محمد القوماني المسار والمسيرة والأفق

محلة الإصلاح الالكترونية في 6 و20 أفريل 2012

حاوره فيصل العش

الأستاذ محمد القوماني الامين العام لحزب الاصلاح والتنمية، من أبرز الوجوه السياسية والحقوقية في تونس. صاحب تجربته سياسية ثريّة جدّا امتدّت من فترة النظام البورقيبي إلى الآن. بدأت منذ كان تلميذا في المعهد المختلط بباجة الذي أُطرد منه بسبب أنشطته. كان أحد قيادات الاتجاه الاسلامي في الجامعة في بداية الثمانينات لكنّه غادر هذا التنظيم سنة 1984 وهو في أعلى المستويات التنظيمية. انضم إلى مجموعة الاسلاميين التقدميين وأثرى تجربتهم وساهم بمقالات متميزة في مجلّة 15/21. انخرط مناضلا بالرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الانسان ثم عضوا في هيئتها المديرة من 1994 إلى غاية مؤتمرها الأخير في 2011 وكان من أكثر الأعضاء نشاطا من أجل المطالبة بالعفو التشريعي العام وإطلاق سراح المساجين السياسيين. ساهم صحبة ثلّة من الحقوقيين والسياسيين في تأسيس منتدى الموقف سنة 1998 ثم ساهم في تأسيس الحزب الديمقراطي التقدمي تطويرا لتجربة التجمع الاشتراكي التقدمي سنة 2001، ليصبح عضوا بمكتبه السياسي ثم في ما بعد أمينا عامّا مساعدا كما كان مديرا ماليا لجريدة الموقف ومحرّرا بها لعدّة سنوات، لتنتهي هذه التجربة بالانسحاب سنة 2009 مع مجموعة من قيادات الحزب وكوادره نتيجة اختلافات في المواقف والتمشي السياسي.

دخل تجربة سياسية جديدة تحت تسمية ” تيار الاصلاح والتنمية” وكان أحد المتحثين باسمه في تحالف المواطنة والمساواة، إلى أن سقط الطاغية ونجحت الثورة في فتح الباب على مصراعيه أمام حريّة تكوين الأحزاب، فأسّس مع ثلّة من المناضلين من تيار الاصلاح ومن خارجه حزب الاصلاح والتنمية وتقدم لإنتخابات المجلس الوطني التأسيسي على رأس قائمته ببن عروس ولم يفزبمقعد في المجلس. شارك السيد محمد القوماني في تأسيس المجلس الوطني لحماية الثورة ثم أصبح عضوا في الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والانتقال الديمقراطي والإصلاح السياسي وهو اليوم يواصل نضاله كأمين عام لحزب الاصلاح والتنمية.

السيد محمد القوماني أستاذ التفكير الإسلامي، باحث في الإسلاميات وقضايا التراث والحداثة، عضو بهيئة تحرير مجلة 15/21 (مجلة الفكر الإسلامي المستقبلي)(من 1984 إلى 1991) وعضو مؤسس لجمعية منتدى الجاحظ ( جمعية ثقافية حصلت على التأشيرة القانونية سنة 1990)، وكاتب عام المنتدى (منذ 1990 إلى 2010)، محرر لعديد المقالات والبحوث الفكرية والسياسية.

التقيناه وأجرينا معه الحوار التالي :
السيد محمد القوماني ، كيف جئت إلى عالم السياسية؟
تزامنت المرحلة الثانية من تعليمي الثانوي ـ حسب النظام القديم ـ مع مجموعة أحداث سياسية بارزة، أذكر منها اشتداد الصراع بين الاتحاد العام التونسي للشغل والسلطة التي كان اوجها في احداث 26 جانفي 1978 وانتصار الثورة الإسلامية في إيران 1979 و تصاعد حضور الاتجاه الإسلامي بالجامعة، وكنت آنذاك في سن المراهقة ومن بين التلاميذ المتدينين كما يُوصفون، وكان التدين الحركي بداية انشغالي بالحياة العامة، وكانت أنشطتي البارزة بالمعهد واتهامي بالتحريض على الإضرابات تفاعلا مع يُعرف بأحداث قفصة، سببا في طردي نهائيا من الدراسة بالمعاهد العمومية، فاضطررت إلى الانتقال من باجة إلى العاصمة لمواصلة دراستي بمعهد خاص، ومكنني وضعي الجديد من الاحتكاك اكثر بالطلبة والتردد على المركب الجامعي خاصة ومواكبة الحوارات السياسية، مما سهل عليّ في أول سنة لي بالجامعة ، التي جاءت إثر اعتقال أو فرار قيادات الاتجاه الإسلامي، أن أكون من المتحدثين في حلقات النقاش والاجتماعات العامة، لأصبح بسرعة أحد المتحدثين باسم الاتجاه الإسلامي بكلية الآداب بمنوبة، ثم رئسا لبعض الاجتماعات العامة والتجمعات وأحد قيادات الحركة الطلابية لاحقا. ولا شك أن هذه البدايات والمسارات قد ألقت بي بقوة في معترك العمل السياسي والفكري أيضا، الذي استمر بعد الجامعة.
أنت مناضل سياسي وحقوقي منذ العهد البورقيبي . هل لك أن توضح لنا الفرق بين العمل السياسي في العهود الثلاثة ؟
العمل السياسي الذي شاركت فيه في الثمانينات التي مثلت آخر العهد البورقيبي، كان اقرب إلى أحلام الشباب، حيث كانت المعارضة في تصاعد، والاتجاه الإسلامي في حالة مدّ، والسلطة في ترهل، فكانت التطلعات كبيرة رغم الطابع شبه السري للعمل السياسي، وكانت الشعارات مركزة على إسقاط النظام وقامة البديل عنه. أما في التسعينات التي عرفت أعنف فترات الحكم النوفمبري، فكان القمع والخوف والتصحر السياسي، ولم تستأنف الحركة الديمقراطية بعض أنفاسها، وتبدأ هجومها المضاد إلا مطلع الألفية الجديدة، وقد غلب الاهتمام الحقوقي والمطالبة بالحريات والديمقراطية على سائر الاهتمامات، وقد مكنني وجودي بقيادة الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان من جهة وقيادة الحزب الديمقراطي التقدمي وإدارة جريدة الموقف والكتابة بها من جهة ثانية، وتحمل مسؤولية الكاتب العام بمنتدى الجاحظ من جهة ثالثة، مكنني كل ذلك من أن أساهم من مواقع متقدمة في المعارضة، في الحراك السياسي والفكري إلى اندلاع الثورة المجيدة وانتصارها. فكان اإطلاق الحريات وكانت الفرصة للمساهمة في مسار تحقيق أهداف الثورة وفي إنجاح المرحلة الانتقالية من خلال تحملي لمسؤولية الأمانة العامة لحزب الإصلاح والتنمية والتفاعل مع الأحداث من هذا الموقع.
كانت بدايتك في الاتجاه الإسلامي وتحمّلت مسؤوليات كبرى في الحركة الطلابية في بداية الثمانينات ؟ ما الذي جعلك تغادر هذا التنظيم الحزبي وأنت في القمّة؟
كنت بالتوازي مع العمل الحركي شغوفا بالمطالعات الفكرية، وفي الوسط الطلابي تدعم احتكاكنا بالأفكار المغايرة من الأيديولوجيات المختلقة، وتزامن ذلك مع غياب القيادة التاريخية للاتجاه الإسلامي التي كانت بالسجون أو بالخارج، وربما ساهمت تلك العوامل في انفتاحي على الكتابات العربية المعاصرة، خاصة منها تلك التي اتخذت منحى نقديا في أعقاب هزيمة 1967 والمراجعات التي تلتها، وتأثرت بما قرأت لا سيما بكتابات حسن حنفي ومحمد عابد الجابري وياسين الحافظ ومنير شفيق وبرهان غليون وعلي شريعتي ومحمد باقر الصدر وآخرين، وهكذا توسعت دائرة اهتماماتي وبدأت أدرك القصور في الأدبيات الإخوانية والإسلامية عموما وصرت نقديا تجاهها. كما بدت عليّ علامات النضج فصرت نقديا تجاه المشهد الطلابي الذي يغلب عليه التطاحن الأيديولوجي والعنف اللفظي والمادي، ولم يكن جاهزا للتنظّم النقابي المهني الجامع. وهكذا بتّ أقرب إلى الاهتمام الفكري والثقافي، بل أرى الثورة الثقافية مقدمة عن العمل السياسي. فكتبت دراسة تقييمية فكرية وتنظيمية لتجربة الاتجاه الإسلامي، ساعدتني النقاشات مع من يشاركونني الرأي على تطويرها، وكان قرار استقالتي من الإتجاه الإسلامي. لأعمل بعض الوقت تحت مسمى “الإسلاميين المستقلين” وأشارك في المراجعات الفكرية الجماعية للحركة الإسلامية بتونس، وأبحث عن آفاق جديدة، ثم التبني الواضح لفكر “اليسار الإسلامي” والانفتاح على التجربة الإيرانية لمجاهدي الشعب. ثم كان انضمامي إلى تجربة “الإسلاميين التقدميين” التي ساهمت في إنضاج بعض أفكارها وفي انتقالها من ردّ فعل تنظيمي وايديولوجي على “الاتجاه الإسلامي” إلى تعبيرة نقدية في الفكر العربي المعاصر الباحث عن آفاق وحلول خارج الأنساق الأيديولوجية المغلقة والتنظيمات الحزبية. فكان قرار إنهاء التجربة التنظيمية للإسلاميين التقدميين في نهاية الثمانينات والعمل في إطار مجلة 15/12 للفكر الإسلامي المستقبلي ثم تأسيس جمعية “منتدى الجاحظ” الثقافية، من أجل تنوير عربي إسلامي.
ثم كانت لك تجربة تأسيسية للحزب الديمقراطي التقدمي وتحملت أيضا مسؤولية الأمين العام المساعد والمدير المالي لجريدة الموقف لماذا انسحبت أيضا وأنت في أعلى سلّم المسؤولية؟
استقلت من الحزب الديمقراطي التقدمي بعد حوالي عشر سنوات أعتز بأن قضيتها في صفوفه. ولعل نص الاستقالة الجماعية بتاريخ 27 أفريل 2009 التي أحيلك عليها، أرى فيها أفضل تعبير موجز عن تلك التجربة، والتي جاء فيها ما يلي: “انتهى الحوار الفكري والسياسي بين مجموعة من النشطاء التونسيين عقب الانتخابات العامة لسنة 1999 إلى التوافق على الحاجة إلى إطار سياسي، يوحّد الجهود دون أن يطمس التعدد، ويتجاوز سلبيات التجارب السابقة، ويعطي الأولوية للبرنامج السياسي الهادف إلى تحقيق الحريات والانتقال الديمقراطي، على الانتماءات الفكرية التي تبينت حدودها وصارت معرقلة للعمل المشترك المتأكد. وهذا ما تحقق فعلا في مؤتمر جوان2001 الذي أسّس الحزب الديمقراطي التقدمي بديلا عن التجمع الاشتراكي التقدمي، الذي قبل قيادته ومنخرطوه، بأن يكونوا أحد مكونات الإطار الجديد الذي عرف نموا مُطّردا وشكل إضافة نوعية في الساحة السياسية التونسية وكانت له مساهمة ملحوظة في الحراك السياسي)…(

وخلال المؤتمر الأخير للحزب الديمقراطي التقدمي نهاية العام 2006 تقدمت مجموعة من المؤتمرين بوثيقة، )أمضيتها مع الدكتور فتحي التوزري( تقيّم المسار وتقترح تعديلات في التمشي السياسي والخطاب، مع التمسك بخط الحزب في الاستقلالية والنضالية والجرأة، وفاء لمنطلقات 2001 التي تأسس عليها الحزب وبحثا عن النجاعة أمام قصور التمشّي الاحتجاجي. كما قدمت مقترحات في البناء التنظيمي والعمل المؤسساتي لتطويرالأداء. لم تُساعد الأجواء التي تمّ فيها إعداد المؤتمر ورهان التداول على الأمانة العامة على حسن تفهم دوافع تلك الوثيقة، فكانت سببا إضافيا في التوتر الداخلي رغم ما أضفته من حركية وثراء. وتفاديا لانقسام محتمل خلال المؤتمر، تم التوافق على قيادة جديدة للحزب على رأسها الأمينة العامة الحالية، وكان الرهان على المستقبل، في تقريب وجهات النظر وحسن إدارة الاختلاف.لم ينجح الحزب لاحقا في رفع هذا التحدي وظلت أجواء المؤتمر ملقية بظلالها وتعمّق التباعد بمناسبة وضع خطة الحزب لمواجهة الاستحقاقات الرئاسية والتشريعية لسنة 2009. وكان يتم باستمرار عدم مراعاة الاختلاف ومحاولة حجب الرأي الآخر، كما تحركت آليات تنظيمية إقصائية في الأثناء زادت في توتر العلاقات. ولم تنجح محاولات بعض عناصر القيادة في مراجعة آليات إدارة الاختلاف ورأب الصدع، فتعطل التواصل واهتزت علاقات الثقة، وضعفت التعبئة الداخلية وبدا التفكك ملحوظا.
ومن جهة ثانية لم يحسن الحزب إدارة علاقاته مع بقية الأطراف السياسية، التي توترت علاقاته بها، في تعارض مع خياراته الأساسية في ضرورة توحيد المعارضة، والمؤكدة في لوائح مؤتمره الأخير. وزاد الجمود السياسي وحالة الإحباط في صعوبات الحزب الديمقراطي التقدمي لتجاوز مأزقه”.
هكذا إذن جاءت استقالتنا كما بيّنا في الرسالة التي سلّمناها إلى الأمينة العامة، بناء على اعتبارات ثلاثة، أوّلها الوقوف على عدم نجاعة التمشي السياسي المعتمد من طرف الحزب الديمقراطي التقدمي،  وافتقاده للعناصر التي ترتقي به  إلى الفعالية في الإصلاح السياسي الذي انتمينا من أجله لهذا الحزب. وثانيها وصول الوضعية الداخلية للحزب إلى حالة تعطل فيها التواصل، واهتزت علاقات الثقة وانعدم فيها التعايش الايجابي وإمكانيات العمل المثمر. وثالثها استبعاد تصحيح المسار سياسيا وتنظيميا  بعد استنفاذ جميع المحاولات في هذا الاتجاه خلال ثلاث سنوات، والتأكد من عدم وجود إرادة في التجاوز والتطوير. وكان إعلان الانسحاب من الحزب الديمقراطي التقدمي مقرونا بالعزم على “مواصلة المساهمة في بلورة مشروع سياسي يعمل بجاذبية الديمقراطية ويدفع مسار الإصلاح ببلادنا في اتجاه تفعيل المواطنة وتجديد المؤسسات وتطوير أداء المعارضة والسلطة، بالبناء على المشترك وتوخي التدرج والنجاعة وتعزيز الثقة وطمأنة مختلف أطراف العملية السياسية، وتوسيع مجال المشاركة والمنافسة، بما يفضي إلى إشراق الحريات وتحقيق الانتقال الديمقراطي.”

لماذا اخترتم تسمية الإصلاح والتنمية ؟ وكيف يمكن أن تقدّم للقراء حزب الاصلاح والتنمية؟
يمكن القول أن حزب الإصلاح والتنمية يعود تشكّله في نواته الأولى إلى الانتخابات البرلمانية لسنة 2009 التي كانت مجرد مناسبة لإعلان ميلاد التيار. فقد تقدمنا آنذاك في قائمات مستقلة متعدذدة تحت تسمية واحدة وهي «الإصلاح والتنمية» وضمت حينها كوادر سياسية واجتماعية ممن سبق انسحابهم من قيادة الحزب الديمقراطي التقدمي كما بينت سابقا. وقد واصل المشاركون في تلك القائمات أنشطتهم السياسية باسم تيار «الإصلاح والتنمية» ضمن تحالف “المواطنة والمساواة” الذي ضم حزبين قانونيين هما حركة التجديد، والتكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات، إلى جانب حزب العمل الوطني الديمقراطي غير المعترف به في وقتها، ومجموعة هامة من المستقلين. وبعد ثورة 14 جانفي ارتفع منسوب الاستعداد للعمل السياسي بين التونسيين وأصبحت حرية التنظيم ممكنة، فتوسعت المجموعة وتحاورت فيما بينها لتشكيل الحزب الجديد.
فحزب الاصلاح والتنمية تأسس قانونيا بعد 14 جانفي، لكنّ كثيرا من مؤسسيه كانت لهم إسهامات في الحياة العامة من مواقع مختلفة، وأغلبهم لم يشاركوا في تجربة التقدمي، بل ينخرطون من الناحية الفكرية فيما أسميه التيار النقدي في الفكر العربي المعاصر الذي اشتغل على نقد تيارات الفكر العربي الكبرى القومية والإسلامية واليسارية والليبرالية، وأكد على أنّ اختلاف العناوين لا يخفي الذهنية المشتركة التي وصفها المرحوم محمد عابد الجابري بالسلفيّة مع اختلاف النموذج السلف الذي نقيس عليه، واعتبر أنّ الفكر الابداعي قد يستأنس بأيّ تجربة ماضية لكنه لا يعمل على استنساخها. اذ أنّ القياس على نموذج جاهز يجعل الفكر مُستلبا. وفي هذا الاطار تبنينا ما يوصف بالخطّ الثالث، الذي يرفض الاستقطاب الايديولوجي ويحاول التحرر من هذا الاستقطاب المبني عادة على زوج مفهومي (إسلام ـ حداثة) (يمين ـ يسار) (إسلامية ـ لائكية)… فنحن نرى أنّ أغلب التونسيين تجاوزوا انقسام النخب حول الهوية والحداثة ويعيشون عصرهم دون توتر مع تدينهم أو تراثهم. وإنّ المطلوب هو تعميق نظرتنا لتراثنا للقضاء على معوّقات التنمية والتقدم في جذورها التاريخيّة والاستئناس بما هو مستنير في ماضينا من أجل تنمية قيم المواطنة والديمقراطية وحقوق الإنسان.
وقد حافضنا على تسمية الإصلاح والتنمية. لأن الاصلاح في نظرنا هو الوجه الآخر لسنّة التطور في الحياة، وهو بهذا المعنى حركة دائبة ومتجددة، والإصلاح يتخذ مضمونه ومجالاته بحسب كل مرحلة، والإصلاح الذي نراه اليوم يمتد الى مختلف المجالات من أجل تحقيق أهداف الثورة التونسية في الحرية والكرامة والنماء والعدل والرفاه. ونحن نعتبر أنفسنا تواصلا مع اسهامات من سبقونا في مسيرة الاصلاح أمثال خير الدين التونسي وعبد العزيز الثعالبي والطاهر الحداد والطاهر بن عاشور وفرحات حشاد، الذين وضعنا صورهم على مطوية التعريف بحزبنا، ونعتمد مرجعية إصلاحية تقوم على الاستلهام من تراثنا المستنير والانفتاح على المكتسبات الإنسانية.من أجل دعم مكتسبات المجتمع التونسي والعمل على تطويرها والتطلع الى التعبير عن طموحات الأجيال الجديدة ومشاغلهم والانخراط في الحداثة من موقع الابداع لا الاتباع.

وإذا كان الإصلاح بهذا المعنى منهجا في التغيير ووسيلة، فإن التنمية هي الغاية وهي الأولوية في هذه المرحلة. ففي المجال التنموي يتطلع حزبنا الى تحقيق تنمية عادلة وشاملة تستجيب لطلبات التشغيل وتحارب الفقر وتحسّن مستوى عيش المواطنين وترفع من منسوب كفاءة الأفراد وقدراتهم الابداعية وسعادتهم وتجعل الانسان محور التنمية وغايتها.

أما عن الخلفية الاجتماعية، فان حزبنا يعمل على تحقيق العدالة الاجتماعية وينحاز الى مطالب الشعب مع الاقرار بمقتضيات اقتصاد السوق المقيد بمسؤولية الدولة في حسن توزيع ثمرات النماء بين الفئات والجهات وفي ضمان تكافؤ الفرص وتحمّل المسؤولية في دفع الاستثمار في القطاعات الاستراتيجية.
وفي المجال السياسي يستند الحزب الى مبدإ المواطنة وقيم الجمهورية ويعمل على تعزيز الوحدة الوطنية وضمان استقلال البلاد ودعم مقوّمات دولة مدنية متصالحة مع بيئتها الثقافية والحضارية.
وقد حاولنا جمع هذه المعاني المتقدمة في الكلمات الثلاثة التي تكون شعار الحزب، وهي الحرية والمواطنة والعدالة. وجعلنا رمز الحزب إمرأة ورجلا يشكلان جذع شجرة التنمية، للتأكيد على هذا التلازم والتكامل والمساواة في نظرتنا للعلاقة بين الجنسين.
أغلب مؤسسي حزب الاصلاح والتنمية لهم خلفية إسلامية ؟ هل تصنف حزبكم ضمن الدّائرة الاسلامية ؟
حزبنا حزب وسطي متجذر في الهوية الوطنية العربية الإسلامية لتونس ويتحرك بروح العصر ولا يرى تناقضا بين الهوية والحداثة، وهو بهذا المعنى يتجاوز الاستقطابات الآيديولوجية ويرفض التصنيف النمطي القائم على أسس آيديولوجية .حزب يستند إلى مرجعية إصلاحية تعتمد الثقافة العربية الإسلامية مقوما أساسيا في بناء الإنسان وعاملا رئيسا في كسب رهانات التنمية العادلة والمستدامة والانخراط في الحداثة من موقع الإبداع لا الإتباع.

حزبنا ينطلق من خلفية تجديدية تنويرية تحررية تعتبر أن الانطلاق من البيئة الثقافية المحلية شرط أساسي لنجاح محاولات التحديث. وأغلب المؤسسين من كوادر الحزب لهم اسهامات نظرية على هذا الصعيد منذ عقود. وحزبنا بهذا المعنى يتميز عن حركات الإسلام السياسي التي تبدو بالنسبة لنا سلفية بدرجات متفاوتة. كما يتميز عن تيارات التحديث سواء كانت ليبرالية أو يسارية التي تعاني حسب رأينا من توتر غير خاف مع الإسلام والثقافة المحلية. نحن نعتبر أن الإسلام أرضية مشتركة بين التونسيين ولا نرى أي داع لمراجعة هذا المعطى الأساسي في حياة كل الناس. كما نعتبر الإسلام عنصر اعتزاز ومعطى ايجابيا ودافعا لكسب مختلف التحديات المطروحة.

(7 ـ هل تعتقد أن مسار الانتقال الديمقراطي في تونس يسير بخطى ثابتة ويتحقق بالقدر المطلوب؟ وما هي العوائق التي قد تراها معطّلة لهذا المسار؟
لعل أهمّ معطى نجده في المشهد السياسي الحالي هو انزياحه بعد الثورة تدريجيا الى نفس المشهد تقريبا قبل الثورة، إذ نجد ترويكا حاكمة منغلقة على نفسها، ومعارضة مُشتّتة واحتجاجيّة دون برامج ودون تأثير على مجريات الأحداث، وعزوف متنامي من الأغلبية على المشاركة السياسية، واستمرار أزمة التنمية السياسية وضعف ثقافة المواطنة والديمقراطية. وعليه لا أخفي مخاوفي الجديّة من انتكاس المشهد وضياع الفرصة التاريخية التي منحتنا إيّاها الثورة. وإنّى لا أتردّد في اتهام النخب في المقام الأول وتحميلها المسؤولية.
أبدى التونسيون من مختلف المواقع والأجيال أقدارا لافتة من الوعي واليقظة والمسؤولية خلال الأيام الحاسمة من الثورة المجيدة وما تلاها من ظروف صعبة بعد انتصارها وانخرطوا تدريجيا في وهجها وفي مسار إنجاحها. وانتظروا بصبر كبير موعد إجراء انتخابات المجلس الوطني التأسيسي التي جاءت تعددية وحرة وشهد لها الجميع بالشفافية. ونظر الجميع بالداخل والخارج إلى انعقاد المجلس وانتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة، والانتقال السّلس للحكم، على أنها عناوين بارزة ومُشجعة على بداية مرحلة ما بعد الاستبداد والفساد وخطوات على طريق الانتقال الديمقراطي الذي تمثل تونس أفضل حالاته العربية.

كان المأمول بعد تلك الخطوات الهامة، بناء الشرعية السياسية وخلق حالة من الاستقرار وبداية حل المشاكل حسب الأولويات في إطار من الشراكة الواسعة والتعاون على رفع التحديات وإنجاح المسار الانتقالي. لكن بعد حوالي نصف عام من الانتخاب تبدو الأمور غير مطمئنة لعموم التونسيين حسب ما ألاحظ. وليست مظاهر الاستقطاب الإيديولوجي والتجاذب السياسي الحادّين بين الاطراف السياسية والتوتر الاجتماعي والانفلات الإعلامي، سوى عناوين لتأزّم الأوضاع واستمرار الهشاشة الأمنية والتنازع حول الشرعية. فالاختلاف رحمة وهو إيجابي وهو أيضا عنوان التعددية، لكن الفرق كبير بين الاختلاف والتنافس وبين التجاذب والاستقطاب والعداوة. إذ الحياة السياسية في الوضع الديمقراطي تقوم على التنافس وليس على العداوة كما هو الحال.
لابدّ من نقاش في مضمون الديمقراطية وآلياتها خاصّة في المرحلة الانتقالية. فنحن نرى أنّ استقطاب المشهد السياسي بين حكومة ومعارضة غير صحّي وأن المرحلة الحالية تقتضي شراكة لا تطمس التعددية و حق الاختلاف. فالحكومة مهما كانت شرعيّتها، لا يمكن أن تستأثر بالمرحلة الحالية. ولا تستطيع القول أنها المسؤولة الوحيدة على تأمين تحقيق أهداف الثورة. والشرعية الانتخابية غير كافية لممارسة السلطة. ولا يمكن الحكم بمنطق الأغلبية في غياب دستور وعقد اجتماعي وسياسي بين جميع الأطراف. وتعبير “الصفر فاصل” تعبير خاطئ ومُضلّل. وعليه فإن الرسائل السلبية للترويكا منذ الانتخابات، وخاصة رسالة الهيمنة، زادت في توتر الوضع السياسي. كما أن الأطراف السياسية التي اختارت المعارضة مبكّرا وصنعت حاجزا بينها وبين الحكومة حكمت على المشهد أيضا بنوع من الاستقطاب. فمن كان شريكا في الثورة، عليه أن يدافع عن حظوظه في المشاركة السياسية ويواصل إسهامه في إنجاح المرحلة وتحقيق أهداف الثورة. فالديمقراطية تكليف ومراقبة وليس تفويضا مطلقا. والتوازن ضروري للمجتمع خاصة في المرحلة الانتقالية. لا ننكر الدور الايجابي للضغط المُمارس من مواقع مختلفة على السلطة الجديدة، في تصحيح كثير من المسارات والتنبيه إلى انزلاقات محتملة، لكن الوضع الإستقطابي (سلطة/معارضة) بهذه الحدّة لم يعد مقبولا. ولابدّ من القيام بخطوات جريئة نحو خفض التشنّج و أن نبحث عن صيغ أخرى للتعامل داخل المجلس الوطني التأسيسي وخارجه. ولابدّ من حوار وطني واسع حول مشروع تونس الجديدة.

على الحكومة أن تعطي رسائل مفادها أنها ستوسّع المشاركة في الحوار وفي رسم التوجهات، وحتّى في تحديد المهام والتعيينات في المناصب الحيوية. وعلى المعارضة أن تجدّد خطابها وتعلن أنها تعمل على إنجاح المرحلة وعلى استعدادها للتعاون مع الحكومة لإيجاد الحلول. فتونس تهمّنا جميعا ونجاح المسار الديمقراطي مسؤولية الجميع. لذلك أدعو أعضاء الحكومة إلى الخروج من جلباب الانتماء الحزبي والتصرّف كرجال دولة، كما أدعو مختلف الفاعلين من خارج الترويكا الحاكمة إلى التعالي عن الحسابات الشخصية ومعارك الماضي، وتحمّل المسؤولية في عدم تفويت هذه الفرصة التاريخية للنهوض ببلادنا والقطع مع منظومة الفساد والاستبداد. وعلينا أن نعي جميعا أن التنمية السياسية لا تتحقق فقط بحرية التنظم والتعبير والتظاهر، وأن تغيير الحكّام لا يضمن وحده تغيير الحُكم.

وأحسب أن الحاجة باتت أكيدة إلى إطلاق مبادرة سياسية في هذا الاتجاه، تستهدف خفض التشنج وتحقيق التوافق وبناء الشرعية بجميع عناصرها. وأعدّ أنّ دورا ايجابيا للإعلام مفيد جدّا وحاسم في إنجاح هذا المسعى.

8( ـ المتتبع لبرامج الاحزاب وأهدافها يلاحظ التشابه الكبير بين العديد منها. كيف تنظرون إلى دعوات الدمج بين الأحزاب؟ وما هي الخطوات التي قمتم بها في هذا الاتجاه؟ وأين يتموقع حزب الاصلاح والتنمية في الخارطة السياسية الحالية؟
لم يعد ممكنا عدم الاقرار بأن كثرة الأحزاب أدخلت لخبطة في المشهد السياسي بالبلاد وأنها أصبحت ظاهرة سلبية. وان المشهد الحزبي يحتاج إلى إعادة تشكل في ضوء تجربة انتخابات المجلس الوطني التأسيسي وما أفرزته من حالة عدم توازن حزبي ومؤشرات سلبية في التصويت والمشاركة في الانتخابات. والمفروض أن تتطور الرؤى لتكون الأحزاب على قدر الأفكار والبرامج المختلفة جوهريا. لذلك كنا من أوّل الأحزاب التي وعت هذا الدرس وقرّرنا في مجلسنا الوطني الذي انعقد بعد شهر تقربا من إعلان نتائج الانتخابات، التوجه نحو إعادة التشكل الحزبي. وقد صار هذا الأمر خيارا لأغلب الأحزاب. لذلك ننظر بإيجابية إلى دعوات التكتل الحزبي ونخوض حوارا جديا مع أغلب المبادرات ومختلف الأطراف. لكننا ننظر إلى التكتلات المعلنة على أنها إلى حد الآن لا تستجيب للمطلوب، وأنه قد يقودها التجمّع ضدّ النهضة أكثر ممّا تجمعها مقترحات وأفكار لتطوير الواقع. وأنها تنبني على هاجس التجميع والمحاصّة في القيادة الجديدة، أكثر ممّا تبحث في ثغرات الخطاب وأساليب العمل وأخطاء الماضي وأسباب عدم النجاح ومتطلبات التجديد والتطوير، من أجل فعالية أفضل في المشهد الوطني وحظوظ أوفر في الاستحقاقات الانتخابية القادمة وقطع مع منظومة الاستبداد والفساد. وقد قرر مجلسنا الوطني نهاية شهر مارس الماضي تجديد تكليف قيادة الحزب باعتماد مبادرة سياسية من أجل إعادة تشكيل الخارطة الحزبية وخلق قوّة سياسية وسطيّة بالتفاعل مع المبادرات المعلنة وبالانفتاح على الأطراف السياسية المختلفة على قاعدة الالتزام بالمبادئ التي تأسس عليها حزب الإصلاح والتنمية والوفاء لأهداف الثورة المجيدة في القطع مع الاستبداد والفساد. ومواصلة الحوار الذي بدأ مع أحد مكونات الترويكا الحاكمة على نفس هذه الأسس.

وإضافة إلى مشاكل التشابه والتشتت، لا يجب أن نُغفل عناصر أخرى موضوعية وذاتية لا تساعد على تطوير المشهد السياسي ببلادنا. فالأحزاب لا تتمتع بتمويل عمومي، ممّا يُضعف مقدرتها. كما أنه لا يوجد قانون أحزاب ناضج ومتطور. ولا ننسى أن الأحزاب السياسية قبل الثورة كانت في سجن كبير ولم يسمح لها بالعمل السياسي الحقيقي، ولم تتطور قدرتها على العمل في مناخ من الحرية. وربما الذي صلح في فترة المعارضة كمناضل قد لا يصلح لمرحلة البناء. فمقتضيات مقاومة القمع غير مقتضيات البناء الديمقراطي وتحقيق التنمية. وأن أمراض الأحزاب السابقة للثورة ما زالت مستمرة بعدها. وفي مقدمة هذه الأمراض الزعامتيّة وضعف الديمقراطية داخل الحزب نفسه والعقلية الغنائميّة وغياب القدوة وعدم التفريق بين التنافس والعداوة وانبتات السياسيين عن الواقع المعيش لمن يدافعون عنهم. يُضاف إلى ذلك عدم توفر التقاليد الديمقراطية والمنابر التي تسمح للمواطن بالتعرّف على الأحزاب.

9 (ـ نودّ أن نعرف تقييمك لأداء الحكومة بعد أكثر من 100 يوم من تسلمها لمهامها؟
يبدو أداء الحكومة بعد أكثر من 100 يوم من تسلمها لمهامها غير مقنع رغم ما يُلتمس لها من الأعذار. لا يجب أن نُغفل التركة الثقيلة لعقود الاستبداد والفساد والظروف الصعبة التي تشكلت فيها هذه الحكومة من توتر اجتماعي ومؤشرات اقتصادية سلبية ظهرت في الأشهر الأخيرة من حكومة السبسي، ولا ننكر ما يُظهره الفريق الحكومي من جدّية في العمل وتحمّس للاقتراب من مشاغل الناس وشفافية في الأداء ورغبة في التطوير. لكن في المقابل لا بدّ من تسجيل ما أظهره هذا الفريق إلى حد الآن من قلة خبرة في معالجة أهم المشاكل. فهو لم يكشف عن أية مؤشرات على انطلاق حلّ المعضلات الكبرى وعلى رأسها التشغيل والتنمية الجهوية وغلاء الأسعار، بل إنه تأخر في معالجة القضايا العاجلة وفي مقدمتها ملفات جرحى الثورة وعائلات الشهداء والعدالة الانتقالية. كما انه لم ينجح في طمأنة مُخالفيه وفي إدارة حوار سياسي بات متأكدا. وما عدا التحسن النسبي في الوضع الأمني العام، تبدو الاوضاع على حالها أو تزداد سوءا. ولعل عدم تحديد الحكومة لموعد الانتخابات القادمة وعدم الافصاح عن روزنامة وطنية للاستحقاقات السياسية زاد في التوتر السياسي، وفي الاتهامات المتبادلة بين المعارضة والحكومة.
ربّما نلتمس بعض الأعذار لهذه الحكومة التي يبدو أنها تمسك بمقاليد الحكم ولا تمسك بالسلطة بعد. فمظاهر استضعاف الدولة مازالت منتشرة في مختلف الاوساط والمجالات. والهشاشة السياسية وعدم التسليم للحكومة بالسلطة في ظل غياب عقد اجتماعي جديد، وفي مناخ من استمرار وهج الثورة ومطالبها، قد تكون كلها عوامل لا تساعد الحكومة. وعموما يمكن أن نعتبر المائة يوم الماضية مهلة ليقوم كل وزير بتشخيص وضع وزارته، ولكي يمسك جيدا بالملفات، وأعتقد أنه بعد المائة يوم هذه لن يمهل الشعب الحكومة أكثر، إذا لم تتقدم ببرامج واضحة ومُقنعة، قابلة للتنفيذ والقيس.
ولعل ما أعلن في الأيام الأخيرة من عزم على وضع عقد اجتماعي جديد يبدأ بحوار مع ممثلي الأعراف والشغالين والحكومة، وما يعدّ له لايجاد هيئات تفسح المجال للحوار السياسي خارج المجلس الوطني التأسيسي، إلى جانب ما تضمنه برنامج الحكومة في الميزانية التكميلية، من اقتراح تنظيم الانتخابات القادمة يوم 20 مارس 2013 ومن برامج في التشغيل والتنمية الجهوية وتكريس العدالة الانتقالية وضمان الأمن والاستقرار، قد تكون مؤشرات لظهور علامات خضراء على انفراج ما في الفترة القادمة. ونأمل ان تنجح الحكومة، لأن في نجاحها نجاح لكامل المسار وللتجربة التونسية.
0(1 ـ كيف ترى العلاقة بين الديني والسياسي؟
العلاقة بين الديني والسياسي حقيقة قائمة لا يمكن إنكارها سواء في التاريخ القديم أوفي التاريخ الحديث، غير أن تلك العلاقة لا تنفي التمييز بين المجالين، بل إن ذلك التمييز هو أساس الحديث عن تلك العلاقة. وهذه القناعة يمكن الاستدلال عليها بسهولة أكبر في التاريخ الإسلامي. ويكفي أن نستحضر الصراع النظري والعملي حول الإمامة في صدر الإسلام حتى قال الشهرستاني “ما سُلّ سيف في الإسلام قطّ على قاعدة دينية مثلما سُلّ على الإمامة في كل زمان”. وقد اختلف القدماء في تصنيف موضوع الإمامة/ الحكم بين علم أصول الدين وبين الفقه والسياسة الشرعية. ومن جهة ثانية يهمّ في هذا السياق التنبيه إلى الفرق بين الاتفاق على أن الدين حاجة إنسانية فردية واجتماعية لم تخل منه حضارة، وبين الاختلاف حول الحيّز الذي يحتله الدين في الحياة الفردية والاجتماعية من عصر إلى آخر ومن دين إلى آخر.

وبناء على تمييزنا بين الديني والسياسي وعلى تقديرنا بتراجع هيمنة الدين على الحياة في المجتمعات الحديثة تتحدد رؤيتنا للموضوع، التي تختلف عن رؤية تيارات الإسلام السياسي التي نراها تخلط بين المجالين وتصبغ نوعا من القداسة على خطابها السياسي ومواقفها، كما تعمل على تكريس نمط اجتماعي يهيمن فيه الديني بالكامل على الحياة الفردية والعامة، دون إدراك للفارق النوعي بين المجتمعات التقليدية البسيطة والمجتمع الحديث المعقّد. كما تختلف رؤيتنا عن التوجهات اللائكية والعلمانية أيضا التي تحصر الدين في المجال الفردي وتعمل على استبعاده من المجتمع كلية بدعوى فصل الدين عن السياسة.

الدين عامّة، والإسلام على وجه الخصوص، نبع عظيم ومصدر توجيه وإغناء للحياة في مختلف المجالات، ولا يمكن من الناحية العملية الفصل بين الدين والسياسة، ولا ضير في هذه العلاقة. غير أن الخطر يتأتى من الخلط بين الديني والسياسي على نحو ما نلمسه في خطابات بعض الجماعات الإسلامية المتشدّدة، التي يُماهي أصحابها بين وجهة نظرهم في فهم الدين والواقع وبين الحق والحقيقة، مما يجعلهم ينصّبون أنفسهم أوصياء على دين الله تعالى وعلى حياة الناس ومصالح الأمة. فتراهم يتدخلون في خصوصيات غيرهم ويضيقون على الحريات، ويتوعدون المخالفين بل ويعنفونهم أحيانا لفظيا وجسديا، بتُهم الفسق والردة والكفر والعمالة ومحاربة الله ورسوله والسعي في الأرض فسادا وكل ما يبرّرون به عنفهم. ممّا يجعل هذه الخطابات خطرا على البناء الديمقراطي وعلى الاستقرار الاجتماعي. فلا ديمقراطية دون إقرار لحق الاختلاف وإطلاق للحريات الفردية والعامة وضمانهما، وتكريس لمُواطنة حقيقية قائمة على مساواة فعلية، وصبغة تعاقدية لدولة لا وصاية فيها لجهة على الآخرين تحت أي عنوان، وتنافس سياسي يُستبعد فيه الدين من دائرة الصراع وتُنزع فيه القداسة عن أي خطاب.
1 1 ( ـ كيف تنظرون إلى مطلب التنصيص على الشريعة مصدرا للقوانين في الدستور الجديد؟
يبدو لي أن مطلب التنصيص على الشريعة مصدرا للقوانين في الدستور الجديد، باختلاف صيغه المُقترحة، هو تعبير خاطئ عن هواجس مشروعة وردّ فعل غير مناسب عن صراع فكري واستقطاب ايديولوجي متنامي بعد الثورة. فالذين عانوا من التضييق على الحياة الدينية في عهد المخلوع خاصة، والذين يرون في تشنّج بعض النخب تجاه المسائل الدينية أو الثقافة العربية الإسلامية ببلادنا، تُساورهم مخاوف جدّية حول المستقبل، لذلك يرون في دسترة هذا المطلب ضمانا لعدم تكرار تجارب الماضي. وأنا أتفهم هذه الهواجس لكن لا أشاطرهم مطلبهم ولا أراه حلا. لأن الاضطهاد في السابق سببه الاستبداد في الممارسة وليس الدستور. كم أن التنصيص على الشريعة مصدرا للقوانين في دساتير بلدان عربية عديدة لم يحلّ المشاكل ولم ينه الاعتراضات على الحكم. هذا إضافة إلى أن مصادر القانون متعددة بالضرورة ولا يمكن حصرها في مادة دستورية وليس موضعها الدستور أصلا. وإذا استحضرنا الخلافات القائمة حول مفهوم الشريعة والتأويلات المتعددة لآيات الأحكام في القرآن والسنة، نقول بان هذا التنصيص غير ممكن، ويخلق مشاكل متعددة في المستقبل، لان الدستور يُبنى على مسائل مشتركة وتوافقية وليس على مسائل خلافية.

وأعتقد أن التمسك بصيغة الفصل الأول لدستور 1959 كاف لطمأنة الذين تساورهم هواجس حول الهوية الوطنية، وأن السلطة التشريعية المنتخبة ديمقراطيا في مجتمعنا العربي الإسلامي، لا بد أن تراعي عقيدة الأغلبية وتعاليم دينهم في التشريعات المختلفة، وليس في ذلك ايّ مسّ من مدنيّة الدولة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* حوار منشور بالعددين 1و2 بتاريخ 6 و20 أفريل 2012 من مجلة “الإصلاح” الالكترونية التي يديرها السيد فيصل العش Alislah.mag@gmail.com

مشاركة
    0 Comments

    No Comment.

    %d مدونون معجبون بهذه: