لا هم إصلاحيون..ولا وسطيون ..ولا ديمقرطيون.. ولا هم يفرحون
كان النقد في مرحلة سابقة مركّزا حول ادّعاء صفة “الإسلامية” أو احتكارها، ممّا اضطرّ حركة الاتجاه الإسلامي نهاية ثمانينات القرن الماض إلى تغيير تسميتها إلى النهضة، ولم تسلم هذه التسمية أيضا من الجدال والنقد. واليوم تدّعي أحزاب تونسية عديدة أنّها “إصلاحية” أو “وسطية” أو “ديمقراطية”، وتدعو إلى التوحّد على هذا الأساس في مواجهة حزب النهضة، الذي ينزعون عنه تلك الصفات ضمنيا. وبعيدا عن منطق التخوين والتكفير والشيطنة، وبحثا عن آفاق أرحب للخطاب الحزبي، يحقّ لنا أن نتساءل معرفيا وسياسيا إلى أيّ مدى تصحّ مضامين تلك الصفات في حقّ مدّعيها؟ وهل يحقّ لهم احتكارها ونفيها عن خصمهم؟
كم يتردّد في خطابات أحزاب تدّعي نَسَبًا دستوريا أو يساريا أو حتى ليبراليا، أنّها ذات مشروع مجتمعي مخالف لمشروع حزب النهضة، وأنّها سليلة الحركة الإصلاحية التونسية، وأنّها استمرار للمدرسة البورقيبية. وحين تتأمّل في مسارات قيادات تلك الأحزاب، ومواقفهم السابقة والآنية، وخطاباتهم المعلنة والمضمرة، لا تقف لهم على شواهد تُسعفهم في ادّعاء النسب للمدرسة الإصلاحية.
فمنذ خير الدين باشا حتى محمد الطاهر بن عاشور، اشتهرت الإصلاحية التونسية بمنحاها في “الاقتباس” من الغرب بما لا ينقض الهوية والسعي إلى “التوفيق” بين الإسلام والحداثة. وحتى الزعيم بورقيبة سجّل له التاريخ مواقفه في الدفاع عن الحجاب ورفض التجنيس في الفترة الاستعمارية انتصارا للهوية العربية الإسلامية، وحرصه إبّان الاستقلال على تحرير المرأة وتطوير الأسرة، على أن تكون أحكام مجلة الأحوال الشخصية متوافقة مع اجتهادات إسلامية مهما تعدّدت مذاهبها الفقهية. وكان خلال حكمه مواظبا على أن يخطب في المناسبات الدينية وينتصر لمناحي تجديدية في فهم الإسلام، مهما أثارت من جدال.
وحين تقول حركة النهضة أنّها تعمل على الجمع بين الإسلام والديمقراطية، و التوفيق بين الهوية العربية الإسلامية التاريخية، وبين الحداثة باعتبارها هوية جديدة، تبدو أقرب إلى استمرار المدرسة الإصلاحية بحسب مقتضيات كل سياق، في حين يمارس عليها خصومها المشار إليهم أنواع الملاحقة الفكرية والسياسية باسم المدنية، في خطابات وموضوعات ظلّت مسقطة على بيئتنا مهما ادّعت من “تونسية”.
وكم تبدو المفارقة أكبر حين يدّعي أصحاب الشطط في المواقف الفكرية والسياسية، وذوو الانتماءات الاجتماعية إلى الأوساط المرفّهة، أنهم قوى وسطية، دون أن يحدّدوا دلالة وسطيّتهم، وأطراف يمينهم ويسارهم. تماما كما يبالغون في وصف أنفسهم بالديمقراطيين، وهم ينكرون حرية مخالفيهم ويستقوون بالدولة في قمع من يضيقون بوجودهم، وينتصرون للتحديث القسري، ويزدرون بالمواقف والتعبيرات التي لا تروق لهم، وينقسمون على أنفسهم حزبيا وتنظيميا، بسبب ضعف الديمقراطية داخلهم.
وكيف لمجموعات أيديولوجية أو سياسية صغيرة، أن تدّعي الوسطية أو تحتكرها، بل تنفيها عن أحزاب عريقة أو ذات امتداد شعبي غير خاف، على غرار الحزب الدستوري سابقا أو حركة النهضة حاليا. فالأحزاب الكبيرة، خاصة حين تشارك في الحكم وتتوسع شعبيتها، تكون أقرب للتعبير عن الوسط الاجتماعي العريض، وإن عرفت بعض التنوع داخلها. ولا نبالغ حين نقول أن حركة النهضة، بما يختزنه خطابها الثقافي من تعبير عن الوسط المحافظ العريض، وما تحرص عليه في فكرها من نبذ للغلوّ والتطرف، يمينا ويسارا، وما تعكسه الشرائح الاجتماعية الغالبة على منخرطيها، في الأحياء الشعبية والمدن والقرى الداخلية، وما تمثله قاعدته الانتخابية، تبدو بكلّ ذلك أكثر وسطية من المزايدين عليها بهذه الصفة.
يصرّ اليسراويون على أنه “لا حرية للدساترة والخوانجية” كما كانوا ولا يزالون يردّدون في الجامعة وفي تجمعاتهم السياسية إلى اليوم، وتعمل أحزاب مختلفة تدّعي الديمقراطية على إزاحة حزب النهضة الحاكم بالانتخابات بكل الوسائل، بما في ذلك التحريض على التمرّد والانقلابات والاستقواء بالخارج والترويج لخطابات الازدراء والتشويه والتهديد، وبذلك تزداد شكوكنا بديمقراطية هؤلاء. وفي المقابل تتمسك حركة النهضة بنهج التوافق والإدماج في مقابل التنافي والاحتراب، وتدعو إلى المصالحة الوطنية ووحدة الجبهة الوطنية، في مواجهة التهديدات الإرهابية ومساعي الإرباك والفوضى الداخلية والخارجية، وتطوّر ديمقراطيتها الداخلية وتحافظ على وحدتها التنظيمية، فتكون بذلك أقرب إلى الديمقراطية.
وإنّه لمن سريالية مشهدنا السياسي أن يكون عدد الأحزاب بعد ما يزيد عن ثماني سنوات من الثورة 218 حزبا، وأن نسمع عشية الاستحقاق التشريعي والرئاسي، عن مبادرات لتوحيد المقسّم، على غرار اجتماع نجيب الشابي مع حزبه الأصلي “الجمهوري” وتوحيد “مشروع مرزوق” مع “نداء طوبال” و”تحيا تونس” مع “المبادرة” و”حراك المرزوقي” مع “وفاء العيادي” وقس على ذلك.
فمن حق أي حزب أن يختار تسميه وخطابه الدعائي، وأن يدّعي لنفسه ما شاء من الصفات، غير أنّ تأهيل الحياة السّياسية يتطلب مراعاة ثراء المشهد العام وتغذية عنصر التنافس فيه،بعيدا عن الاستقطاب المضرّ، وتقاسم جميع الفاعلين الوعي بالتهديدات والتحديات، والتمسك بالجمهورية وقيمها ومبادئها والحرص على إنفاذ الدستور والقانون. وفي غياب ذلك يبقى الاستبداد جذاّبا للبعض، مقابل عنف جذّاب للبعض الآخر، في مشهد تضيع فيه فرص التحرّك بجاذبية الديمقراطية، ولا يفرح فيه التونسيات والتونسيون بمستقبل أفضل.
ولمّا كان المجال السياسي مجال اجتهاد وتقدير، ولمّا كان التداول الديمقراطي على الحكم مشروطا بانتخابات دورية تعدّدية وشفافة، يكون من الأنسب مراجعة خطابات الشيطنة والتكفير والتحريض والتنافي. فالأحزاب المختلفة لست في صراع وجود بل في صراع أفكار وبرامج، تتأثر وتؤثر. ومنطق التنافي، والعمل على “استئصال المنافس” ليسا من قاموس التنافس السياسي السلمي. وتبخيس الأحزاب وترذيل الحياة السياسية لا يعملان بالضرورة لصالح الديمقراطية، وقد يعملان على تنمية تيارات استئصاليه. فإدارة الصراع السياسي في مناخ ديمقراطي تستوجب الاعتراف بالآخر واحترام آرائه، واستبعاد الاستئصال نهائيا. وإنّ الدرس الذي يستنتجه التونسيون من تجارب عربية موازية، هي التكلفة الباهظة لسياسات المواجهة والفشل الذريع لخطط الاستئصال.
محمد القوماني
*منشور بجريدة الرأي العام، العدد 109، تونس في 23 ماي 2019
https://scontent.ftun3-1.fna.fbcdn.net/v/t1.0-9/61159134_533437163854099_1968798250978770944_n.jpg?_nc_cat=110&_nc_ht=scontent.ftun3-1.fna&oh=734c735370c00e7a70d35e2a684303ee&oe=5D96F7C9