كيف تمكنت حركة النهضة من تجنيب تونس مصير بلدان الربيع العربي؟

 

 

تونس- “القدس العربي”:  رغم فوزها في أول انتخابات ديمقراطية في تونس، إلا أن حركة النهضة لم تسعَ إلى الانفراد بالسلطة، بل ابتكرت أساليب جديدة في الحكم في بلد اعتاد على الحكم الفردي لأكثر من نصف قرن.

وقد تكون سياسة مسك العصا من المنتصف “الوصفة السحرية” التي نجحت “النهضة” من خلالها في تجنيب تونس مصير أغلب بلدان الربيع العربي، فقد شاركت الحكم مع عائلات سياسية تعارضها فكريا (يسار الوسط)، كما رفضت إقصاء خصومها من المشاركة في الحياة السياسية، قبل أن تتنازل عن الحكم لتجنيب البلاد الحرب الأهلية، ومن ثم طرحت فكرة “التوافق السياسي” لتقاسم الحكم مع أبرز خصومها السياسيين، وأعلنت أخيرا تحولها إلى حزب مدني بمرجعية إسلامية، مبدية انفتاحها على جميع القوى السياسية والفكرية في تونس.

المرونة السياسية مكنّت النهضة من النجاح

يرى الباحث محمد القوماني، عضو المكتب السياسي لحركة النهضة، أن النجاح الكبير الذي حققته الحركة حتى الآن يعود إلى كونها “تتميز بمرونة سياسية منذ نشأتها، فقد تأثرت بتجارب سياسية عدة في الخارج كما تأثرت باليسار الماركسي في تونس، وطورت معجمها السياسي ومواقفها طبقا للمراحل التي مرت بها تونس، كما أن الثورة أنضجت الموقف السياسي لحركة النهضة، حيث أخذت بعين الاعتبار خصوصية الوضع التونسي وأيضا العوامل الإقليمية والدولية”.

ويؤكد القوماني لـ”القدس العربي” أن النهضة أدركت مبكرا أن خيار الثورة الراديكالية الذي أراده البعض عن طريق قانون تحصين الثورة وتصفية المنظومة القديمة بأشخاصها ومنظومتها القانونية والدستورية وغيرها غير ممكن، “خاصة حين اشتدت الأزمة السياسية في تونس إثر اغتيال الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي، وأيضا بالتفاعل مع ما حصل من انحرافات في المسارات الأخرى وخاصة المثال المصري”.

ويضيف “النهضة أصبحت أشد حرصا على توافق سياسي ينسجم مع مفهوم الانتقال الديمقراطي الذي يقتضي نوعا من المصالحة بين أنصار النظام القديم والمستفيدين من الثورة وخيار التجديد، وفي هذا الإطار جاء لقاء باريس (عام 2013) بين رئيس حركة النهضة ورئيس حركة نداء تونس- آنذاك- الباجي قائد السبسي، ثم استمر التوافق ليشمل حزبي النداء والنهضة (الغريمين في انتخابات 2014) ثم كان هناك مسعى لمصالحة سياسية وفكرية بين ما سمي بالعائلة الدستورية والعائلة الإسلامية، لأن هذا الخيار الأفضل لتثبيت التوافق لكن الأمور تعطلت بسبب الخيارات الأخيرة عقب الانتخابات البلدية والخلافات حول العدالة الانتقالية وغيرها”.

ساهم لقاء باريس أو “لقاء الشيخين”- كما يسميه البعض- في درء خطر الحرب الأهلية في تونس، وحال دون تكرار السيناريو المصري الذي كانت تدعمه أطراف خارجية، ومشهد لتوافق سياسي أمن الاستقرار لتونس طيلة خمس سنوات.
والخصوصية التونسية وفرت التربة الخصبة للتوافق

وبخلاف الأحزاب الإسلامية الأخرى، لا تعتمد حركة النهضة على مرجعية ثابتة أو أفكار جاهزة تحكم مسيرتها من البداية إلى النهاية، فقد طورت الحركة منهجها الفكري والسياسي على مدى نصف قرن، كما غيرت اسمها من “الجماعة الإسلامية” مرورا بـ”حركة الاتجاه الإسلامي” وانتهاء بـ”حركة النهضة”، وذلك للانسجام مع متطلبات المرحلة السياسية.

ويؤكد القوماني أن حركة النهضة قامت بالكثير من المراجعات منذ تأسيسها، كما أن الخصوصية التونسية وفرت التربة الخصبة لفكرة التوافق السياسي التي طرحتها النهضة فـ”فكرة التوافق نلاحظها تجارب عدة كالرابطة التونسية لحقوق الإنسان التي شكلت إطارا لتمثيل جميع العائلات السياسية والفكرية بقطع النظر عن أحجامها الحقيقية في الواقع، أضافة إلى اتحاد الشغل الذي يشكل تجربة ثرية لتعايش تنظيمات وإديولوجيات متعددة. وربما ساهد هذا المناخ حركة النهضة في إدراك مخاطر الانفراد بالحكم في وضع غير مستقر، فنحن نعيش في مرحلة بعد الاستبداد والديمقراطية لم تترسخ الديمقراطية بعد، كما أن مشاكل تونس كثيرة ويصعب أن يتمكن طرف واحد من حلها”.

ويضيف “يبدو أن النهضة فهمت سريعا أن المراحل الانتقالية لا تُدار فقط بقانون الأغلبية والأقلية – أي بمقتضيات صندوق الاقتراع – وإنما تدار بمعطيات سياسية أخرى، ولذلك قبلت الحركة أن يدخل لحكومة الوحدة الوطنية أحزاب غير ممثلة في البرلمان، وحتى القانون الانتخابي التونسي تمت صياغته بحيث يعطي فرصة لأحزاب صغيرة أو شخصيات مستقلة أن تدخل للبرلمان ولو ببعض المئات من الأصوات، ومازال العمل جاريا بهذا القانون لأن الغاية منه هو المحافظة على التعدد وربما هذا لم يتوفر في بلدان أخرى”.

يرى القوماني أن النخبة التونسية تتحمل مسؤولية الإخفاق والنجاح في البلاد “ففي أغلب الحالات استطاعت أن تصل إلى حلول عقلانية وتنقذ البلاد، وهذا ما حدث في الأزمة السياسية عام 2013 حيث تم حل الأزمة عن طريق الحوار الوطني الذي قاده الرباعي (اتحاد الشغل ومنظمة الأعراف وهيئة المحامين ورابط الدفاع عن حقوق الإنسان)، ففي أقصى الحالات تحتدم الأمور ولكنهم ينزعون إلى الحوار العقلاني والتوافق، وربما تُفعل كيمياء التوافق بين الرئيس الباجي قائد السبسي وراشد الغنوشي مجددا ومختلف الفاعلين الأساسيين لتجنيب البلاد مصاعب المرحلة الحالية، وليس اجتماع قرطاج الأخير سوى محاولة أخرى للعودة للحوار”.

رفضت إقصاء الخصوم

يرى رشيد الترخاني، رئيس حزب “جبهة الإصلاح” الإسلامي، أن النهضة التي تعتبر القوة السياسية الأولى والأكثر تنظيما في تونس، عرفت كيف تقرأ جيدا الوضع الإقليمي والدولي، فدخلت في توافق طويل مع خصمها السياسي الأبرز (نداء تونس) لتجنيب البلاد سيناريوهات عدة تبدأ بانقلاب عسكري كما حدث في مصر، أو حرب أهلية كما حدث في سوريا وليبيا.

ويضيف لـ”القدس العربي”: “أعتقد أن هذا الخيار جنب البلاد الكثير من الويلات، ومهّد للحوار الوطني الذي أثمر خروج النهضة من الحكم وتسليمه لأطراف أخرى، حيث اضطرت النهضة لتقديم تنازلات، مدفوعة بالمصلحة الوطنية لأن الوضع السياسي والاقتصادي كان هشا جدا بعد الثورة، والنهضة عرفت كيف تمتص غضب الشارع وتجنب البلاد كوارث عدة كادت أن تسبب بها ما سمي حينها “جبهة الإنقاذ” التي قادتها أطراف مسكونة بحقد إديولوجي على التيار الإسلامي عموما”.

وكان راشد الغنوشي، رئيس حركة النهضة، فسّر أخيرا سبب اعتماد الحركة على مبدأ التوافق ورفض إقصاء الآخرأو الصدام معه، حيث أكد أن التونسيين لم يكونوا بحاجة لتحطيم الماضي و”تعليق المشانق” لرموز النظام السابق لتأكيد وقوع ثورة في البلاد، مشيرا إلى أن التحول من الثورة إلى النظام الديمقراطي تم عبر إسقاط قانون العزل السياسي وتحصين الثورة وكتابة دستور توافقي يُعتبر مرجعا لإدارة جميع الخلافات بين الفرقاء السياسيين.

حسن سلمان

16 يناير 2019

مشاركة
    0 Comments

    No Comment.

    %d مدونون معجبون بهذه: