في ذكرى ثورتكم..أيّها التونسيون انتبهوا..

 

هل تخترق خيوط الشمس المتقطّعة السحب الداكنة التي تتلبّد في سماء شتاء تونس الساخن، لتكون الأجواء ربيعية في الذكرى الثامنة للثورة؟ وحدها الأسابيع القادمة تعطينا جوابا قاطعا. فالاحتقان الاجتماعي المتصاعد الذي يتغذّى من مناخ سياسي بالغ التأزّم، لم يعد يشغل التونسيين وحدهم، بل صار مادّة لمقالات عديدة وتعليقات بمنابر إعلامية عربية وأجنبية، لا تستبعد سيناريوهات فوضى داخلية مدعومة من جهات خارجية، تستهدف أوّل حلقات الربيع العربي وآخرها في آن.

وفي ظلّ حالة الترقّب ومتابعة الحراك الاجتماعي لا سيما منه تفاعل الحكومة مع مطالب بعض النقابات والقطاعات المهنية، على غرار التعليم الثانوي والعالي والمحامين وأعوان الوظيفة العمومية، تتسرّب أخبار عن وساطات سياسية ومبادرات لخفض التشنّج بين الفاعلين السياسيين وتقريب وجهات النظر وتعديل المواقف ودعم الثقة، من أجل استعادة أجواء التوافق التي تأكّد أنّه لا بديل عنها لضمان الاستقرار وتوفير الأجواء المناسبة لتعميق الحوار والبحث عن الحلول الممكنة للتحديات المختلفة. فمشاكلنا ذات الطابع الاقتصادي والاجتماعي بالدرجة الأولى، يتبيّن في كل مرّة أنه لا طريق لحلّها بغير المدخل السياسي.

صارت الاحتجاجات مألوفة لدينا، خاصّة في بعض المواسم، وهي ظاهرة طبيعية في أصلها، ولا تبعث على الانشغال. فالثورة حرّرت الناس وفتحت حرية التعبير على مصارعها، والاحتجاجات بهذا المعني إحدى تجليات الديمقراطية التي جاءت بها الثورة. ومن ناحية ثانية، فإنّ الديمقراطية كما هو معلوم تعطي فرصة لأفضل الحلول الممكنة لكنها لا تأتي بالحلول التي ترضي الجميع، وعلى هذا الأساس فإنّ  لكلّ حكم مهما كان الماسكون بالسلطة، أنصاره ومعارضوه، والراضون به والمحتجّون عليه.

ولمّا كانت الثورة التونسية من أجل الحرية والكرامة، قد تداخل فيها الاجتماعي بالسياسي، وتوازى خلالها شعار “التشغيل استحقاق يا عصابة السرّاق” مع شعار “الشعب يريد إسقاط النظام”،  فإنّه من الطبيعي أن يرتفع نسق الاحتجاجات الاجتماعية في ذكرى الثورة بعد التباعد المسجل بين المسارين السياسي والاجتماعي، بل صار السؤال مشروعا حول التداعيات السلبية للفشل الاقتصادي والاجتماعي على  النجاح السياسي النسبي. وقد أفصحت بعض استطلاعات الرأي الأخيرة استعداد بعض التونسيين للتضحية بجزء من حرياتهم إذا كان ذلك ضروريا لتحسين أوضاعهم الاقتصادية. فالموجوعون معذورون في مزاجهم السلبي بعد ثمان سنوات عجاف. وبعض خطابات النواب واتجاهات تصويتهم خلال المصادقة على قانون المالية مؤخرا لم تستحضر ذلك للأسف.

ومن جهة أخرى، وحتى لا نستمرّ في تكريس منطق “دولة الرعاية” الذي أدّى بالمؤسسات العمومية إلى العجز وأشاع التواكل،  ولا نسمح بأن تعصف الاحتجاجات الاجتماعية بمكاسب سياسية هامة تحققت، فإنه لا بدّ أن تراجع مختلف الأطراف تعاطيها مع المطالب الاجتماعية المشروعة. فالخطابات الشعبوية التي لا تراعي إمكانيات الدولة وتتعمّد المزايدة السياسية، وتستثمر في غضب الناس وبؤسهم، تزيد في تأجيج المشاعر دون ان تحقق أية مكاسب للمعنيين.  وكذلك فإنّ الظروف  الاقتصادية والصعبة واختلالات المالية العمومية ومقتضيات الإجراءات الإصلاحية، لن تشفع للحكومة في تهربّها من المفاوضات أو عدم استجابتها للاستحقاقات في الزيادة وتحسين القدرة الشرائية للأجراء .

ومهما تباعدت الآراء وتعارضت الأجندات السياسية، فإنه لا مبرّر لحجم التشنج المسجّل خلال المدّة الأخيرة تحت قبة البرلمان أو في الساحات النقابية أو في مختلف منابر الإعلام. فقد تجاوزت الأمور حدودها. إذ لا شيء يبرّر بعض الخطابات العنيفة، من جميع الأطراف، لما تسبّبه من هتك للأعراض واتّهام للأشخاص والهيئات دون قرينة، وإيذاء للغير ومخالفة للقانون، وإرباك للساحة السياسية وتوتير للعلاقات الاجتماعية، وإشاعة للأحقاد والضغينة. كما أنّ تلك الخطابات لا تقدّم حلولا ولا إضافة إيجابية، بقدر ما تزيد في تعميق أزمة الثقة بين الفاعلين السياسيين والاجتماعيين، وإفساد العلاقة بين الحاكمين والمحكومين، وتخويف المستثمرين. وفي مناخات العنف اللفظي والمادي، تُدفع أغلبية المواطنين إلى اللامبالاة والانكفاء على الذات  وعدم المشاركة في الانتخابات. وليس أخطر من ذلك على مسار الانتقال الديمقراطي، وتهديد مستقبل البلاد والعباد.

فالمعارضة لست في صراع وجود مع السلطة بل في تنافس، تتأثر وتؤثّر. ومنطق التنافي، والعمل على “استئصال الخصم” ليسا من قاموس التنافس السياسي السلمي. والضغط العالي والعجلة في الأمر لا يعملان بالضرورة لصالح تحقيق أهداف الثورة وإنجاح الانتقال الديمقراطي. كما أنّ العلاقة بين السلطة والنقابات لا تتحدّد فقط  من خلال شرعية المطالب، بل من خلال أخذ الواقع وتعقيداته بعين الاعتبار والوصول إلى اتفاقيات تعمل على تحقيق االمطالب في أفق زمني واقعي.  والإدراك السياسي للزّمن، يعطي للعمل السياسي والنقابي بعده الواقعي ويخرجه من دائرة الرغبات والأحلام.

يبدو التعقّل مطلوبا من مختلف الأطراف، في إدارة خلاف بعض النقابات أو الهيئات والمنظمات مع الحكومة، ونأمل أن يكون فتح التفاوض بين الحكومة واتحاد الشغل حول الزيادات في الوظيفة العمومية، عنوان انفراج على هذا الصعيد لتجنب الإضراب العام المقرر ليوم 17 جانفي 2019، والذي أشار الطبوبي في لهجة تصعيدية غير خافية، أنّ الاتحاد لا يضمن حسن تأطيره على غرار إضراب 22 نوفمبر الماضي وعدم خروجه عن السيطرة. كما يبدو الحوار مستعجلا مع هيئة المحامين بعد بيانها التصعيدي أيضا ليوم الثلاثاء الماضي 18 ديسمبر، لتطويق الأزمة وفض الخلاف حول حماية السرّ المهني. وكم تبدو الحكومة مدعوّة إلى سرعة التحرّك واستباق تعقيد الملفات في هذه الفترة الحساسة. فهي لا تكاد تطفئ نارا حتى تشتعل أخرى. وتشاء الأقدار ان تُضاف للملفات الاجتماعية الحارقة، تعقيدات ملف العدالة الانتقالية بانتهاء عهدة هيئة الحقيقة والكرامة المثيرة للجدال، والذي يستوجب هو الآخر تبصّرا وتفهّما لحساسيته والعدد المرتفع للمعنيين به من عشرات آلاف الضحايا، ولصلته بالمصالحة الوطنية، حجر الزاوية في ضمان نجاح المرحلة الانتقالية وعدم تكرار مظالم الأمس.

وتبقى الوساطات والمساعي المبذولة خلال الأيام الأخيرة لتطويق الأزمة السياسية لا سيما بين حزبي النهضة والنداء وبين الباجي والغنوشي والبحث على أفضل الصيغ لعودة التوافق بين الحزبين وإنهاء التجاذب بين قرطاج والقصبة، من أهمّ عناصر معالجة الازمة والسياسية والاجتماعية وتوقّي المخاطر المحدقة بالبلاد. وتبدو التسريبات حول تفاهمات على هذا الصعيد مطمئنة، ولا تخفى تداعيات هذا الملف عللى بقية الملفات سلبيا وإيجابيا. وقد تكون دورة مجلس شورى حركة النهضة نهاية هذا الأسبوع خطوة على هذا الطريق.

كثيرا ما يتمّ تحميل السياسيين مسؤولية أخطاء مسار ما بعد الثورة، والحصيلة السلبية للسنوات التي خلت، وهذا تقييم لا يخلو من وجاهة. فالسياسي في الغالب يكون عنوان المرحلة إيجابيا أو سلبيا. لكن سيذكر المتابعون والمؤرّخون ان النّخب السياسية التونسية مهما تاُثرت بالاستقطاب الأـيديولوجي وسقطت في المناكفات غير المفيدة وجرّت البلاد إلى معارك ليست من أولويات غالبية شعبها، فإنّها تتوفّق في الوقت الحاسم إلى حلول مرضية، بما جعل التجربة التونسية استثناء للنجاح وسط انتكاسات مدوّية لتجارب عربية مماثلة. وليست بعض ردود الأفعال المسجّلة إلى حدّ الآن في فضح ما مخططات أصحاب “السترات الحمراء” وسيناريوهات الفوضى واستنكارها، والعزم على التصدّي لها،  سوى عينة من ذلك. وبهذا التفاؤل الواقعي نرجّح أن تبدّد خيوط النور المنبعثة من أكثر من جهة ظلام السحب الدّاكنة  في سماء تونس. وأن تمضي مسيرة الثورة التونسية إلى أهدافها رغم العثرات.

محمد القوماني

*منشور بجريدة الرأي العام، العدد 87، تونس في  20 ديسمبر 2018.

https://scontent.ftun12-1.fna.fbcdn.net/v/t1.0-9/48416902_2240693172621121_8384880977704386560_n.jpg?_nc_cat=108&_nc_ht=scontent.ftun12-1.fna&oh=9007902c21294bb73384ee203aae6f2a&oe=5C8C988F

 

 

مشاركة
    0 Comments

    No Comment.

    %d مدونون معجبون بهذه: