مأزق قرطاج 2.. هل بدأ الزمن الانتخابي لاستحقاق 2019؟         

 

تأجّل أكثر من مرّة التوقيع على وثيقة قرطاج 2 التي أعدّها خبراء مختلف الأطراف الحزبية والمنظمات الوطنية المشكّلة لحكومة الوحدة الوطنية. فبعد تذليل الخلافات حول المسائل الاقتصادية والاجتماعية، لم يعد سرّا أنّ خلافا سياسيا حادّا حول طبيعة الحكومة المطلوبة لتنفيذ المقترحات ومصير يوسف الشاهد كان وراء الـتأجيل الأخير،  وصار حاسما في مستقبل توافق أطراف الوثيقة. ففي حين أفصح الاتحاد العام التونسي للشغل عن اشتراطه في التغيير الحكومي المزمع إجراؤه رئيس حكومة جديدة وهدّد بالانسحاب من الوثيقة إذا لم يتمّ إقرار ذلك بها، تذهب أطراف أخرى إلى الإبقاء على الشاهد ضمانا للاستقرار السياسي المتأكّد في هذه المرحلة الحرجة التي يمرّ بها الاقتصاد الوطني خاصة، والاكتفاء بتعديل في الحكومة. وتفيد بعض التسريبات أنّ رئيس الجمهورية الذي يرعى حوار قرطاج، بات أميل إلى الإبقاء على الشاهد، مع تغيير في تركيبة الحكومة وتقليص عدد  أعضائها. ومع الاختلاف في هذه النقطة أساسا ونقاط أخرى أقلّ أهمية، يبدو أنّ الجميع متفقون على التنصيص بالوثيقة على أنّ أعضاء الحكومة غير معنيين بالترشّح للاستحقاقات الانتخابية لسنة 2019 الرئاسية والتشريعية، وأنّهم سيتفرغون لإنجاح برنامج الإنقاذ الاقتصادي. فهل دخلنا بهذا التنصيص المعلن الزمن الانتخابي لسنة 2019؟ وهل تؤشر الوضعية المأزقيّة لوثيقة قرطاج 2 على حصر الخلاف باتجاه توافق محتمل يصعب أن لا يقع تحت تأثير الزمن الانتخابي لسنة 2019؟

الزمن الانتخابي تعبير مجازي لا علاقة له بالروزنامة الانتخابية الرسمية التي تضعها الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، يُستعمل للدلالة على تأثّر مختلف المسائل والأجندات في المرحلة القادمة برهانات الاستحقاق الانتخابي لسنة 2019 خاصة الرئاسية منه. وليس التنصيص المشار إليه أعلاه في وثيقة قرطاج 2 سوى عينة على ذلك. كما تضمّن القسم السياسي من الوثيقة حسب التسريبات تنصيصا على تشكيل لجنة للتشاور وإعداد مشروع لتنقيح القانون الانتخابي يحظى بأوسع وفاق، إضافة إلى مراجعة معايير اختيار أعضاء الهيئات الجهوية للانتخابات.

وهكذا نتبيّن مرّة أخرى أنّ المسألة السياسية، على صغر الحيز الذي أخذته بالوثيقة، تظلّ ذات أولوية. فلجنة الخبراء استغرقت وقتا طويلا نسبيّا في وضع مقترحات عملية للإنقاذ بمعالجة المسائل الاقتصادية والاجتماعية الحارقة وإنجاز الإصلاحات الكبرى المتأكدة، استطاعت تذليل الخلافات على هذا الصعيد، ولو بإلغاء بعضها، وبدت كثير من مقترحاتها حثّا على تنفيذ مشاريع معطلة أو تفعيل قرارات اتخذتها الحكومة الحالية ولم تمض فيها بعيدا، لكنّ اللجنة وجدت صعوبة حقيقية في المرحلة الأخيرة في الاتفاق حول المسألة السياسية. فبعد التوافق على التنصيص على عدم ترشح أعضاء الحكومة المقبلة لانتخابات 2009 التشريعية والرئاسية، أصرّ اتحاد الشغل خاصة على إضافة ما يفيد ضرورة تغيير رئيس الحكومة، وهو ما لم يجد توافقا.

ويبدو الشرط الأوّل  بعدم الترشح المتّفق عليه، غير ديمقراطي ولا متعارف عليه في العالم، لكنه يظلّ معلّلا منطقيا في تجربة انتقال ديمقراطي مخصوص بتونس.  وقد سبق اعتماد هذا الشرط في حكومة الباجي الأولى سنة 2011 وفي حكومة المهدي جمعة في سنة 2014. فالحاجة متأكدة إلى تفرغ الحكومة لإنجاح برنامج الإنقاذ الاقتصادي خاصة، وهذا ما سبق أن أشار إليه خلال الصائفة الماضية  رئيس حركة النهضة الشيخ راشد الغنوشي في تصريح مشهور له حول رئيس الحكومة الحالية، حين اقترح أن يعلن النأي بنفسه عن الأجندة الانتخابية لسنة 2019، جوابا على ما دار آنذاك من احتمال تغييره على رأس الحكومة. وها أنّ ما أثار ضجة آنذاك قد صار مقبولا الآن بل وتوسّع ليشمل كافّة الأعضاء وليس رئيس الحكومة فقط.

أمّا الشرط الثاني المختلف فيه المتّصل بضرورة تغيير رئيس الحكومة، فيبدو غير معلّل بما يكفي، ويرى فيه البعض مسّا بالاستقرار السياسي الذي تحتاجه البلاد  في هذه المرحلة الدقيقة، لتحسين شروط التفاوض مع الجهات المالية المقرضة والمانحة، والمضيّ في الإصلاحات الكبرى التي تأخّرت كثيرا، واستخلاصا من تجارب سابقة في تغييرات متتالية للحكومات، أضاعت وقتا على البلاد دون أن تحقّق المأمول منها. فقد تغيّر رؤساء الحكومات ولم يتغيّر الوضع إيجابيا بل ازداد سوءا. ومهما كانت الانتقادات لأداء حكومة الشاهد، فإنّه يُسجّل لها بعض النجاحات لا سيما في أولوية مكافحة الإرهاب وهزمه، وتحسين مؤشر التنمية الوطني الذي تجاوز مؤخرا 2.5 %  لأوّل مرة منذ سنة 2015، إضافة إلى النجاح في تأمين الانتخابات البلدية.

من جهة أخرى يبدو أنّ في تنفيذ الاتحاد العام التونسي للشغل لما أعلنه بوعلي المباركي من احتمال الخروج من وثيقة قرطاج 2، التهديد الحقيقي للاستقرار السياسي، فضلا عن أن تحذو بعض المنظمات الأخرى حذوه. فلطالما ردّد رئيس الجمهورية نفسه في أكثر من مناسبة، أنّ مشاركة اتحاد الشغل ضرورية ولا معنى لحكومة وحدة وطنية في غياب دعمه لها. وقد تأسّست سردية الاستقرار بعد تغيير حكومة الحبيب الصيد، على  حكومة الوحدة الوطنية المنبثقة على وثيقة قرطاج، مما يجعل انسحاب الاتحاد بعد انسحابات حزبية سابقة أقل وزنا، ضربة موجعة لفكرة الوحدة الوطنية والاستقرار. فضلا عمّا سيسبه ذلك لاحقا من احتمالات تصادم بين الحكومة والاتحاد، ستكون لامحالة من أهم نتائجه تعطيل الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية التي تظل أولوية وثيقة قرطاج 2.

تضمّنت وثيقة قرطاج2 ، كما أفادت تصريحات إعلامية لعديد الخبراء المشاركين في صياغتها،  مقترحات عملية هامة في المجالين الاقتصادي والاجتماعي أساسا، لتحسين مناخ الاستثمار والتشجيع عليه ودفع نسق التنمية، وتحسين المناخ الاجتماعي والحدّ من التضخّم وغلاء الأسعار، وتحقيق التوازن للمالية العمومية ومحاربة الفساد وجودة الحوكمة وإنجاح الإصلاحات المتأكدة في المؤسسات العمومية خاصة. وإذا كانت المقترحات متوقّفة على الفريق الحكومي القادر على تجسيمها وإنجاحها، فإنّ هذا الأخير أيضا متوقّف على درجة الإسناد السياسي الضروري من الأطراف الممضية على الوثيقة. لذلك يبدو من المهمّ جدّا أن يستمرّ التوافق بين أطراف وثيقة قرطاج وأن يتوسّع إن أمكن إلى غيرهم.

فهل ينجح مرّة أخرى راعي حوار قرطاج السيد الباجي قائد السبسي بحنكته المعهودة، في اجتماعه المرتقب برؤساء الأحزاب والمنظمات الوطنية، في تطويق الخلاف حول رئاسة الحكومة خاصة وإخراج الوثيقة من المأزق الذي تردّت فيه وإيجاد التوافق المطلوب لاستمرار حكومة الوحدة الوطنية؟ ففي تونس تشتدّ الأزمة لتنفرج لاحقا. لكن يبقى الأهم من ذلك كلّه هل ينجح التغيير الحكومي المنشود في تحقيق الإصلاحات الكبرى التي لم تعد تحتمل التأجيل؟

 

*منشور بجريدة الرأي العام، العدد 58، تونس في 24 ماي 2018.

 

مشاركة
    0 Comments

    No Comment.

    %d مدونون معجبون بهذه: