في ذكرى اليوم العالمي للمرأة: المساواة مسار

تحيي النساء التونسيات، اليوم 8 مارس 2018، على غرار نظيراتهنّ في المعمورة، اليوم العالمي للمرأة، فتحية لهنّ وهنيئا بما تحقق لهنّ من مكاسب على طريق المساواة والتمكين. وتتزامن هذه الذكرى وطنيا مع أحداث سياسية ذات صلة تبدو مؤشراتها متضاربة. فإعلان الهيئة العليا للانتخابات عن القبول الأوّلي لقائمات المترشحين لبلديات 6 ماي 2018، عزّز حضور النساء في هذا الاستحقاق ومنحهنّ كما لم يحصل من قبل، رئاسة مئات القائمات، بفضل القانون الانتخابي الذي فرض التناصف العمودي في كلّ القائمات، والتنناصف الأفقي لأول مرّة في القائمات الحزبية والائتلافية. لكن من جهة أخرى أشّرت القائمات المستقلة، أو التي غيّرت صبغتها إلى مستقلة بعد تقديمها، على أنّ الذهنية المهيمنة لا تزال ذكورية تتمنّع عن تحقيق التناصف وتمكين النساء، إذ كانت رئاسة القائمات المستقلة للرجال في غالبيتها الساحقة. كما غيّرت بعض القائمات الحزبية أو الائتلافية صبغتها للتحيّل على القانون والإفلات من واجب التناصف الأفقي. وأجّلت لجنة الحقوق الفردية والمساواة التي شكّلها رئيس الجمهورية في 13 أوت الماضي تقديم تقريرها بعد أن استوفت الأجل المحدّد لها، لاعتبارات سياسية في علاقة بالبلديات، وبما واجه اللجنة من جدال وانتقادات استنادا إلى بعض التسريبات. لذلك يبدو مشروعا جدّا التوقّف مجدّدا عند موضوع المساواة بين النساء والرجال في هذه الذكرى وفي ظل هذه الملابسات، لتجلية الخلاف حول الموضوع في أوساط النخب التونسية خاصة والأوساط الشعبية عامة.

أصالة المساواة بين النساء والرجال

إنّ التردّد اليوم في إقرار مبدأ المساواة الكاملة بين النساء والرجال، لا يقلّ في نظرنا فداحة وشناعة عن التردّد في تجريم نظام العبودية أو نبذ التمييز العنصري على أساس اللون بين البيض والسود على سبيل المثال. ومن جهة أخرى فإنّ إقرار مبدأ المساواة أو دسترته لا ينهي المصاعب والاختلافات في المقتضيات العملية والتشريعات الضامنة للمساواة الحقيقية. ومبدأ المساواة بين النساء والرجال باعتباره جزءا من مبدأ المساواة بين البشر جميعا، قد يبدو بديهيا بالنسبة إلينا جميعنا أو إلى أغلبنا على الأقلّ، فلا يحتاج إلى استدلال ولا إلى نقاش، لكنه في الواقع وفي التاريخ ليس كذلك. فتحقير المرأة ونزول مرتبتها عن مرتبة الرجل ثقافة سائدة وواقع معيش في مختلف المجتمعات والتشريعات القديمة. ولا تزال لتلك الثقافة امتدادها في واقعنا المعاصر. ولا يمكن النظر إلى الإسلام بسموّ تعاليمه وسماحة تشريعه إلا باعتباره مصدرا وسندا للمساواة بين البشر عامة، ومن ذلك المساواة بين النساء والرجال خاصة.

تقابل في المضمون والتقاء في المنهج

يشكو تناول موضوع الإسلام والمساواة بين النساء والرجال من مظلمتي مقاربتين نمطيتين تتقابلان في المضمون وتلتقيان في المنهج. مقاربة أولى تنتصر لمنظومة حقوق الإنسان ولواقع المرأة في المجتمعات الغربية، تتبنى الحداثة وتهاجم التراث وتتهم الإسلام بأنه يعيق تحرّر المرأة والنهوض بأوضاعها. فالإسلام في نظر أصحاب هذه المقاربة يصدر عن رؤية تقليدية تحطّ من مكانة المرأة وتعتبرها مصدر فتنة وتنزل بحقوقها أدنى من الرجل. وفي مقابل هذه الرؤية تسود مقاربة ثانية تفخر بأن الإسلام أكرم المرأة ورفع منزلتها ومكّنها من جميع حقوقها. وتحيل هذه المقاربة أيّة فوارق بين النساء والرجال في التشريع إلى الفوارق الطبيعية بين الجنسين التي هي سنة الله تعالى في الخلق، وبالتالي لا تقرّ بأيّة حاجة إلى تطوير التشريعات المقرّرة في النصوص والتي لا تقبل التغيير.
هاتان المقاربتان المتقابلتان في الظاهر إلى حدّ التناقض تصدران في رأينا عن منهج لا تاريخي واحد في التفكير، يعتمد إسقاط عصر على آخر، الحاضر على الماضي أو الماضي على الحاضر، دون اعتبار لسنّة التطوّر ولمقتضيات الوعي التاريخي وللتحولات النوعية الحاصلة في الواقع وفي الوعي البشري. فالمساواة مفهوم حديث لم ينشأ مكتملا، بل تطوّر مضمونا وتطبيقا، ولا يمكن بحال أن نسقطه على بيئة قديمة لنسائل تشريعاتها وعاداتها بمقتضى آخر ما استقر عليه هذا المفهوم. ومن ناحية أخرى لا يمكن اعتبار صورة المرأة زمن نزول القرآن صورة مثالية وأقصى ما يمكن أن ترتقي إليه أوضاعها عبر الأزمنة والأمكنة.
ويكفي أن نشير على سبيل المثال إلى أنّ العالم الحديث انتظر سنة 1948 ليعلن في المادة الأولى للإعلان العالمي لحقوق الإنسان أنّ الناس يولدون أحرارا متساوين في الحقوق والواجبات. ورغم هذا الإقرار استمرّت مظاهر التمييز بدرجات متفاوتة بين الشعوب والأشخاص والثقافات على أساس اللون أو الدين أو العرق أو المرتبة الاجتماعية أو غيرها. وقد عرفت التشريعات في الغرب الحديث، قبل هذا الإعلان وبعده تطويرات عديدة لتقترب من مقتضى المساواة بين الجنسين وإنهاء جميع أشكال التمييز ضد المرأة التي أعلنت في اتفاقيات أممية لاحقة (سيداو). وما يزال الجهد مبذولا في جميع أنحاء العالم لتحقيق هذا الطموح ولا يخلو الطريق من معوّقات فكرية واجتماعية وسياسية جمّة ومن جدال لا ينتهي.
وفي المقابل يكفي لتأكيد أثر العصر في النظر للتشريعات الإسلامية المتصلة بالمرأة، أن نتتبع تطوّر تفاسير القرآن في تناول الآية المتصلة بضرب المرأة، لنرى بوضوح الفارق النوعي بين التناول التراثي للآية الذي لم يكن يرى في الأمر حرجا، وبين تناول المحدثين لها بداية من تفسير المنار لرشيد رضا الذي بدآ يستحضر ما يثيره تشريع الضرب من انتقاد في ثقافة “الإفرنج”، مرورا بمحمد الطاهر بن عاشور الذي قال بمنع الضرب لتعذّر ضمان شروطه الشرعية، وصولا لبعض التأويلات المعاصرة التي أعادت النظر في معنى الضرب أصلا.

مازال التوافق ممكنا

لم يحسم دستور 2014 خلاف النخب التونسية حول الهوية والحداثة والدين والدولة، بل أبقى على الغموض والتوافق المعتمدين في دستور 1959، من خلال الإبقاء على الفصل الأوّل. وعلى غرار مجلة الأحوال الشخصية التي أحدثت تحوّلا إيجابيا في الأسرة والمجتمع، وطوّرت بعض التشريعات بالاعتماد على مقاربات اجتهادية في المنظومة الإسلامية، يمكن المضيّ في نفس الاتجاه اليوم، في تعديل القوانين المخلّة بمبادئ الدستور الجديد، لاسيما في إقرار المساواة وضمان الحريات، دون تعريض النمط الاجتماعي لهزّات لا يتحمّلها، ودون استعجال حسم خلافات لا تتيح المرحلة إنهاءها.
محمد القوماني
* منشور بجريدة الرأي العام، العدد 47، تونس في 08 مارس 2018

https://scontent.ftun3-1.fna.fbcdn.net/v/t1.0-9/28782726_1849423958414713_3562975158905432517_n.jpg?oh=636fb6b25e99b03b8a2fad4e50b79394&oe=5B071E31

مشاركة
    0 Comments

    No Comment.

    %d مدونون معجبون بهذه: