في ذكراها السادسة: ثورة حصلت..لكن مسارها لم يحسم بعد..

 

مقال منشور بجريدة الفجر بتاريخ 20 جانفي 2017 

تزامنت الذكرى السادسة لثورة الحرية والكرامة 17 ديسمبر 2010/ 14جانفي 2011 مع بثّ  شهادات لضحايا الاستبداد والفساد بالجلسات العلنية لهيئة الحقيقة والكرامة، سواء تلك التي سبقت أو التي كانت يوم 14 جانفي 2017. ويكفي أن تستمع ـ دون أحكام مسبقة ـ إلى تلك الشهادات، لتدرك حجم القمع الذي شمل أجيالا وعائلات فكرية وسياسية ومختلف جهات الجمهورية، وكم كانت كرامة جزء مهم من التونسيين مهدورة على أيدي الجلادين ولتستنتج دون عناء أنّ ثورة حقيقية قد حصلت ببلادنا من أجل الحرية والكرامة.
ويكفي أن تستحضر ما تسمع أو تعرف عن حجم فساد حكم “العائلة” وسطوة “الطرابلسية”، وكم جهود بذلت وحيل قانونية استعملت، و”نخب” وظّفت، من أجل وضع اليد على مفاصل الدولة ومقدّرات الشعب … لتدرك دون عناء أن ذلك الحكم ما كان ليزول دون ثورة حقيقية، بصرف النظر عن تفاصيل الأحداث وتدخل مؤثرات جانبية.

كما أنّ العدد الكبير من الشهداء رحمهم لله تعالى والجرحى عجل الله شفاءهم وخفّف معاناتهم، يظلّ أكبر دليل على أنّ ثورة حقيقية قد حصلت في تونس من أجل الحرية والكرامة. وهؤلاء الشهداء والجرحى هم دليل الجريمة القاطع ضدّ نظام مستبد كان يحكم هذه البلاد.

لكن حين أعرف أنّه بعد ست سنوات من الثورة، لا توجد إلى حدّ الآن قائمة رسمية في هؤلاء الشهداء والجرحى، رغم تعاقب الحكومات والهيئات والمراحل المختلفة، فإنّ ذلك يجعلني كناشط سياسي وحقوقي قبل الثورة وبعدها، أشعر حقيقة بالخجل والعار، لأنّي لا أجد مبررا مقنعا واحدا لعدم ضبط على الأقلّ  قائمة للشهداء وأسماءهم ليتعرّف عليهم التونسيون ولينزلوهم مكانتهم المستحقة. فالشهداء أفضل من فينا، فقد ضحّوا وقضوا من أجل أن نعيش نحن لحظة الحرية والكرامة وننعم ببعض مكاسبها.

وهذا مؤشّر واضح على أنّ مسار الثورة لم يحسم بعد، بين المنتصرون لأهدافها  والعاملين على تحقيقها وبين من يعملون على طمس آثارها ويحنّون إلى العهد القديم. وما يحصل مع عائلات الشهداء والجرحى الذين تعرّفنا على جوانب من أوضاعهم المزرية جدا ومما يعانونه، في ندوة صحفية لجمعية “أوفياء”  يوم الجمعة 13 جانفي 2017، أو في شهادات الجرحى وعائلاتهم مساء 14 جانفي المنقضي،  ليس إلاّ وجها من وجوه ما يستهدف مسار العدالة الانتقالية وهيئة الحقيقة والكرامة التي أوكلنا  إليها كشف الحقيقة وإنصاف الضحايا، ليس فقط في ملفّ شهداء الثورة وجرحاها،  ولكن في حقّ شهداء الوطن لمدة تزيد عن خمسة عقود، وفي حقّ سائر ضحايا الاستبداد والفساد.

لكن في المقابل حين أتأمّل في صمود كثير من السياسيين والحقوقيين في وجه الاستبداد على مدى أجيال عديدة وعدم نجاح الجلاد في إخماد أصواتهم وفي إثنائهم عن العمل السياسي، والذين يحضر عدد منهم جلسات الاستماع  العلنية بهيئة الحقيقة والكرامة، والتي لا يحضره صنف معين من السياسيين والناشطين، حين أتأمل ذلك أجدني متفائلا. فصمودهم يعطينا الأمل بأنّ من الصادقين من لن يخونوا دماء الشهداء، وأنّ مسار العدالة الانتقالية سينتصر اليوم أو غدا. وإنّ تونس ستنتفع كثيرا بنجاح هذا المسار باعتباره شرط المصالحة الشاملة وإعطاء الأمل للأجيال الجديدة، كما أنها ستدفع تكلفة غالية إذا تعثّر لا قدر الله هذا المسار أو تأجل إلى مرحلة تاريخية أخرى.

إنّ تركيزنا في الذكرى السادسة للثورة على ملفّ شهدائها وجرحاها ومسار العدالة الانتقالية، لا يشغلنا عن تزامن هذه الذكرى مرة أخرى مع موجة من الاحتجاجات الاجتماعية من أجل التشغيل والتنمية وضدّ التهميش. ولئن كان الاحتجاج من مكاسب الثورة وعلامات الديمقراطية التي جاءت بها، فإن ذلك لا يعفينا من الإقرار بأنّ النجاح المسجل على المسار السياسي وخاصة ما يتعلق بضمان الحريات والتعايش السلمي والتركيز التدريجي لمؤسسات الجمهورية الثانية وما يشهد به العالم من “نجاح تونسي” على غرار ما سجلناه في الندوة الدولية الأخيرة للاستثمار بتونس، هذا النجاح السياسي النسبيّ لا يوازيه نجاح مماثل على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي مما يجعل المكاسب هشّة والأوضاع غير مطمئنة.

فالمطالب الاجتماعية في الثورة لم تنفكّ عن المطالب السياسية. ولا نتردّد في الإقرار بأن ما تحقق اقتصاديا واجتماعيا كن دون المأمول بكثير، من زاوية تطلعات الناس وانتظاراتهم الكبرى. وإن الظروف الموضوعية الصعبة وسياقات الانتقال وتداعيات الثورة لا تبرّر التقصير والإخفاق على هذا الصعيد. فالاقتصادي والاجتماعي يجب أن يكون أولوية المرحلة القادمة، حتى نستثمر النجاح السياسي اقتصاديا وندعم التوافق السياسي بالسلم الاجتماعي ونؤمّن مستقبل مطمئنا في محيط عربي وإقليمي ودولي مضطرب ومنذر بمخاطر جمّة.

ومهما قست الظروف وتعثّر مسار الثورة فلا يجب أن نستسلم لخطاب التيئيس والإحباط بأيّ حال، الذي لن يخدم قضية شهداء الثورة وجرحاها، ولا حقوق المضطهدين والضحايا ولا مطالب التشغيل والتنمية العادلة. فكثيرا ما يكون خطاب التيئيس والعدمية تمهيدا للاستسلام للاستبداد. ولنواصل نضالنا بإصرار أكبر رغم الصعوبات والعثرات، فما ضاع حقّ وراءه طالب وأن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام ألف مرّة وإنّ غدا لناظره قريب.

محمد القوماني

تونس في 14 جانفي 2017

مشاركة
    0 Comments

    No Comment.

    %d مدونون معجبون بهذه: