كلفة اللا توافق ..
لا نجانب الصواب حين نقول أنّه لولا التوافق الحاصل بين أغلب الكتل البرلمانية في الساعات الأخيرة من الجلسة العامة ليوم السبت 28 جويلية 2018، ما كانت تزكية وزير الداخلية الجديد هشام الفوراتي لتحظى ب148 صوتا أو لتتمّ أصلا. وقد تعذّر هذا العدد قبل هذا الموعد بأيام قليلة لاستكمال تزكية أعضاء المحكمة الدستورية العائدين إلى اختيار البرلمان أو لانتخاب رئيس جديد للهيئة العليا المستقلة للانتخابات. فعطّل غياب التوافق هذين المؤسستين الحيويتين في المسار الديمقراطي. ولمّا كان توافق السبت قد تحقق موضوعيا بعد تعطّل كيمياء التوافق الذاتي بين الشيخين وبين الحزبين الكبيرين، فهل يُعدّ ما حصل بديلا عن التوافق أم تأكيدا للحاجة إليه؟ أو هل كان توافقا جديدا بديلا عن التوافق المألوف؟
التوافق يعني التفاهم والتعايش بين المختلفين واستبعاد التنافي والإقصاء، ويهدف إلى الإدماج بدل التهميش. ويقوم التوافق على إدراك المُشترك والبناء عليه وحسن إدارة المختلف، ولا يأخذ ضرورة بموازين القوى الفعلية.
ليس التوافق اكتشافا بعد الثورة، بل صيغة معتمدة ورائجة قبل ذلك. ويكفي أن نستحضر بالمناسبة ما كان يحصل بالرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان منذ تأسيسها وإلى قيام الثورة. فقد كان مصطلح “الكونسونسيس” (Consensus) قبل أن تتعرّب أكثر لغة النخب التونسية، آلية معتمدة في انتخاب الهيئة المديرة الوطنية وضمان تمثيل مختلف العائلات الفكرية والسياسية فيها. وهذا ما أعطى الرابطة مكانة وأكسبها حصانة وجعلها من أهمّ مدارس التعايش الديمقراطي. وقد أثّرت الرابطة بهذا المنهج أحيانا على فضاءات مدنية أخرى وفي مقدمتها الاتحاد العام التونسي للشغل.
بعثرت الثورة للأسف أوراق الأحزاب والعائلات الأيديولوجية التي التقت في مقارعة الاستبداد، وكان توحّدها حاسما في كسب المعركة. فلم تتوفّق الأطراف المنحازة للثورة والمستفيدة منها، في جمع كلمتها وجهودها من أجل بناء الديمقراطية وتحقيق العدالة الاجتماعية. بل تخاصمت وحكمها الاستقطاب الأيديولوجي وتفرّقت كلمتها وذهب ريحها وعادت إلى مربعات التنافي والاحتراب.
وكان الصراع قويّا بعد14جانفي 2011 بصور معلنة وأخرى مخفية، حول تحديد وجهة الثورة التونسية، بين مساري التغيير الجذري وتصفية المنظومة القديمة للحكم بأشخاصها وممارساتها (المصادرة والمحاكمات والعزل وتجريم مدح النظام القديم والتأسيس…)، والانتقال الديمقراطي وما يفرضه من معجم مخصوص وتسريع للإصلاح وتسوية سياسية بين القديم والجديد (الحوار والتوافق والإدماج والمصالحة…). وقد حُسم الأمر بوضوح لصالح المسار الثاني، لكن دون أن يسلّم أطراف المسار الأوّل ودون أن تتوضّح عناصر التسوية الشاملة أو تحسم بين من ينخرطون في المسار الثاني.
وكان لقاء باريس سنة 2013 بين الباجي قائد السبسي وراشد الغنوشي محطّة فارقة في إنقاذ التجربة التونسية من أزمة سياسية حادة تردّت إليها الأوضاع، بعد الاغتيالات السياسية واشتداد الاستقطاب وتضاعف التآمر الداخلي والخارجي على الثورة. وتدعّم التوافق بين الزعيمين، ليشمل حزبي النداء والنهضة المتنافسين الغريمين في انتخابات 2014. فكانت تجربة الحكم المشترك وسرديّة “الاستثناء التونسي” أمام العواصف التي عبثت ببقية تجارب ثورات الربيع العربي. وكان المؤمّل أن يتوسّع التوافق في حكومة الوحدة الوطنية، كما تمّ اشتغال البعض على تحقيق مصالحة تاريخية بين الدستوريين والإسلاميين عموما، بعد عقود من التنافي والصراع، في إطار عدالة انتقالية ومصالحة وطنية عادلة وشاملة.
فقد بدا أنّ الجميع استخلصوا الدروس وطلّقوا معجم التنافي والإقصاء. وأدركوا أنّ الثورة تجبّ ما قبلها، وأنّ صناديق الاقتراع لا تحسم وحدها الشرعية السياسية في المراحل الانتقالية، وأنّ أعباء الإصلاح وتحقيق أهداف الثورة ينوء بحملها طرف واحد مهما كان، وأنّ القانون الانتخابي المُعتمد لا يمنح أغلبية مريحة لأيّ حزب، وأنّ مقتضيات الدستور الجديد واستحقاقات إنجاح المسار الديمقراطي الانتقالي تسوجب أوسع توافق، لتجميع القوى والطاقات في مواجهة التحديات.
تحقّقت مكاسب سياسية للبلاد ولأحزاب الحكم خلال الأربع سنوات الماضية بفضل التوافقن الذي صمد رغم كلّ الفخاخ. لكنّ الأزمة السياسية الأخيرة حول التغيير الحكومي المطلوب في السنة الأخيرة من العهدة الانتخابية، يبدو أنّها تهدّد تلك المكاسب ولا تشي بمستقبل أفضل. فلم يتوفّق الفاعلون السبعة الكبار المجتمعون في قرطاج صباح الإثنين 16 جويلية 2018 إلى حلحلة الأزمة السياسية التي تراوح مكانها منذ نحو ثلاثة أشهر. وانفضّ الاجتماع دون توافق على حلّ ولا على موعد قادم. وجاء اختبار تزكية وزير الداخلية المقترح، فكانت الأجواء قبل الجلسة العامة بالبرلمان وفي بدايتها تدلّ على التباعد في المقاربات واتساع هوة الخلافات واحتداد الأزمة السياسية. وتعدّدت الروايات حول الأساليب غير الأخلاقية والمرفوضة التي حسمت نتيجة التصويت. وبدت “كيمياء التوافق بين الشيخين” وبين الحزبين الأوّلين، التي شغلت المتابعين في الفترة السابقة، معطّلة نهائيا. وبات بسبب تعطّلها مستقبل المحكمة الدستورية والهيئة العليا المستقلة للانتخابات معطّلا وغامضا. وبهما وبغيرهما مما يكلفه اللا توافق، يتعطّل المسار الديمقراطي برمّته وتعود أجواء أزمة ما قبل التوافق.
ومهما كانت نتيجة جلسة اختبار التزكية إيجابية في محصّلتها النهائية، فإنّها لم تنه الأزمة السياسية. فالتوافق داخل كتلة النداء أساسا جنّبهما مزيد الانقسامات وأخرجها من الاختبار موحّدة. والتوافق الموضوعي بين كتلة النهضة الموحّدة وبقية الكتل في إقرار التزكية منحت وزير الداخلية المقترح قوّة معنوية وسندا سياسيا ضروريا في هذه الوزارة وهذه المرحلة. ولو كان الالتقاء ذاتيا بعد حوار مستقيض في الموضوع، وتأكّد التوافق المتصدّع منذ مدّة، لكانت الرسالة أبلغ في تجاوز الأزمة. أمّا وقد حصل خلاف ذلك فإنّ الازمة تأجّلت فقط.
وإنّنا نجزم اليوم دون تردّد، بأنّ الصراع حول مختلف العناوين سيظلّ مستمرّا بنفس التجاذبات والآليات، ما لم ننفذ إلى جوهر المشاكل وإلى معالجة الإشكالية الرئيسية التي تختزل جميع العناوين الفرعيّة. لنقول مرّة أخرى، وقبل فوات الأوان، أنّ المكاسب “التكتيكية” لا تغني عن مآزق المسائل “الاستراتيجية” ولا تحسمها. وأنّه لا بديل عن تسوية تاريخية شجاعة، تشمل الجوانب السياسية والاجتماعية والجهوية والثقافية وغيرها.
فما دام الحاكمون القدامى لا يقرّون بأيّة مشروعية للحكّام أو الشركاء في الحكم الجُدد، وما ظلّ الجلّادون يتمنّعون عن كشف الحقيقة والاعتذار، وما بقي الضحايا يشعرون بالغبن والمظلومية وعدم الاعتراف، وما ظلّ المركز يستحوذ على السلطة والثروة وينكر على الأطراف حقوقها ومشروعيّة مطالبها وتطلّعاتها، وما دام المتنفّذون في الدولة يعاملون من يمسكون بنصف الاقتصاد أو أكثر على أنّهم مارقون عن الدولة ولا مكان لهم في الحوار حول مستقبل البلاد، ومادام ثوّار ما بعد الثورة يحلمون بالتغيير الجذري والسيادة الشعبية على الثروة والسلطة والسلاح ولا يعيرون الاهتمام اللازم لمنطق الدولة ولا للعلاقات والالتزامات الدولية وموازين القوى الاقليمبية والمصالح المتشابكة، وما ظلّت الثقة منعدمة بين الأطراف السياسية والاجتماعية، وما دام الفاعلون السياسيون لا يستحضرون مقتضيات الانتقال الديمقراطي من معجم وأولويات تستبعد الانتقام والثأر والاستئصال وتستحضر التوافق والمصالحة والتنافس والتعايش السلمي والتداول الديمقراطي، وما دام مطلب المصالحة الوطنية مؤجلا وخاضعا إلى أجندات شخصية أو حزبية أو فئوية أو ربما خارجية، وما دام ..وما ظلّ.. فلن نبارح وضعنا المتدحرج، حتى تحصل الكارثة الكبرى لا قدّر الله. ولن ينفع يومها الجدال حول تحديد المسؤولية في الحدّ من الخسائر الجسيمة التي ستطال الجميع.
نعم ليس للتوافق عنوان واحد، وليس حكرا على أطراف بعينها، لكن يظلّ التوافق بين رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي وزعيم حركة النهضة راشد الغنوشي شرطا لا غنى عنه في هذه المرحلة، ومدخلا مساعدا على معالجة المسائل الاستراتيجية، لاعتبارات لا تخفى. ومهما حصل من تجاذب أو تباعد في التعاطي التكتيكي مع الأزمة السياسية الحالية، فإنه لا أفق لتجاوزها إلاّ بعودة الانسجام بين الزعيمين وتفعيل كيمياء التوافق بينهما مجدّدا. فاللا توافق ممكن نظريا، لكنه مكلف جدّا عمليا.
محمد القوماني
*منشور بجريدة الرأي العام، العدد 68، تونس في 02 أوت 2018.
https://scontent.ftun3-1.fna.fbcdn.net/v/t1.0-9/38186255_1766888133386719_5321099970164555776_n.jpg?_nc_cat=0&oh=532a6d61b440ce51ddf650f9687ce16c&oe=5BC94B8B