لاشيء يبرر التفتيش في أفكار الناس
لاشيء يبرر التفتيش في أفكار الناس
جريدة الموقف (أسبوعية تونسية) العدد408 بتاريخ 24 أفريل 2008
تتعدد الروايات من قبل المُستجوبين خلال الأسابيع الأخيرة بمراكز الأمن العمومي ، ممن تم إيقافهم بالطريق العام أو وُجهت لهم استدعاءات أو تمّت مداهمة منازلهم، الدالة على وجود ممارسات منفلتة من القانون، تستهدف التفتيش في أفكار الناس والتدخل في حياتهم الخاصة جدا، على خلفية التحريات الأمنية و ملاحقة العناصر المشتبه بهم في قضايا الإرهاب .
وإضافة إلى ما في هذه الممارسات من انتهاك فاضح لحقوق الإنسان وتضييق لمجالات الحريات الفردية و العامة ، فان الخشية تتجه إلى عودة أساليب في المتابعة و الاستجواب و توجيه التهم و معاقبة المواطنين، كانت لها أسوأ النتائج في توسيع دائرة المظالم و شل حركة المجتمع خلال الحقبة الماضية من تاريخ تونس المعاصر. وهذا ما يستدعي من الجميع الانتباه و الحذر و الوقوف بحزم ضد تلك الأساليب .
أفاد احدهم ممن تم إيقافهم بالطريق العام ، أن أعوان الأمن الذين استجوبوه سألوه: هل تصلي أم لا ؟ فلما أجاب بنعم، طلبوا منه أن يؤدي حركات الصلاة أمامهم؟ فلما استغرب و رفض سألوه عن مذهبه؟ و ربما أرادوا التصنيف من خلال حركات الصلاة؟
و قال آخر انه استٌجوب حول سبب انتمائه إلى الحزب الديمقراطي التقدمي؟ و ما هي الأفكار التي جلبت اهتمامه أكثر من غيرها؟ و لماذا يحرص على العمل السياسي المعارض؟ و نصحوه بالتخلي عن هذا الاختيار.
وكان بعض الشباب ممن زاروا معرض الكتاب الأخير و اقتنوا بعض المؤلفات، يستدعون عند الخروج للنظر في مقتنياتهم ويُسأ يلون عن بعض العناوين التي اختاروها ؟ هذا إضافة إلى الأسئلة المتصلة بمواقع الانترنيت التي تتم زيارتها؟ ونوع الملفات الموجودة على الكومبيوتر الشخصي؟ و المواضيع التي يبحث فيها ؟ وغيرها من الأسئلة التي توجّه لمن يتمّ جلبهم من منازلهم، وربما تجلب معهم حواسيبهم و الأقراص المغناطيسية التي بحوزتهم.
لا فائدة في الإكثار من الأمثلة، فقد صارت شائعة و معلومة، و العبرة في الدلالات و ليست في العيّنات.
فأي معنى لمساءلة مواطن عن أدائه للشعائر الدينية من عدمه؟ و عن صفة الأداء والمذهب الفقهي أو العقائدي؟ و عن المشاغل الفكرية التي تسكنه؟ و عن الكٌتّاب الذين يقرأ لهم؟ و عن الصفحات التي يطالعها بالإنترنيت؟ لا معنى لذلك سوى التفتيش في أفكار الناس و التدخل في شؤونهم الشخصية البحتة. و تلك ممارسات لا يبيحها القانون و تحظرها شرعية حقوق الإنسان. و لا تدخل في مشمولات أعوان الأمن. فالفكرة، أيّ فكرة ، ليست مجرّمة في حدّ ذاتها ، و لا سلطان على الضمير، ولا حدود لتطلع الفرد للمعرفة. و الإنسان بريء حتى تثبت إدانته، و لا يؤاخذ شخص بشبهة حتى تقوم القرائن، ولا يوجّه الاتهام إلا باستيفاء أركان الجريمة.
فما الذي يبيح لبعض أعوان الأمن بالزي الرسمي أو المدني في بلادنا مثل الأسئلة التي سلف ذكرها؟ و أي وظيفة للنصوص القانونية ، إذا أصبح القائمون على تطبيق القانون يؤاخذون المواطنين على أساس المظاهر و الإشاعات و الهوى؟ و هل الاشتراك في المظهر إذا اعتمد أساسا للتصنيف يعني الاشتراك في الفكر و في الممارسة و في ارتكاب الممنوع؟ و كيف نحصر الأفعال في حدود المسؤولية الشخصية و لا ننزلق إلى العقاب الجماعي المحظور؟
إذا كانت محاكم التفتيش وصمة عار احتفظت بها الذاكرة التاريخية، عن البطش والجبروت و استهداف حرية التفكير في القرون الوسطى الأوروبية، فان عصر الأنوار و ما تلاه من نهضة الغرب و إشاعة مبادئ حقوق الإنسان في العالم لاحقا، تعد مكاسب للإنسانية جمعاء. لذلك نرى أن ما سقناه من أمثلة نعدّها تدخل تحت عنوان التفتيش في أفكار الناس ، ممارسات قروسطية تستفزّ كل ضمير حرّ و كل متطلع إلى النماء و التقدم ، و تستهدف حقوق الإنسان في أهم تعييراتها و أدناها، وهذا ما يستدعي وقفة صارمة من الجميع ، كل من موقعه، حتى نوقف الانحدار ولا نكرر الأخطاء ، و لا نشارك في الرداءة بالصمت و لا نتورّط في المظالم بالتواطؤ. فالساكت عن الحق شيطان أخرس.
محمد القوماني
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* جريدة الموقف (أسبوعية تونسية) العدد408 بتاريخ 24 أفريل 2008