في مؤتمر أحزاب العالم: الصين تعلن نفسها قوّة عظمى

جريدة الرأي العام، العدد 34، تونس في 07 ديسمبر 2017

أحسن الحزب الشيوعي الصيني اختصار الطريق لبلوغ هدفه في الترويج لمُخرجات مؤتمره التاسع عشر باختيار صيغة مبتكرة وجمعه لوفود 300 حزب سياسي وشخصية سياسية من أنحاء العالم في مؤتمر انعقد ببيكبن ما بين 30 نوفمبر و03 ديسمبر 2017. وكانت كلمة الأمين العام للجنة المركزية للحزب ورئيس الجمهورية شي جين بينغ في افتتاح المؤتمر فرصة لإعلان أفكاره الأساسية حول الاشتراكية ذات الخصائص الصينية في العصر الجديد ودورها في نهضة الصين الحالية واستشراف مستقبل أفضل لمصير مشترك للبشرية وعالم جميل ضمن خطة “الحزام والطريق”، والتي تعزّز رسالة المؤتمر 19 في إعلان الصين نفسها لأوّل مرة قوّة عظمى وما يترتّب عن ذلك داخليا وخارجيا. فما طبيعة هذا المؤتمر الحدث؟ وما هي أهمّ فعالياته وإعلاناته؟ وكيف نقرأ دلالاته في السياق الذي يتنزل فيه؟
بعد شهر ونيف من انعقاد مؤتمره التاسع عشر في النصف الثاني من أكتوبر الماضي والذي أعاد انتخاب شي جين بينغ أمينا عاما للجنة المركزية للحزب، نظمت دائرة العلاقات الخارجية “مؤتمر الحوار الرفيع المستوى بين الحزب الشيوعي الصيني والأحزاب السياسية العالمية” تحت عنوان “بناء مجتمع ذي مصير مشترك للبشرية وعالم جميل: مسؤولية الأحزاب السياسية” حضره قيادات حزبية وشخصيات سياسية رفيعة التمثيلية من 120 دولة من القارات الخمس. وقد وُجهت الدعوة لخمسة أحزاب تونسية لبّتها جميعها وهي النداء والنهضة وآفاق والمشروع والجبهة الشعبية. وأتيحت فرص الحديث في الجلسات العامة أو الورشات لعدد هام من الضيوف خاصة رؤساء الأحزاب أو الأمناء العامين أو ممثليهم ورؤساء سابقين للحكومات أو رؤساء برلمانات أو نوابهم. وهذه أول مرة يحتضن فيها الحزب الشيوعي الصيني تظاهرة سياسية بهذا الحجم الكبير، وهي مبادرة تحصل أيضا لأول مرة في عالم السياسة. وسجل الحاضرون جميعا نجاح المؤتمر والدقة العالية في التنظيم والتحكّم في الوقت وإنجاز البرنامج كاملا في مواعيده المقرّرة سلفا. علما أن الفعاليات تمّت في أماكن مختلفة وحضرها نحو 1000 مشارك وكانت الترجمة فيها مؤمّنة ل13 لغة. إضافة إلى الزيارات السياحية لمعالم تاريخية صينية أو مؤسسات اقتصادية أو علمية.
راوحت الجلسات بين تدخلات من قيادات مختلفة من الجهة المُضيفة وتدخلات وأسئلة من الضيوف. كانت كلمات القيادات الأولى في الحزب الشيوعي الصيني، وهو أكبر الأحزاب عددا على الإطلاق، متكاملة ولافتة في تثبيت ما جاء في خطاب الأمين العام للحزب وشرحه بمنهجية ودقة في مجالات مختلفة تتصل بالنظرية والطريقة والنظام والثقافة، وشملت التنمية والبيئة والعلم والابتكار ومقاومة الفساد والبناء الحزبي وحوكمة الدولة والسياسة الخارجية والمصير المشترك للبشرية. وكان التركيز بارزا على أفكار شي جين بينغ في تطوير “الاشتراكية ذات الخصائص الصينية في العصر الجديد” والتي تعدّ وراثة وتطويرا للماركسية اللينينية وأفكار ماو تسي تونغ ونظرية جيانغ تسه مين في “التمثيلات الثلاثة الهامة” ومفهوم التنمية العلمية لجين تاو. وهي منجزات في الابتكار النظري، يرى فيها الحزب الشيوعي الصيني بصمته التي تضع شي جين بينغ بين الزعماء الكبار للصين الجديدة، لا سيما ماو تسي تونغ المؤسس للحزب وزعيم الثورة، ودنغ شياو بينغ المهندس الرئيسي لسياسة الإصلاح والانفتاح التي غيرت جوهريا أوضاع الصين نحو الأفضل. ويبدو واضحا في خطاب قيادات الحزب الشيوعي الصيني بما في ذلك الأمين العام الحالي، الحرص في كل المناسبات على تأكيد الاستمرارية والتواصل مع الزعماء السابقين ومع الثقافة الصينية العريقة التي تعود إلى نحو 5000 سنة. ولذلك حرص شي جين بينغ على الاستشهاد بحكمة كوفشيوس في الصداقة خلال كلمة الافتتاح. فهذا العصر الجديد “هو عصر لوراثة السلف والتمهيد للخلف ومتابعة عمل الماضي وشق طريق المستقبل ومواصلة إحراز انتصارات عظيمة للاشتراكية ذات الخصائص الصينية في الظروف التاريخية الجديدة” كما جاء في تقريره للمؤتمر 19. كما أنّ رِؤية الصين الجغراسياسية في “بناء الحزام الاقتصادي لطريق الحرير” تتواصل مع خطّ تجارة الصين في التوابل والحرير قديما.
كان شعار المؤتمر 19 “عدم نسيان الغاية الأصلية، ودوام التذكُّر للرسالة، ورفع الراية العظيمة للاشتراكية ذات الخصائص الصينية عاليا، وتحقيق انتصار حاسم في إنجاز بناء مجتمع رغيد الحياة على نحو شامل، وإحراز انتصارات عظيمة للاشتراكية ذات الخصائص الصينية في العصر الجديد، والكفاح بجهد دؤوب في سبيل تحقيق حلم الصين المتمثل في النهضة العظيمة للأمة الصينية” وقد عدّد الأمين العام أهم إنجازات الخمس سنوات من قيادته للحزب والدولة، في دفع “الترتيبات الشاملة للتكامل الخماسي” (البناء الاقتصادي والبناء السياسي والبناء الثقافي والبناء الاجتماعي والبناء الحضاري الإيكولوجي) والدفع المتناسق للتخطيطات الإستراتيجية المتمثلة في “الشوامل الأربعة” (إنجاز بناء مجتمع رغيد الحياة على نحو شامل، وتعميق الإصلاح على نحو شامل، ودفع حكم الدولة وفقا للقانون على نحو شامل، وإدارة الحزب بانضباط صارم على نحو شامل). واستعرض أرقاما “صادمة” في مؤشرات التنمية التي جعلت الصين في مراتب متقدمة في العالم والأولى في كثير من المجالات الحيوية لتبلغ نسبة إسهام الصين في نمو الاقتصاد العالمي أكثر من 30 بالمائة. وخلص إلى إعلانه “أصبحنا اليوم أكثرَ اقترابا من تحقيق هدف النهضة العظيمة للأمة الصينية، وأكثرَ ثقةً وقدرةً على ذلك من أية فترة في التاريخ. والشوط الأخير من الرحلة هو الأصعب. والنهضة العظيمة للأمة الصينية لا يمكن تحقيقها بيسر وسهولة وبمجرد قرع الصنوج والطبول، فيتعين على الحزب كله الاستعداد لبذل جهود أعظم وأكثر مشقة”. وكان من فعاليات التظاهرة الأخيرة تنظيم معرض للإنجازات الصينية خلال الخماسية الأخيرة، للتدليل بالصور والأرقام ونماذج الابتكارات على صدق التخطيط والإرادة والنجاح في السياسات.
تسلك الصين طريقها بثبات إلى تصدّر العالم وقيادته بالتخطيط للحاضر والمستقبل القريب والمتوسط. والصرامة في الإنجاز والتقييم. فالقيادة الصينية تعلن أنها “تعدّ الفترة الحالية حتى عام 2020 فترة تحقيق انتصار حاسم لإنجاز بناء مجتمع رغيد الحياة على نحو شامل.” وتقسم الفترة من عام 2020 حتى أواسط القرن الجاري إلى مرحلتين. المرحلة الأولى تستمرّ من عام 2020 حتى عام 2035، تتحقق خلالها “التحديثات الاشتراكية من حيث الأساس بعد خمس عشرة سنة أخرى من الكفاح على أساس إنجاز بناء مجتمع رغيد الحياة على نحو شامل. وعندئذ، ستشهد بلادنا طفرة كبرى في قوتها الاقتصادية وقوتها العلمية والتكنولوجية، وتكون في مقدمة ركب الدول المبتكرة” أما المرحلة الثانية، فتستمر من عام 2035 حتى أواسط القرن الجاري. وخلالها “سننجز بناء بلادنا لتصبح دولة اشتراكيةً حديثةً قويةً ومزدهرةً وديمقراطيةً ومتحضرةً ومتناغمةً وجميلةً، (…) وتصبح بلادنا من الدول الرائدة من حيث القوة الوطنية الشاملة والتأثير الدولي، ويتحقق بشكل أساسي الرخاء المشترك لأبناء الشعب جميعا، ويتمتع شعبنا بحياة أكثر سعادة وصحة وسلامة، حيث ستقف الأمة الصينية شامخة وسط أمم العالم بمعنوياتها الأعلى”.
استعدادا لهذا الدور في قيادة العالم تستحضر الصين أكثر فأكثر مسؤولياتها في تحديد مستقبل مشترك للبشرية بإعلان عناوين سياستها الخارجية التي لا يخطئ المتطلع عليه اختلافها الواضح مع ما عرف عن السياسات الأمريكية والأوروبية خاصة. ومن ذلك التأكيد عل تمسك الصين بمفهوم “الحوكمة العالمية القائم على مبادئ التشاور والتشارك والتنافع”، والدعوة إلى “إضفاء الطابع الديمقراطي على العلاقات الدولية”، ودعمها للدول النامية في توسيع تمثيلها وحقها في التعبير بشأن الشؤون الدولية. ومواصلة أداء دورها كدولة كبيرة مسؤولة وتشارك بحماسة في عملية إصلاح وبناء نظام الحوكمة العالمية، وتقدم حكمتها وقوتها باستمرار. فمصير العالم “تملكه شعوب مختلف الدول، ومستقبل البشرية يحدده خيار هذه الشعوب” و”على شعوب العالم الالتزام بفكرة التوافق” و”علينا أن نعيش كعائلة واحدة نتطلع إلى عالم جميل.” ونحن لا نستورد منوالا ولا نصدّر ولا نؤمن بالاستنساخ” كما جاء في خطاب الافتتاح للزعيم الصيني.
محمد القوماني

https://scontent.ftun3-1.fna.fbcdn.net/v/t1.0-9/24899985_1752829318074178_3099467928365712108_n.jpg?oh=fc2dc0dd3ccba8b21bfaaade92ef72b0&oe=5A8E374D

مشاركة
    0 Comments

    No Comment.

    %d مدونون معجبون بهذه: