كيمياء التوافق تتعطّل..والأزمة السياسية تحتدّ.. أيّة سيناريوهات للمستقبل؟

 

لم يتوفّق الفاعلون السبعة الكبار المجتمعون في قرطاج صباح الإثنين 16 جويلية 2018 إلى حلحلة الأزمة السياسية التي تراوح مكانها منذ نحو ثلاثة أشهر. كما لم يوفّق رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي في حديثه المنتظر منذ مدّة، والذي استبق الاجتماع مساء الأحد، في طمأنة التونسيين وخلّف على غرار كلمة رئيس الحكومة يوسف الشاهد منذ نحو شهرين، مزيدا من الغموض والمخاوف. فهل تعطّلت كيمياء التوافق التي صنعت الاستثناء التونسي في الربيع العربي؟ وماهي أهمّ تداعيت استمرار الأزمة السياسية وسيناريوهات الخروج منها؟

كان اجتماع الفاعلين السبعة وهم الرئاسات الثلاث وحزبي النهضة والنداء ومنظمتي الشغالين والأعراف، إعلانا عن استئناف الحوار حول الأزمة السياسية المعلّق منذ 25 ماي الماضي. وكان ذلك استجابة لدعوات حركة النهضة المتكرّرة إلى مواصلة الحوار بصيغة أو بأخرى. ولذلك ثمّن المشاركون دعوة رئيس الجمهورية. وكانت الإضافة في دعوة رئيس الحكومة ورئيس مجلس نواب الشعب. عبّر الباجي بوضوح أكبر من أيّ وقت مضى عن رغبته في تغيير عميق للحكومة وذكّر كعادته بأنه السلطة الأكثر شرعية، اعتبارا لانتخابه المباشر من أغلبية الشعب التونسي صاحب السيادة. ودافع الشاهد عن محصّلة حكمه وأعطى بسطة عن الإنجازات والمؤشرات الإيجابية والملفات الكبرى المفتوحة التي تستوجب المواصلة والمتابعة من خلال الاستقرار الحكومي، مع الإشارة إلى الاستعداد للالتزام بمقترحات وثيقة قرطاج2 وإجراء التعديل الحكومي المستوجب. وفضّل محمد الناصر الصمت الكامل والحضور الباهت. أمّا الغنوشي والسبسي الإبن والطبوبي وماجول فتمسك كل طرف منهم بآرائه السابقة تقريبا. وتخلّل الاجتماع بعض التوتر خاصة في الملاسنة بين حافظ ويوسف. ولم يجد مقترح الغنوشي في نهاية الاجتماع التجاوب الكافي. فقد دعا إلى التعجيل بسدّ الشغور في الحكومة وإجراء تعديل إن لزم والذهاب سريعا إلى البرلمان لطلب المصادقة عليه، حتى يكون اختبارا للحكومة يمكن البناء عليه مستقبلا في معالجة الأزمة. وهو ما أكّده بيان المكتب السياسي للحركة لاحقا.

انفضّ اجتماع السبعة دون توافق على حلّ ولا على موعد قادم. ولم تكن وسائل الإعلام بانتظار المشاركين الذين لم يدلوا بتصريحات كالعادة. ولم تكن دعوة الطبوبي للباجي والغنوشي، صانعي توافق باريس 2013، إلى تحمّل مسؤوليتهما في المقام الأول في التوصّل إلى توافق حول موضوع الخلاف، صدى يُذكر. كما لم تنجح عبقرية الرئيس في إيجاد مخرج للأزمة التي طالت. وكأنّ “كيمياء التوافق بين الشيخين” التي تحدّث عنها البعض سابقا، تعطّلت نهائيا. وربّما كان حوار الرئيس على قناة نسمة الذي استبق لقاء قرطاج قد شوّش على الاجتماع أو صادر مخرجاته،  ولم يساعد على التوصّل إلى حلّ توافقي. ولذلك طالب بعض المشاركين تأجيل الموعد بعد الحوار لكن دون جدوى.

لا معنى للتمسّك بالحوار من مختلف الأطراف إذ لم يحتمل امكانية مراجعة الموقف والتفاعل مع الأطراف الأخرى إيجابيا. ومهما كانت دوافع مختلف المواقف ومهما حققت مختلف الأطراف من مكاسب سياسية من خلال مواقفها المعلنة إلى حدّ الآن، فإنّه لا أحد يضمن صوابية الموقف إلى ما لا نهاية ولا استمرار المكاسب، إذا تغيرت المعطيات ولم يتمّ تعديل الموقف. فحزب النداء الذي بادر بإعلان انتهاء التوافق مع حركة النهضة وصعّد في خطاب الاشتباك معها، خسر كثيرا على مختلف الواجهات، في البلديات كما في التماسك الداخلي والتموقع السياسي. وعليه أن لا ينسى بأنّه المتسبّب الرئيسي في الأزمة السياسية، بل هو عنوانها. فالصراع داخل النداء كما هو معلوم، ألقى بظلاله على الحكم. فهو الحزب الأول الفائز في الانتخابات والمشكّل لمنظومة الحكم والقائد لها. وحركة النهضة الحريصة على استمرار نجاح الانتقال الديمقراطي، والتي تنأى بنفسها عن الصراع الداخلي للنداء، وتفضّل الاستقرار السياسي عن المغانم في حكومة جديدة، يؤهلها إليه فوزها في الانتخابات البلدية وتحالفها مع الأطراف الراغبة في إزاحة الشاهد، عليها أن توازن بين مبدئية الموقف وتحقيق الأهداف المرجوّة منه. فالصراع المفتوح بين رأسي السلطة التنفيذية، والذي انتقل من سوء تفاهم أو غموض في العلاقة بين الباجي والشاهد، إلى مواجهة سياسية معلنة في وسائل الإعلام، لن يساعد على الاستقرار المنشود. والشاهد الذي ينخرط أكثر فأكثر في المعركة الحزبية وفي أجندته السياسية الخاصة، لن يضمن التفرّغ لمواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية لتونس، والنأي بحكومته عن التجاذبات السياسية والانتخابية في أفق 2019 كما تريد النهضة. ودعم الشاهد في محصّلة الموقف السياسي من الأزمة الحالية، يجعل النهضة في مواجهة مع رئيس الجمهورية ويفكّ التوافق معه عمليا، فضلا على أن يفهم بأنّه انحياز في الصراع الداخلي. والأوضاع الاقتصادية الصعبة والملفات الاجتماعية المتفجرة لا تتيح إخراج منظمتي الشغالين والأعراف من التوافق الوطني والحزام السياسي للحكم.

إذا تعطّلت كيمياء التوافق السابق، فإن ديناميكية الحياة السياسية والاجتماعية لن تتوقف. ولا خيار أمام الفاعلين الرئيسيين إلا البحث عن التوافق مجدّدا. ولذلك حرص رئيس الجمهورية على استحضار التوازنات في حواره وأكد أن لا مجال في المعادلة السياسية التي يفضلها لإلغاء حركة النهضة ولا لإلغاء الأطراف المخالفة لها في الموقف من بقاء الشاهد. ومهما ورد في حوار الرئيس من أخطاء اتصالية أو شبهة انحياز للعنصر العائلي أو غيرها من المؤاخذات في خطابه، فإنّ فضائل الباجي على نجاح التجربة التونسية ومساهمته البارزة في اعتماد التوافق مع خصمه السياسي حركة النهضة أساسا، لا يجب أن تنسى بحال وقد تجب غيرها من الهفوات. وإن تفلّتت من أيدي الرئيس بعض خيوط  العملية السياسية التي بدأها في حوار قرطاج2، فإنه لا مصلحة وطنية في مزيد إضعاف موقع الرئيس المنتخب من الشعب، وأنّ التوافق على حلّ يرعاه، أهم من الموقف في حدّ ذاته. ولذلك لا ينفك رئيس حركة النهضة يؤكد على أهمية التوافق في التجربة التونسية ودور رئيس الجمهورية فيه.

ويبقى الخطر الأكبر  أن تفتح الأزمة التي احتدت بالمستجدات الأخيرة، على تعطّل حادّ لمنظومة الحكم بما يجعل المطالبة بمراجعة الدستور مشروعة ومتأكدة، لكن في مرحلة لا تتيح الاستجابة لذلك، بما يزيد في تعقيد الأمور والتدحرج نحو المجهول. ولم يعد مستبعدا الدعوة إلى انتخابات تشريعية مبكرة، رغم اقتراب الموعد الدستوري لها، إذا ذهب الشاهد إلى البرلمان بالصيغة التي تقترحها النهضة  أو بصيغ أخرى يطلبها الداعون لاستبداله أو يتيحها الدستور، وتعذّر جمع أغلبية مطلوبة معه أو ضدّه. وفي تلك الحالة، لا بدّ من مراعاة أزمة هيئة الانتخابات التي لا رئيس لها، وتباين مواقف الأحزاب التي لن تجتمع على  رأي. وفي كل السيناريوهات سنكون في ديناميكية  مسار مشهد سياسي جديد بالكامل،  ستصنعه كيمياء توافق لا غنى عنه، لكن لا أحد يجزم بأطرافه ولا بحظوظ نجاحه.

 

محمد القوماني

*منشور بجريدة الرأي العام، العدد 66، تونس في 19  جويلية 2018.

https://scontent.ftun3-1.fna.fbcdn.net/v/t1.0-9/37419303_2013570712000036_793524130245771264_n.jpg?_nc_cat=0&oh=23ded614d9b7727ebf26159f37c6a191&oe=5BE06394

مشاركة
    0 Comments

    No Comment.

    %d مدونون معجبون بهذه: