في 2020: ترتفع نفقات الدولة وتتراجع آمال المواطنين
صادق مجلس نواب الشعب على مشروع قانون المالية لسنة 2020 مساء الثلاثاء 10 ديسمبر 2019 طبق مقتضيات الدستور والقانون، بعد ثلاثة أيام من النقاش، ووسط أجواء غير إيجابية في عمومها. بعثت مداولات النواب برسائل انشغال عن مستقبل البرلمان الجديد، وعكست توازنات ميزانية الدولة مخاوف حول مؤشرات اقتصادية واجتماعية غير مطمئنة. وكان أهم ما استرعى انتباهي من موقعي بصفتي نائبا جديدا بالبرلمان، وما أودّ مقاسمتكم أهم استخلاصاتي حوله مسألتان، أولهما ظروف اشتغال نواب الشعب على قانون المالية عامة وسياقات هذا العام خاصة، ومدى مصداقية المداولات والمصادقة عليه من جهة، وثانيهما مفارقة تضخّم ميزانية 2020 واستمرار نسق الارتفاع اللافت لنفقات الدولة بعد الثورة، مقابل تراجع آمال المواطنين في تحسين أوضاعهم وتردّي خدمات المرفق العمومي ومزيد صعوبات العيش.
باشر نواب الشعب للفترة النيابية الثانية 2019 /2024 مهامهم يوم 13 نوفمبر المنقضي ليجدوا أنفسهم، وأغلبيتهم من الجدد في البرلمان، في أول دورة، يواجهون إنجاز أول مهمة لهم وهي المصادقة على مشرعي قانون المالية التكميلي لسنة 2019 وقانون المالية لسنة 2020. وقد تشكلت للغرض منذ اليوم الأول لجنة وقتية للمالية وانطلقت في دراسة المشروعين والاستماع للأطراف المعنية وبنسق سريع، لتعدّ تقريريها في الآجال. وكانت حصيلتها مرضية في العموم، رغم الغيابات المسجلة في الجلسات وضعف الحوار أحيانا.
حصلت يوم المصادقة على مشروع قانون المالية التكميلي لسنة 2019 في 03 ديسمبر الجاري، مشادّات مع كتلة الحزب الدستوري الحر ورئيستها عبير موسي خاصة، أفضت إلى مشكلة حادّة إثر قرارها الاعتصام تحت قبة قاعة الجلسات العامة والمطالبة بالاعتذار لها على عبارة مسيئة خلال تلك الجلسة. تحوّل الاعتصام في اليوم الموالي إلى محاولة تعطيل أعمال المجلس، باقتحام اجتماع اللجنة المالية وسدّ مداخل مكتب رئيس مجلس نواب الشعب وقاعة اجتماع مكتب المجلس والعربدة في فضاءات البرلمان المختلفة.
بلغت عربدة كتلة الدستوري الحر أقصاها يوم انطلاق مداولات النواب حول قانون المالية لسنة 2020 في 08 ديسمبر، باحتلال منصّة رئاسة المجلس في خطوة غير مسبوقة وخرق فاضح للقانون الداخلي، بما أربك الجلسة العامة دون النجاح في توقيف أشغالها، وبما أرسل أسوأ صورة للداخل والخارج عن الديمقراطية التونسية. وبُذلت جهود عديدة لتطويق المشكل، أفضت إلى قرارين منفصلين لمكتب المجلس صدرا تباعا. يُدين الأول الإساءة لكتلة الدستوري الحر ويسحب الألفاظ ذات الصلة من المداولات، ويُدين الثاني الإساءة لكتلة حركة النهضة ويسحب الألفاظ ذات الصلة من المداولات أيضا. وكان المؤمّل أن تعلن النائب عبير موسي بالاتفاق المسبق معها نهاية الاعتصام أثناء الجلسة، لكنها فعلت العكس في كلمتها وأعلنت بصفاقة و في صلف استمرار اعتصام كتلتها، مما أثار سخطا كبيرا وواسعا لدى عموم النواب، عبرت عنه بعض التدخلات الغاضبة لكتل مختلفة تعقيبا على كلمة عبير موسي.
وأمام ما شعرت به من عزلة وما عبر عنه النواب من عزم على الذهاب بعيدا في مقاضاة كتلة الدستوري الحر ووضع حدّ لمحاولاتهم في تعطيل المجلس، تم إعلان فك الاعتصام صباح الإثنين 09 ديسمبر لتسمر المداولات في ظروف عادية وتتم المصادقة على الميزانية مساء الثلاثاء 10 ديسمبر 2019.
ورغم فشل عبير موسي وكتلتها في تحقيق هدفهم في تعطيل المجلس وخلق أزمة سياسية، ونجاح رئاسة المجلس ومكتبه ونوابه في تطويق المشكل دون الانجرار إلى المحظور أو الأسوإ في مواجهة التعنّت في خرق القانون وتحدّي أغلبية نواب الشعب واستفزاز مشاعر التونسيين، فإنه لا يمكن إخفاء التأثيرات السلبية للاعتصام على سير مجمل أعمال دراسة مشروع قانون المالية لسنة 2020 وظروف المصادقة عليه.
فلا الوقت القصير المتاح سمح للنواب بالاطلاع الجيّد على الكمّ الكبير من الوثائق التي وضعتها وزارة المالية على ذمتهم، ولا أجواء التوتّر والإرباك يسبب الاعتصام سنحت بالتركيز والحوار العميق. فكانت المداولات سطحية والتدخلات شعبوية في أغلبها، وجاءت مقترحات التعديل والإضافة من مجمل الكتل والنواب متسرّعة في عمومها، وأدّت المناكفات الحزبية والسياسية إلى سحب أو إسقاط أغلبها. وبذلك أضعفت السياقات الزمانية والسياسية مصداقية مداولات البرلمان ومصادقته على قانون المالية لسنة 2020 الذي أعدته حكومة منصرفة لحكومة قادمة، ممّا يستوجب التقييم والمعالجة مستقبلا.
وقد تكون بداية المعالجة فيما أقره الفصل 40 من القانون الأساسي للميزانية الجديد لسنة 2019 بأن ” تعرض الحكومة على مجلس نواب الشعب قبل موفّى شهر جويلية من كل سنة الفرضيات والتوجهات الكبرى لميزانية الدولة للسنة المالية المقبلة”، وفي مراجعة البرلمان للمواعيد الانتخابية الرئاسية والتشريعية في علاقة بموعد إقرار الميزانية.
لم يكن مضمون مشروع قانون المالية لسنة 2020 أقلّ سلبية من سياقات المداولات حوله والمصادفة عليه. فلم تكن سنة 2019 بداية تحسّن المؤشرات الاقتصادية كما وعدت حكومة الشاهد. ومن مكر التاريخ أنّ وزير المالية الذي وضع آخر ميزانية قامت ضدّها الثورة في نهاية 2010 وبداية 2011، هو من يضع مشروع ميزانية 2020. وقد فاقت نفقات الدولة الضعف بين الفترتين من 20000 مليار في 2010 إلى 47000 مليار في 2020 ممّا يجعل المفارقة عجيبة وفاضحة بين ارتفاع نفقات الدولة مقابل تراجع آمال المواطنين في تحسين أوضاعهم وتردّي خدمات المرفق العمومي ومزيد صعوبات العيش.
وبعيدا عن تعقيدات الأرقام وتدقيقات المحاسبية، نكتفي بما يسمح به السياق بالإشارة إلى أنّ نفقات التنمية في هذه الميزانية الضخمة تحظى فقط بنحو 7000 مليار. وتذهب نحو 20000 مليار للأجور. وتيلغ الديون المستوجب دفعها في 2020 قدرا يفوق الديون التي تحتاجها الدولة لسدّ العجز في ميزانية 2020 بما يقارب 11500 مليار. ولكم أن تستحضروا بقية أبواب النفقات والمبالغ المرصودة إليها، لتكتشقوا سرّ تعطّل أغلب المشاريع بالجهات وتوقّف الانتدابات وعجز الدولة عن دفع مستحقات المقاولين ومسدي الخدمات، والمستوى الذي يمكن أن تتردي إليه الخدمات العامة في الصحة والتعليم والنقل وغيرها.
لولا رحمة الله تعالى بنا وصابات الحبوب والزيوت والتمور، وجهود العاملين الكادحين، ودور الفلاحة التي لا تجد حظها في مشروع قانون المالية لسنة 2020، في تعديل الميزان التجاري وتوفير قوت الناس الذي صار صعبا بسطوة المضاربين والوسطاء والمحتكرين، لكانت الكارثة. فهل يرتقي أداء الحكومة المنتظرة إلى رفع التحديات الاقتصادية والاجتماعية ذات الأولوية وتحسين المؤشّرات ومراجعة ميزانية 2020 في رؤيتها ومواردها ونفقاتها؟
محمد القوماني
*منشور بجريدة الرأي العام، العدد 136، تونس في 12 ديسمبر 2019