قمّة عربية نحتضنها.. لا حظّ لتونس الديمقراطية فيها
انطلقت الأعمال التحضيرية للقمّة العربية الثلاثين التي تستضيف فيها تونس، الملوك والرؤساء العرب أو من يمثلونهم، يوم الأحد القادم 31 مارس 2019. ويبدو من خلال ما تمّ تداوله من مواضيع مُدرجة بجدول الأعمال وما يحفّ بالحدث من سياق عربي وإقليميّ ودولي، وما يُنتظر من قرارات، أنّ هذه القمّة العادية تخلو من أيّة مفاجآت، ولن يشذّ بيانها الختامي عن المألوف من عبارات الإدانة والاستنكار والتأييد والتحذير. فهل يعني ذلك أنّ القمّة لن تستفيد من أجواء البلد المنظّم الذي شهد شرارة ثورات ما يُعرف بالربيع العربي، ويعيش تجربة ديمقراطية استثنائية؟ وهل أنّ تونس التي استضافت قمّة 1979 بعد “اتفاقيات كامب ديفد” واحتضنت مقرّ جامعة الدول العربية في غياب مصر، لن يكون لديمقراطيها الناشئة حظّ في هذه القمة الثلاثين؟ بل إنّها قد تتضرّر من هذه الاستضافة أكثر مما تستفيد منها؟
عبّر الأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط، في كلمته الافتتاحية لأشغال الدورة 151 لمجلس الجامعة على المستوى الوزاري التي تمّت بالقاهرة مطلع شهر مارس الجاري، عن تطلّع الأعضاء إلى “قمّة ناجحة في تونس”، والأمل في أن “تضعنا هذه القمة على بداية طريق الخروج من الأزمات، واستعادة الاتّزان للوضع العربي بعد سنوات مؤلمة، كلّفت الأمّة كلّها الكثير من أمنها واستقرارها ومقدّراتها”.
فليس خافيا أنّ الدول العربية لم تشهد مرحلة أسوأ ممّا عرفته خلال العقد الأخير. فقد ضيّعت بوصلتها تماما وارتبكت أولوياتها. إذ بلغت الخصومات الداخلية العربية حدّا غير مسبوق، حتّى صار مألوفا أن تقصف طائرات لدول عربية أراض دول عربية أخرى وتقتل وتدمّر جهارا بهارا، على غرار ما يحصل باليمن. و أن تنطلق صواريخ من أراض عربية نحو أراضي دول شقيقة، كما هو الحال بين اليمن والسعودية. وأن تنتشر عساكر أجنبية مقاتلة في أكثر من أرض عربية، كما هو الأمر في سوريا وليبيا. بل صارت الاراضي العربية مسرحا لحروب إقليمية ودولية بالوكالة.
وتراجع الاهتمام الرسمي والشعبي بالقضية الفلسطينية حتى استفرد العدوّ الصهيوني بالشعب الفلسطيني، وربما صار يجد الدعم العربي أحيانا. وصارت بعض الدول الإسلامية في الجوار، على غرار إيران أو تركيا، عدوّا رقم واحد، في نظر دول عربية يجري التطبيع بينها وبين إسرائيل حثيثا. وتصدّعت تجربة مجلس التعاون الخليجي، وباتت قطر تحت حصار غذائي وسياسي من شقيقاتها. وتراجعت أحلام التكامل والوحدة وباتت الثروات العربية أكثر استباحة والمال العربي أكثر هدرا.
انعقدت بعد زلزال الثورات العربية التي انطلقت من تونس سنة 2011، قمم بغداد (2012) والدوحة (2013) والكويت (2014) وشرم الشيخ (2015) ونواق شوط (2016) والبحر الميت (2017) والظهران (2018)، وكانت أماكن الانعقاد وحدها دالّة على انخرام التوازن في الصف العربي. فقد تمّ تجميد عضوية سوريا منذ 2011. وتراجعت أدوار العراق واليمن والسودان وليبيا بسبب ما عرفته هذه الدول المحسوبة على “الممانعة” من أوضاع داخلية صعبة وتوتّر في علاقاتها بدول وازنة في الجامعة، اعتبارا لاختلافات معها في علاقاتها بدول إقليمية، لا سيما إيران وتركيا، وبالكيان الصهيوني، وبالسياسات الأمريكية في المنطقة.
ويكفي استعراض أهمّ نقاط البيان الختامي لآخر قمّة بالظهران بالمملكة العربية السعودية، لنفهم طبيعة التوازنات الحالية داخل الجامعة العربية والتوجهات المحتملة لقمّة تونس. فباستثناء رفض قرار أمريكا نقل سفارتها إلى القدس، انصبّت أغلب نقاط البيان على مهاجمة السياسة الإيرانية وإدانة تدخّلها في شؤون بلدان عربية عديدة، إلى حدّ “مطالبة المجتمع الدولي بضرورة تشديد العقوبات على إيران وميليشياتها ومنعها من دعم الجماعات الإرهابية ومن تزويد ميليشيات الحوثي بالصواريخ الباليستية التي توجه من اليمن للمدن السعودية” ومساندة “جهود التحالف العربي لدعم الشرعية في اليمن لإنهاء الأزمة اليمنية على أساس المبادرة الخليجية”. والتعبير على دعم السعودية والإمارات والبحرين في مواجهة التهديدات الإيرانية.
لا شيء يشي بتغيّر هذا التوجّه ولا ب”استعادة الاتّزان للوضع العربي” كما قال أبو الغيط. فما راج حول إمكانية إنجاز مصالحة عربية وعودة سوريا إلى الجامعة،كما روّج البعض لقمة تونس أو تمنّوا ذلك، صار مستبعدا جدا. فالموضوع ليس في جدول الاعمال أصلا. وهكذا يخسر الرئيس التونسي في سنة انتخابية فرصة تحقيق وعده الانتخابي بإعادة العلاقات مع سوريا. وقد يخسر بذلك دعم جهات عديدة له، داخلية وإقليمية على هذا الأساس. كما قد تنخرط تونس أكثر فأكثر في سياسة المحاور العربية والإقليمية والدولية، بما يناقض تقاليدها الدبلوماسية ومصالحها الحيوية.
ولا شيء يشيء بدعم الأشقّاء العرب لتجربة الانتقال الديمقراطي في تونس، التي تعاني من مصاعب اقتصادية وتحتاج إلى دعم مالي. ولا مؤشّرات على مراجعة الموقف من تنافر الدولة والديمقراطية في البلاد العربية. فمنذ سقوط نظام صدام حسين بالعراق سنة 2003، مرورا بتجارب دامية ومؤلمة في دول عربية عديدة، يتأكّد مشهد عربي درامي تُقايض فيه الحرية بالأمن، وتتحول فيه أوطان إلى بؤر للتوتّر ومجمّعات للحركات الإرهابية، ويبدو فيه انهيار البلدان ثمن التخلص من استبداد الحكّام.
وفي ظلّ هذه التقديرات والمؤشّرات، لا تتراجع فقط آمال التونسيين والعرب كافة، في صدور قرارات إيجابية نوعية عن هذه القمة العربية، بل تزداد المخاوف من أن يتمّ الأسوأ. إمّا بالتآمر على التجربة التونسية الاستثنائية في الديمقراطية في عقر دارها، أو أن يتمّ التآمر أيضا على القضية الفلسطينية بمناورات في تمرير ما سُمّي ب”صفقة القرن” ضدّ الحقوق الفلسطينية المشروعة، بعنوان إعادة الاعتبار للقضية المركزية للعرب. وليست وعود ترمب بدعم أمريكا لسيادة إسرائيل على الجولان المحتلّ، عشيّة القمّة، والتي لم تلاق ما تستحقه من تصدّ عربي، سوى عنوان إذلال واستهتار بجامعة ظلّت منذ نشأتها سنة 1945 “جامعة للدول العربية” وليست للشعوب العربية.
وفي انتظار ختام أشغال القمّة، يُخشى أن تدفع تونس الديمقراطية من سمعتها ومصالحها، باحتضان هذه الدورة الثلاثين، التي يبدو أنّ الإعداد لها تونسيا، كان ماديا أكثر ممّا حصل مضمونيا.
*مقال ممنشور بجريدة الرأي العام، العدد 101، تونس في 28 مارس 2019