لا معنى للنظام الجمهوري بلا تداول على الحكم

لا معنى للنظام الجمهوري بلا تداول على الحكم

جريدة الموقف ( أسبوعية تونسية)، العدد 274

يكتسي احياء التونسيين للذكرى السابعة والأربعين لإعلان الجمهورية أهمية استثنائية، لأن هذه الذكرى تحل قبل ثلاثة أشهر فقط من الاستحقاق السياسي المقرر ليوم 24 أكتوبر من هذا العام. وهذا الاستحقاق الدستوري الذي يحتدم حوله الجدل يعدّ بلا شكّ أهم مكاسب النظام الجمهوري الذي اختاره غداة الاستقلال أعضاء ” المجلس القومي التأسيسي ” وأعلنوه في جوّ احتفالي بهيج مساء الخميس 25 جويلية 1957 تدعيما لأركان استقلال الدولة وسيادة الشعب وسيرا في طريق النظام الديمقراطي الذي هو وجهة المجلس في تسطير الدستور، كما جاء نص قرار إعلان الجمهورية. فهل تحققت فعلا هذه التطلعات المعبر عنها منذ نحو نصف قرن ؟ وإلى أي مدى سيكون الاستحقاق السياسي لهذا العام وفيا لمبادئ الجمهورية ؟

يمكن القول بدء ودون تفاصيل لا يتسع المجال لذكرها، ان النص الأصلي لدستور الجمهورية التونسية المؤرخ في غرة جوان 1959 جاء مستلهما لأهم مبادئ الجمهورية وأسس النظام الديمقراطي فنص على أن الشعب التونسي هو صاحب السيادة وأقر أهم الحريات الفردية والعامة وفصل بين السلطات الثلاثة التشريعية والتنفيذية والقضائية ومنح التونسي حق الترشح للمناصب العامة والتداول عليها عبر نظام انتخابي عام حر ومباشر وسري.

ما من شك في أن دستور 59 تضمن عدّة نواقص أهمها تقييد ممارسة الحريات والحقوق بعبارات مقصودة تحيل على القانون، والاختلال بين السلطات وعدم اخضاع رئيس الجمهورية والحكومة عامة للمراقبة والمساءلة، وانعدام آلية تضمن دستورية القوانين وقصور الفصول المنظمة للسلطة القضائية عن ضمان استقلال هذه السلطة العامة لكن بصرف النظر عن تلك النواقص وغيرها، يهمنا في هذه المناسبة التوقف عند الفصل 40 من دستور 1959 الذي نصه ” ينتخب رئيس الجمهورية لمدّة خمسة أعوام انتخابا عاما حرا مباشرا وسريا من طرف الناخبين المنصوص عليهم بالفصل العشرين، ولا يجوز لرئيس الجمهورية أن يجدد ترشحه للرئاسة أكثر من ثلاث مرات متوالية “. ولا يخفى على عاقل ما في هذا الفصل من مقصد واضح في تكريس مبدأ التداول على الحكم وضمان هذا التداول الذي هو من صميم النظام الجمهوري عبر الدستور. لكن للأسف الشديد، سرعان ما غدرت الجمهورية في بلادنا، وخابت آمال أعضاء المجلس القومي التأسيسي وكل التونسيين الذين انتخبوهم، حيث استبدل هذا المبدأ في التداول بتشريع الرئاسة مدى الحياة. فقبل انقضاء الولاية الثالثة للرئيس الراحل الحبيب بورقيبة عدّل ” مجلس الأمّة ” سنة 1975 الفصل 40 من دستور 59 وأضاف إليه الفقرة التالية ” وبصفة استثنائية واعتبارا للخدمات الجليلة التي قدمها المجاهد الأكبر الحبيب بورقيبة للشعب التونسي إذ حرره من ربقة الاستعمار وجعل منه أمة موحدة ودولة مستقلة عصرية كاملة السيادة يعلن مجلس الأمة إسناد رئاسة الجمهورية مدى الحياة إلى الرئيس الحبيب بورقيبة “. وبهذا القرار سيء الذكر تم اغتيال الجمهورية حقا وفقد الدستور روحه ورزحت تونس تحت حكم استبدادي ونظام سياسي ليس له من الجمهورية سوى الإسم.

ومرض الرئيس مدى الحياة، وطالت شيخوخته، وصار التونسيون يتندرون بعجزه، وكادت البلاد تنزلق إلى المجهول، فجاء تغيير 7 نوفمبر 1987 معلنا إزاحة الرئيس بورقيبة ومبشرا بإنهاء الرئاسة مدى الحياة واعدا التونسيين بنظام سياسي يليق بوعيهم وتطورهم. تنفس التونسيون الصعداء وتطلعوا غداة ذلك إلى اصلاحات سياسية تحقق آمالهم في الديمقراطية وكان من أهم القرارات المعلنة بعد التغيير، ذات الصلة بموضوعنا في هذا المقال، القانون الدستوري عدد 88 لسنة 1988 المؤرخ في 25 جويلية 1988 والمتعلق بتنقيح الدستور. ومن أهم ما جاء فيه إلغاء الفقرة المتصلة بالرئاسة مدى الحياة بالفصل 40 والتنصيص في الفصل 39 على أنه يجوز لرئيس الجمهورية أن يجدد ترشحه مرتين متتاليتين “. وقد اعاد هذا القرار المعلن في عيد الجمهورية للنظام الجمهوري روحه وفتح آمال التونسيين في التداول على الحكم الذي حددت سنة 2004 بوصفها السقف الأقصى لحصوله.

لكن للأسف الشديد مرة أخرى، وقبل نهاية الولاية الثالثة والأخيرة للرئيس الحالي، اقترحت الحكومة ” إصلاحا جذريا ” واسعا للدستور، لاقى معارضة شديدة من أحزاب المعارضة والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان وهيئات وشخصيات عديدة، إذ اعتبروه معاكسا لمطالبهم في إصلاح الدستور، لكن البرلمان الواقع تحت السيطرة الكاملة للحزب الحاكم أقر تلك التعديلات التي اقترحتها الحكومة وتمت تزكيتها في استفتاء نظم للغرض يوم 26 ماي 2002. ويهمنا في هذا السياق التأكيد بالأساس في التعديلات الجديدة للدستور على إلغاء تقييد ولايات رئيس الجمهورية بالفصل 39 وجعلها قابلة للتجديد دون تحديد، وإضافة قيود جديدة على الترشح لهذا المنصب بالفصل 40 الذي اشترط تقديم المترشح لرئاسة الجمهورية من قبل عدد من أعضاء مجلس النواب ورؤساء المجالس البلدية حسب الطريقة والشروط التي يحددها القانون الانتخابي والذي ينص بدوره على ضرورة تأمين التزكية من ثلاثين نائبا أو رئيس بلدية. كما حدد الفصل 40 سن المترشح للرئاسة بأربعين سنة على الأقل وخمس وسبعين سنة على الأكثر، ونص الفصل 41 على ما يلي ” يتمتع رئيس الجمهورية أثناء ممارسته مهامه بحصانة قضائية، كما ينتفع بهذه الحصانة القضائية بعد انتهاء مباشرته لمهامه بالنسبة إلى الأفعال التي قام بها بمناسبة أدائه لمهامه “. هذا فضلا عن السلطات الواسعة جدّا التي أعطتها التعديلات الجديدة لرئيس الجمهورية على حساب السلطتين التشريعية والقضائية. وبهذه التعديلات التي سميت اصطلاحات جوهرية انتكس النظام الجمهوري وخابت آمال أجيال الكفاح التحريري والاستقلال في التداول السلمي على الحكم ببلادنا. ويكفي أن نتساءل عن معنى الجمهورية في ظل دستور يجيز – افتراضيا على الأقل – أن يبقى الواحد رئيسا لهذه الجمهورية مدّة أربعين عاما متتالية ( من سن الأربعين إلى الثمانين ) ؟ وأي معنى لعلوية الدستور إذا كان خاضعا لتعديلات متتالية ذات أهداف خاصة بالفريق الحاكم ومتعارضة مع مبادئ الجمهورية ومع غاية الدستور نفسها في تقييد سلطة الحاكم بقانون ؟ وما أهمية انتخابات لا تمثل رهانا تنافسيا حقيقيا ؟

وحتى لا نكون متشائمين يمكننا التساؤل عن الصيغ العملية والخيارات التي يمكن أن نجعل بها إحياءنا للذكرى السابعة والأربعين لإعلان الجمهورية مناسبة لتصحيح المسار والتمسك بقيم الجمهورية والدفاع عنها تدعيما لاستقلالنا وحريتنا وتكريسا لسيادتنا السياسية وسيرا في طريق الديمقراطية كما عبّر عن ذلك أعضاء المجلس التأسيسي سنة 1957 وطبقا لما يتطلع إليه عموم التونسيين ونخبهم الحية في هذه المرحلة. ولا شك أن في مقدمة تلك الصيغ وبمناسبة الاستحقاق السياسي المقرر نهاية هذا العام، التأكيد على مبدأ التداول السلمي على الحكم عبر انتخابات حرة ونزيهة، ودعم حق جميع الكفاءات الوطنية في الترشح للمناصب العامة ومن بينها رئاسة الجمهورية، والدعوة إلى ندوة دستورية وطنية تشارك فيها كل الأطراف السياسية وممثلي المجتمع المدني دون إقصاء لإقرار الاصطلاحات الدستورية والتشريعية والسياسية اللازمة لضمان مناعة بلادنا واستقرارها وتنميتها.

محمد القوماني

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مقال منشور بجريدة الموقف ( أسبوعية تونسية)، العدد 274  بتاريخ 23  جويلية 2004

مشاركة
    0 Comments

    No Comment.

    %d مدونون معجبون بهذه: