمطالبة بالتغيير.
ودستور 2014 الذي كان عنوان الانتقال الديمقراطي تم اعتماد الفصل 80 منه لاتخاذ إجراءات رئاسية استثنائية تجمّع السلطات الثلاث بيد رئيس الجمهورية وتجد الدعم من المؤسستين العسكرية والأمنية للإطاحة بالحكومة القائمة وتجميد البرلمان ووضع مقرة تحت سلطة الجيش ومنع الدخول إليه. فكان الانقلاب مرة أخرى بعد 07 نوفمبر 1987 متلحّفا بالدستور. ولم يتردّد أغلب المختصين في القانون الدستوري في بيان الخرق الجسيم للفصل 80 من خلال القرارات الرئاسية.
يظلّ النقاش الدستوري مهما، ولكنه غير حاسم في غياب المحكمة الدستورية ذات الاختصاص الحصري في التأويل. وبعد صدمة الساعات الأولى وتبيّن مساندة المؤسسات الصلبة للقرارات والإجراءات، وانخراط طيف هام من الفاعلين السياسيين والاجتماعيين في دعم القرارات الرئاسية واستحسان رأي عام غاضب لها وانحياز إعلامي غير خاف لها، انقلب ميزان القوى كليا لصالح قرطاج وأصبحت المرحلة الجديدة أمرا واقعا. ومع تقدّم الأيام سيكتشف الجميع من المؤيدين للقرارات الرئاسية والمعارضين لها، أنّ الأزمة السياسية خاصة والأزمة المركبة عامة، لن تحلّ بالجدال الدستوري، ولا بالمغالبة ونفي الخصوم، بل سيكون الحوار السياسي ومنهج الإدماج أفقها الوحيد.
فالمرحلة الجديدة ليست مفروشة بالورود، والقائمون عليها بحاجة إلى حلول تكرّس التغيير من جهة، ومن جهة أخرى تطمئن الداخل والخارج عن حفظ النسيج الاجتماعي التونسي من مخاطر العنف الذي يتغذى من خطابات الكراهية والاحتكاك الميداني، وعن العودة السريعة للوضع الطبيعي، وأيضا حفظ التعدّدية واحترام حقوق الإنسان والاحتكام للإرادة الشعبية من خلال الانتخابات النزيهة والاحتكام للدستور. والرئيس قيس سعيد الذي يقود المرحلة بمفرده في هذا الوضع الاستثنائي، مدعوّ بدرجة أولى إلى حسن الإصغاء للأصوات الناصحة بالداخل والخارج، وعدم الوقوع في شراك الاستئصاليين والانتهازيين الذين زينوا للزعيم بورقيبة الرئاسة مدى الحياة واغتيال روح الجمهورية في التداول، وزينوا لبن علي اضطهاد حركة النهضة والعمل على استئصالها “ديمقراطية بلا نهضة”، ففتحوا الأبواب على مصارعها للاستبداد والحكم الفردي واستشراء الفساد وحكم العائلة. فقد كان دستور 1959 تقدميا لكنه لم يمنع الاستبداد. وكان بيان السابع من نوفمبر 1987 بليغا وواعدا وجذّابا “لا ظلم بعد اليوم”، لكن بن علي أخلف الوعود ورحى الاستبداد طحنت الجميع. والحكمة في استبعاد ما جُرّب وبان فشله.
تواجه المرحلة الجديدة مآزق سياسية حادّة في ظلّ تعهّد الرئيس قيس سعيد باحترام الدستور الذي أقسم على احترامه، وتعهّده لممثلي المنظمات الوطنية باقتصار المدة الاستثنائية وحفظ حقوق الإنسان، ورقابة الأطراف الخارجية على المسار. وستكون لضغوط القوى الديمقراطية التونسية، ذات القناعة الراسخة بالحرية وذات الخبرة في مقاومة الاستبداد، أثرها الإيجابي على المرحلة عاجلا أو آجلا. كما أنّ الدول الداعمة للمسار الديمقراطي بتونس، تدرك جيدا في ظل التجارب السابقة ورعاية لمصالحها أيضا، مخاطر التهاون مع خرق الدساتير أو الانقلاب على المؤسسات الديمقراطية المنتخبة وهزّ الاستقرار السياسي وإضعاف إيمان الشعوب بالديمقراطية والتغيير السلمي، وتداعيات ذلك على جاذبية التوجهات المتطرفة والإرهابية. كما تدرك الجهات الإقليمية الداعمة لتونس مخاطر سقوط تونس في لعبة المحاور. ولن يكون من المقبول استمرار سيطرة الجيش على البرلمان المعطّل، ولا غلق قنوات إعلامية ولا العودة إلى إدارة مواضيع الاستبداد وانتهاك حقوق الإنسان، بدل معالجة مصاعب الديمقراطية التي أدخلت تونس عصرا جديدا.
ويبقى الأهم في استشراف المرحلة الجديدة، التفكير في مدى قدرة التوجهات الجديدة على معالجة التحديات الصحية والمالية بدرجة أساسية. فالأرجح أنّ الأزمة السياسية التي دخلت منعرجا خطيرا بالإجراءات الاستثنائية اللادستورية، إذا استمرت، ستزيد في تراجع تصنيفات اقتصادنا وانحسار الدعم من الجهات المانحة وإقبال المستثمرين، ونحن على مشارف إعلان الإفلاس. ومن خرجوا من الموجوعين والمهمشين استبشارا بالتغيير لن يصبروا طويلا على استمرار الأوضاع السلبية والمعاناة الشعبية. ويزيد التأخّر في تشكيل حكومة جديدة وتعويض المسؤولين المعزولين ومصاعب إنفاذ جميع الإجراءات الأوضاع تعقيدا.
تخترق حالة الترقّب ومشاعر الخوف من المستقبل، موجات إيجابية. فمع مرور ساعات الصدمة، يُسجل ارتياح للتهدئة الحاصلة بعد قرار حركة النهضة رفع الاعتصام أمام البرلمان والبعد عن الاحتكاك بالشارع والانجرار إلى مربعات العنف، والحرص على تحريك قنوات الحوار السياسي المختلفة للبحث عن حلول سياسية. كما ينظر بإيجابية إلى نشر مراسيم رئاسية بالرائد الرسمي فيها تراجع عن بعض القرارات الأولى المعلنة شفويا وخاصة تجميد البرلمان ورئاسة النيابة العمومية. ولا يستبعد أن تفضي وساطات وحوارات إلى تشكيل حكومة للإنقاذ الوطني تلقى أوسع الدعم في البرلمان الذي يرجّح أن سيستأنف نشاطه قريبا. وربي يلهم مختلف الفاعلين رشدهم ويحمي تونس.
محمد القوماني
*منشور بجريدة الرأي العام، العدد 215 تونس في 29 جويلية 2021
مقالات ذات صلة
25 جويلية: جمهورية مغدورة.. وذكرى حزينة..
2023-07-25