في الذكرى 38 لتأسيسها: ما سرّ استمرار حركة النهضة ونجاحها؟
احتفلت حركة النهضة منذ أيام بالذكرى 38 لتأسيسها يوم 6 جوان 1981. وتتزامن هذه الذكرى الرسمية مع مرور خمسين عاما فعلية عن النواة الأولى لنشأة الحركة نهاية ستينات القرن الماضي، واستعداد بلادنا لاستحقاق انتخابي تشريعي ورئاسي نهاية العام الحالي، تبدو النهضة أهمّ المتنافسين فيه. فما سرّ صمود حركة النهضة خلال نصف قرن من عمرها، رغم المحن التي مرّت بها، والاستهداف الذي تعرّضت له وبلغ حدّ العمل على استئصالها؟ والأهم من ذلك ما سرّ نجاح النهضة في تصدّر المشهد السياسي خلال العقود الأخيرة وتموقعها كأبرز حزب سياسي تونسي بعد الثورة، يحتلّ المرتبة الأولى في استطلاعات نوايا التصويت في الانتخابات القادمة ؟
الحركة أحد قوانين الحياة. فكل ما في الكون يتحرّك، ومن يتوقّف أو يجمد يلفظه الوجود. لذلك أنشد أبو القاسم الشابي في قصيدة الرائعة إرادة الحياة: “فلا الأفق يحضن ميت الطيور * ولا النحل يلثم ميت الزهر”. وحركة النهضة اسم على مسمّى كما يقال. فهي في حركيّة دائبة وتجدّد مستمرّ خلال مسيرتها، ونحسب أنّ تجدّدها سرّ استمرارها ونجاحها. ولهذا التجدّد أسبابه غير الخافية.
فقد تشكّلت النواة الأولى للحركة من عناصر كان أغلبهم من الشباب الجامعي أو حديثي التخرّج من الجامعة. والشباب رمز الحركية والرغبة في التجدّد. ولم تكن للمؤسسين مؤلفات مسبقة ولا مرجعية محدّدة، ولم يكونوا “شيوخ علم” ولا خريجي “مدارس دينية”، بل كانوا متنوعين في اختصاصاتهم ومعارفهم وانتماءاتهم وتجاربهم الذاتية. ورغم وجود زيتونيّين داعمين للجماعة في نشأتها أمثال عبد القادر سلامة صاحب مجلة “المعرفة” ومديرها، ومحمد الصالح النيفر، المدرّس بجامع الزيتونة، والذين كانا ضمن الهيئة التأسيسية ل”حركة الاتجاه الإسلامي” سنة 1981، فقد انطلقت “الجماعة” من غير مثال سابق، واعتمدت التجربة والخطأ، واغتنت من أكثر من منبع ومثال، في الفكر كما في الصيغ التنظيمية. فاصطبغت الحركة في نشأتها كما في مسار تطورها بالمرونة، ولم تكن “نمطية” قطّ.
تأثّرت “الجماعة الإسلامية” الأولى بجماعة التبليغ والدعوة ذات الأصول الباكستانية، وبجماعة الإخوان المسلمين، ذات الاصول المشرقية، كما تأثّرت بأصولها التونسية في المدرسة الإصلاحية والروافد الزيتونية والتعليم الحديث. وكانت تأثيرات الثورة الإسلامية في إيران والصراع مع اليساريين والقوميين في الجامعة، ومراجعات الفكر العربي المعاصر بعد هزيمة 1967، والنخب الحقوقية والثقافية، وأطروحات المعارضة التونسية واضحة في تطورات “حركة الاتجاه الإسلامي” لاحقا، خلال ثمانينات القرن الماضي.
وقد ساعدت خاصية المرونة والتجدّد على اتّسام حركة النهضة عبر تاريخها بدرجة لا بأس بها من التحرّر الفكري وتعدّد الاجتهادات وتنوع الخطابات، في صفوف قيادات العمل الطلابي بالجامعة خاصة. كما ساعدت على انفتاح “الإسلاميين” بتونس، على كتابات وتجارب من مرجعيات متنوّعة، بغرض الاستفادة منها أو في إطار الصراع مع المخالفين.
وإلى جانب خاصية المرونة والتحرّر الفكري، استفادت حركة النهضة من “تقليد” التقييم المستمر أو النقد الذاتي والاعتراف بالأخطاء. فكانت الحركة حريصة على عقد مؤتمراتها في مواعيدها في مرحلة السرية فضلا عن العلنية، وكانت بعض المؤتمرات العادية أو الاستثنائية محطات فارقة في المراجعة والإصلاح. كما استفادت الحركة من النقد الذي استهدفها في إطار الصراع الداخلي والحياة الديمقراطية المتنامية وسطها، أو من خلال الصراع مع الخصوم وضغوطات الواقع، أو من خلال الدراسات الأكاديمية والمنابر اللإعلامية.
فتحت ثورة الحرية والكرامة آفاقا رحبة للتونسيين، وكانت مناخات الثورة مناسبة لتسريع حركيّة المراجعة والإصلاح والتجدّد في حركة النهضة. وكانت تجربتها في الحكم عنصر إثراء وإغناء لها، فعقدت حركة النهضة مؤتمرها العاشر في ماي 2016 الذي شكل نقلة نوعية في خطابها وأولوياتها وتوجهاتها.
جدّد المؤتمر المرجعية النظرية للحركة في لائحة الرؤية الفكرية. وأشار البيان الختامي للمؤتمر إلى “الفهم المقاصدي للمرجعية الإسلامية” والقراءة التجديدية “ضمن المدرسة الإصلاحية التونسية” وترجمت المرجعية في “منظومة من القيم في مختلف التعبيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية”. وأقرّ في لائحة سبل إدارة المشروع التخصّص في العمل السياسي والخروج من الطابع الشمولي في العمل الذي فرضته مرحلة مواجهة الاستبداد. كما شدّدت اللائحة السياسية على “المضي بالتدرج في تحقيق انعطاف حيوي للحركة باتجاه التموقع في الوسط العريض في إطار حزب ديمقراطي وطني ذي مرجعية إسلامية حامل لمشروع وطني إصلاحي وحضاري منفتح على الطاقات الوطنية الحية والكفأة والنظيفة”، كما ورد بالبيان الختامي الذي خلص إلى أن المؤتمر اختار “الحزب الوطني هوية جديدة للحزب” ” تتسع أوعيته التنظيمية للتعدّد والتنوع” ويتبنى “الديمقراطية التوافقية والتفاوض والبحث عن كلمة سواء في إدارة شؤون البلاد ولأولوية المصلحة الوطنية على المصلحة الحزبية.
وبهذه المراجعات والتوجهات الجديدة شدّد البيان الختامي على “حزب حركة النهضة قد تجاوز عمليا كل المبررات التي تجعل البعض يعتبره جزءا مما يسمى “الإسلام السياسي” وأن هذه التسمية الشائعة لا تعبر عن حقيقة هويته الراهنة ولا تعكس مضمون المشروع المستقبلي الذي يحمله”.
وإنّ من حسن حظ حركة النهضة، وتونس عامة، أن الرئيس المؤسّس للحركة نهاية ستينات القرن الماضي الشيخ راشد الغنوشي، الذي عايش مختلف المحن والتطورات، هو الذي لا يزال على رأس الحزب الذي نجح في الاستمرار موحّدا وقويا، وصار من أهم الفاعلين السياسيين من موقع الحكم، ويقود الغنوشي نفسه حركة إصلاحية داخل الحزب وداخل البلاد، وهذه نقطة قوة لدعم توجهات النهضة الجديدة، من أجل إحداث نقلة نوعية وإستراتيجية في الحركة والبلاد، بحجم الثورة التاريخية التي حصلت.
وإنّ عراقة حركة النهضة بقدر ما تعدّ مكسبا لها، ومنبع فخر واعتزاز، ومصدر خبرة ورشد وتقدير، فهي تحمّلها مسؤولية أكبر في إدارة شؤون البلاد وإنجاح مسارها الديمقراطي، ورفع تحدياتها الاقتصادية والاجتماعية المتعاظمة، وتحسين عيش التونسيات والتونسيين. كما أنّ أجيال التأسيس والبناء والمحن و الثورة والنجاح، معنيّة أكثر من أيّ وقت مضى بتشبيب الحركة التي أربك الاستبداد مسارها، والمحافظة على صبغة المرونة والتجدّد والانفتاح داخلها، وتوسيع ديمقراطيتها الداخلية وتطوير هياكلها وقوانينها، واعتماد تسيّسات جديدة تناسب مرحلتها، لتكون نهضة الغد جديرة بأدوار متقدمة لتونس أفضل.
محمد القوماني
*منشور بجريدة الرأي العام، العدد 111، تونس في 13 جوان 2019
https://scontent.ftun12-1.fna.fbcdn.net/v/t1.0-9/62539015_545940375937111_8565549863637352448_n.jpg?_nc_cat=108&_nc_ht=scontent.ftun12-1.fna&oh=ac7b24aaebd11e878c32b78b12c9b7a2&oe=5D9377ED