في الأمن والأمان وحقوق الإنسان.. قصّتي مع عصابة السرّاق

 

كتبت قبل الثورة على الصفحة الأولى من جريدة الموقف الغرّاء بالعدد 229 بتاريخ 12  سبتمبر  2003 مقالا حمل عنوان” الأمن والأمان وحقوق الإنسان”.  أجدني اليوم مدعوّا  للتذكير به وتحبير مقال مرّة أخرى بنفس العنوان. أتوقّّف معكم من خلال هذا الربط، وانطلاقا من حادثة حصلت معي مؤخرا، عند ظاهرة خطيرة تتهدّد المجتمع والدولة، كنت وصفتها  منذ شهرين بالعدد 53 من جريدة الرأي العام ب”الارهاب الاجتماعي بالأسلحة البيضاء”، وأشرت إلى أنّه بات أخطر من “الإرهاب الأيديولوجي بالأسلحة النارية”.  فالجريمة المجتمعية ببلادنا، سواء الفردية أو المنظمة، التي استفحلت وتطوّرت، شكلا ومضمونا، لم تعد تقبل التعاطي معها بالصيغ المعتمدة إلى حدّ الآن، وصار التصدّي لها من الأولويات التي لا تقلّ أهمية عن التحدّيات الاقتصادية أو غيرها. وكل تأخير في المعالجة الجذرية، سيرفع كلفة المعالجة لاحقا وستكون له تداعيات خطيرة على باقي المستويات.

“من يطالع عناوين الصحف التونسية السيّارة ويتابع ما تنشره أصداء المحاكم لأنواع الجرائم من سرقة ونهب وخطف ونشل وسطو واغتصاب للجسد والمال،  وتفنّن في القتل وسفك الدماء بطعنة سكين أو موسى، أو سيف أو خنجر، بل بعشر طعنات وأكثر. ومن يُنصت إلى ما يتناقله عامّة الناس يوميا وفي كل مكان من أفعال مشابهة، بل يصل الأمر  إلى أنّ المواطنة أو المواطن يتفطن إلى يد النشّال تمتدّ إلى “جيبه” أو متاعه في وسائل النقل العمومية،  ويخشى من الاحتجاج أو الإعلان عن  المجرم  (…) ولا يمكن لأيً متابع لهذه الظواهر الخطيرة في مجتمعنا إلا أن يتملّكه الفزع ويطلق صفارة الإنذار عما يتهدّد مستقبلنا من استشراء العنف وتطور الجريمة في بلادنا كمّا ونوعا”. حرصت على النقل الحرفي لهذا المقطع من مقال الموقف المذكور أعلاه، لأشير إلى  أنّ استفحال الجريمة وضع سابق وليس من نتائج الثورة، كما يحلو لأعداء الثرة أن ينسبوا إليها كل قبيح. وأنّ ما يجري اليوم استمرار لما ورثناه من العهد البائد، يجد في مناخات الحرية وحماية حقوق الإنسان وضعف الدولة والمناكفات السياسية بين الأطراف وبين المؤسسات، عوامل تغذّيه ولا تساعد على التصدّي الحازم له.

أكّدتُ  في مقال الموقف السابق على أن حفظ الأموال والأبدان من ضرورات الدين والدولة ومن أوكد حقوق الإنسان. وتوقّفت خاصة عند مفارقة الأمن والأمان في عهد المخلوع. فبقدر ما كان النظام يتغنّى بتوفير الأمن وتشهّر تقارير حقوق الإنسان بالعدد المرتفع جدا لأعوان الأمن بتونس مقارنة بدول أخرى أكبر، وبقدر ما كان الأمن منتشرا على الميدان ظاهريا، كان الأمان مفقودا في الواقع. فليس المعارضون فقط من تُنتهك حقوقهم ويعيشون وعائلاتهم رعبا مستمرا، بل كان أغلب التونسيين وحتى الزائرون لتونس يشتكون من فقدان الأمان. ولأصحاب الذاكرة القصيرة أنقل مما كتبت وقتها ” فهل يستقيم الحديث عن الأمان  والناس يتملّكهم الخوف عن أنفسهم وعن أموالهم؟ والأولياء حيارى في تأمين تنقّّلات أبنائهم إلى أماكن تعلّمهم أو عملهم؟  والأخبار وأحيانا الشائعات تأتي كل يوم بالجديد  والطريف من عمليات ترصّد الآمنين  بطرق تفوق الخيال أحيانا؟ وعدد ضحايا العنف بهذا الحجم؟”. فعلى عكس دول أخرى، مثل سويسرا، التي يقلّ فيها الوجود الأمني ويشيع الأمان، لم يكن الأمران  يجتمعان في تونس  إلاّ في أغنية صوفية صادق الدعائية ” بالأمن والأمان يحيا هنا الإنسان”.

تعرّض مؤخرا  الباب الرئيسي لمنزلنا حين كنا خارجه إلى التحطيم الوحشي على يد عناصر إجرامية سرقت محتوياته. وكان بابا سميكا ومُحكم القفل. وهذا مثال لعشرات الحالات  اليومية التي تشهدها العاصمة ومختلف ولايات الجمهورية، إضافة إلى حالات “البراكاج” والنشل وسرقة المواشي وترويع النساء والأطفال وغيرها من صيغ الإجرام. فضلا عن حالات الاعتداء والقتل في خصومات أو  هجومات تحت مفعول المخدرات من حبوب الهلوسة خاصة غير المسبوقة. ولا تعنينا هنا المسروقات، رغم ما ترمز إليه من اعتداء على  الحرمة الشخصية وعلى الذاكرة الالكترونية وعلى الجهد والمال والوقت، فالمال مخلوف كما يُقال، بل يعنينا التوقف عند بعض دلالات ردود الأفعال من عموم الأصدقاء والمواطنين الذين تفاعلوا مع الخبر، وكذا من الأمنيين الذين عاينوا الجريمة ويتعقبون الجناة. كما يعنينا أكثر التوقّف عند مخاطر استفحال الجريمة ببلادنا وحيويّة جعل التصدي لها من آولوياتنا الوطنية.

يبدي التونسون مشاعر تضامن بالغة التأثير مع ضحايا العدوان الإجرامي عامة، ومع ضحايا سرقات المنازل خاصة. غير أنّ أغلب تعاليقهم، حين تتأملها تجدها تلقي باللوم ضمنيا على الضحيّة أكثر من المجرم.  فهم ينصحون الضحية بمزيد تحصين منزله في غيابه وإحكام الأبواب والنوافذ وتشديد الأقفال وتربية كلب حراسة واعتماد التحصينات الحديثة من الكاميرات  والمنبهات وغيرها. وينسى هؤلاء الحكمة الشعبية في أنّ “اللي يسرق يغلب اللي يحاحي” وان المجرمين طوٌروا وسائلهم ولم تعد تمنعهم التحصينات في الغالب. وأنّ التحصينات تبقى مهمة لكنها ليست كافية. وأنّ في بعض البلدان لا يغلق السكان أبواب منازلهم أصلا ولا تحصل لهم سرقات. وأنّ منازلنا صارت أشبه بالسجون ومع ذلك لم تتراجع السرقات. وأنّ علينا التأمل في التربية والثقافة الاجتماعية والاستثمار في الأخلاق والوعي أكثر من الاستثمار في الأبواب والأقفال.

يبذل أعوان الأمن بمختلف أسلاكهم جهودا جبّارة في مقاومة الجريمة المجتمعية التي تستنزف المال والاهتمام. وليس من العدل إنكار دورهم الإيجابي، ولا من الموضوعية عدم الاعتراف بضعف الامكانيات المادية المتوفرة لهم على هذا الصعيد. غير أنّ تحجّج بعضهم بأنّ قوانين حقوق الإنسان وجمعياتها بعد الثورة خاصة، صارت تحدّ من عملهم وقدراتهم على التعرف على السرّاق وملاحقة المجرمين، تبدو هي الأخرى تبخيسا للثورة وتمجيدا ضمنيا للعهد السابق ومبرّرات غير مقنعة. فتعنيف المتهّمين وترهيبهم أنجع السبل لمعرفة الحقيقة برأيهم. ويتناسى هؤلاء أنّ تطوّر أساليب التحقيق وعلوم الإجرام أكثر نجاعة في الدول المتقدمة من أساليب العنف وانتهاك حقوق الإنسان في الدول المتخلفة. وأذكر هنا على سبيل المثال أن مدينة بيكين عاصمة الصين، التي تأوي ما يزيد عن أربعين مليون نسمة ينخفض بها معدّل الجريمة. وحين سألت سفيرنا هناك عن الأسباب خلال زيارة  ليست من العهد ببعيدة،  أحالني على صرامة نظام المراقبة والعدد المهول من الكاميرات المنتشرة وعلى حرفيّة  الجهاز الأمني ونجاعة القوانين الردعيّة المعمول بها.

لا يتّسع المجال لحديث أطول في موضوع بؤرّق التونسيين، ويكفينا التنبيه إلى خطورته ودعوة أولي الأمر إلى إيلائه ما يستحق من الاهتمام. فجدير بنا آن يكون التصدي للإرهاب المجتمعي بالأسلحة البيضاء من أولويات وثيقة قرطاج2 بعد أن كان التصدي للإرهاب الأيديولوجي بالأسلحة النارية  من أولويات قرطاج 1. وعلى نوّاب مجلس الشعب والقائمين على سائر مؤسسات الدولة  المعنية، أن يضاعفوا الجهود على هذا الصعيد. وقبل ذلك كله ومعه، علينا أن نرفع جميعا  أصواتنا للتنبيه إلى خطورة الوضع وآن تتضافر جهودنا كلاّ من موقعه،  للحدّ من توسّع دائرة الجريمة ومعالجة أسبابها وآثارها. فالاكتفاء بتحميل المسؤولية للجهات الرسمية غير كاف ولا مفيد في مثل هذه المواضيع. وفي كلّ الأحوال فإنّ عصابة سرّاق المنازل والأمتعة الشخصية على خطورتها لا يجب أن تحجب عنا عصابة سرّاق أموال  الشعب وخيرات الوطن. فالجريمة الصغرى تتغذى من الجريمة الكبرى وأجهزة الدولة إذا لم تتصدى للمجرمين تصبح متواطئة معهم وسندا لهم.

*منشور  بالعدد 62 من جريدة الرأي العام، تونس في 21 جوا8ن 201

https://scontent.ftun3-1.fna.fbcdn.net/v/t1.0-9/35819479_1703247426417457_9174145170407424000_n.jpg?_nc_cat=0&oh=0ea6f5a42549381b1fec46379599198c&oe=5BB95F94

مشاركة
    0 Comments

    No Comment.

    %d مدونون معجبون بهذه: