فرص للحوار ومخاطر على الاستقرار: هل تُسهدف النهضة أم التجربة؟

       في الوقت الذي تتأكّد فيه الحاجة إلى حوار وطني من أجل التوافق على برنامج وطني لإنقاذ الوضع الاقتصادي الموشك على الانهيار وفتح أفق للمشهد السياسي المتعطّل، وتتعزّز فيه فرص ذلك بعد تصريح الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل نور الدين الطبوبي بقبول رئيس الجمهورية قيس سعيد لمبادرة الاتحاد، يجري بالتوازي تصعيد غير مسبوق في استهداف حركة النهضة وزعيمها راشد الغنوشي عبر وسائل متعدّدة، بلغ فيها السقوط الأخلاقي حدّ الترويج الواسع لثروة خيالية يمتلكها الغنوشي ثم إشاعة مرضه أو وفاته. ولا يخفى على أصحاب أجندات الإرباك أنّ استهداف الحزب الأوّل في البرلمان والأكثر تمثيلا في الشارع وتأثيرا فيه، ستكون له تداعياته المباشرة على المشهد السياسي عموما. ومن باب أولى أن ينتبه الحريصون على مصالح تونس وشعبها إلى ذلك. وهذا ما يجعلنا نتوقف بما يتيحه المجال وما يستوجبه التفكير العميق، حول الفرص الحقيقية للحوار المطلوب وشروط إنجاحه، ومخاطر أجندات الإرباك على الاستقرار السياسي الذي يظلّ شرطا لا غنى عنه لأيّ برنامج للإنقاذ الاقتصادي. وعلى هذه المقدمات يتأسس سؤالنا هل المستهدف هو حزب حركة النهضة وموقعه في المشهد السياسي التونسي؟ أم المستهدف من وراء ذلك التجربة الديمقراطية التونسية ومصالح عموم الشعب؟

استدعاء الاستقطاب مجدّدا

تشهد بلادنا خلال الفترة الأخيرة حملات لافتة تستهدف حزب حركة النهضة ورئيسه وقيادات بارزة فيه، وتستخدم في ذلك مختلف الوسائل بما فيها النبش في ملفات الماضي الملتبسة والمختلف فيها، ومحاولة التأثير على القضاء، واستعمال الترغيب والترهيب في التحشيد لعريضة سحب الثقة من رئيس البرلمان، والافتراءات والإشاعات، والتخويف من الاقتراب السياسي من حزب حركة النهضة أو التحالف معه، في إطار مساع محمومة من جهات أيديولوجية وسياسية وإعلامية عديدة لتغذية التجاذبات الحادّة واستعادة الاستقطاب الثنائي البغيض.

فلا ينفكّ بعضهم على دعوات التجميع السياسي على الضديّة، بالتحريض على حركة النهضة، وتحميلها وحدها مسؤولية الحكم بعد الثورة وما آلت إليه الأوضاع الاقتصادية من تردّ، والتحريض على النظام السياسي الذي أرساه دستور الثورة المجمع عليه، وتحميل حركة النهضة ذات الأغلبية في المجلس الوطني التاسيسي، مسؤولية ما يعتبرونه مأزقا في نظام الحكم، والدعوة إلى استعجال تغييره. أو التشكيك في الشرعية ومحاولة الالتفاف على نتائج الانتخابات بـتأوبلات مغرضة لتقرير دائرة المحاسبات، وادّعاء شرعيات لا سند شعبي لها.

       فالذين يملؤون فضاءات إعلامية عديدة ويكثر ضجيجهم هذه المدّة، وقد أُعيد بعضهم إلى المشهد بعد غياب، يكرّرون بمناسبة وغير مناسبة، خطابا يختزل مشكلة تونس الكبرى في وجود حزب قوي اسمه “حركة النهضة”. ويعدّون مشاركته في الحكم بعد 2011 عنوان فشل مهما كانت المؤشرات والأرقام. وأنّه وحده يتحمّل مسؤولية إدارة البلاد بعد الثورة وعليه يقع عبء المرحلة، بزعم أنه الحاكم الفعلي مهما كانت تمثيليته في الحكومة أوفي مواقع المسؤولية والقرار في مؤسسات الدولة. وأنّ الديمقراطية الحقيقية في مؤدى خطاب هؤلاء هي كل الطرق التي تتيح إقصاء حزب النهضة من المشاركة في الحكم، وفي ذلك المستقبل الزاهر لتونس وسعادة التونسيين.

       لا تبدو هذه الخطابات ذات تأثير حاسم على مجريات الحكم،  رغم ما تحدثه من تشويش على الرأي العام وإرباك للوضع، وما تبعث به من رسائل سلبية إلى الخارج. وليس أدلّ على ذلك، من استمرار النهضة في المرتبة الأولى في الانتخابات، وفشل أو انقراض بعض من جعلوا من خصومتها واستعدائها برنامجهم الوحيد للحكم. وليست مسيرة 27 فيفري 2021 الأخيرة التي دعت إليها حركة النهضة، دفاعا عن المؤسسات المنتخبة،  واستجاب لها عشرات الآلاف في مشهد غير مسبوق، سوى عنوانا جديدا لشعبية النهضة واستمرارها طرفا بارزا في المشهد السياسي.

 سياسة الإقصاء كشفت حدودها ومخاطرها

             تجاوز النهضويون نزعة “الأسلمة” التي نشأت ردّ فعل عن “العلمنة”، وغادروا مواقع الاحتجاج، إلى المشاركة في الإصلاح والبناء الديمقراطي للدولة. وخرجوا بعد مؤتمرهم العاشر نهاية سنة 2016 من “الإسلام السياسي” إلى “الإسلام الديمقراطي”، بالتخلّي عن نزعة الشمولية وتأكيد التخصّص السياسي ووضع لائحة فكرية جديدة وتثبيت خيار التوافق والمشاركة والعمل على مصالحة وطنية شاملة. وبات واضحا أن استهداف “الإسلاميين الديمقراطيين” الراغبين في المشاركة السياسية، والعودة إلى سياسات الإقصاء  والاستئصال،  استهداف في الأصل للديمقراطية نفسها وللاستقرار السياسي ولفرص التنمية والنهوض الحضاري للعالم الإسلامي، وتشجيع غير مباشر لنزعات العنف والإرهاب.

             ومن المهمّ أن يستحضر الجميع التكلفة الباهظة على الأوطان لسياسات الإقصاء واستئصال الإسلاميين أو المعارضين عامة، وصراعهم مع الدولة والتي لم يستفد منها سوى عدوهمّ. وأنّ مراجعات الإسلاميين وتجدّدهم وتصحيح أخطائهم، لن نجني ثمارها إلاّ إذا حصل ما يماثلها لدى خصومهم مهما كانت مواقعهم. فلا فائدة في إضاعة الوقت والفرص مرّة أخرى، وتكرار الأخطاء بتبديد الجهد والمال فيما لا نفع فيه. وعلى كلّ طرف أن يراجع نفسه ويطوّر معاملته لغيره، عسانا نوحّد البوصلة ونجمع الكلمة. فليس عيبا من أخطؤوا، ولكنّ العيب أن نبني على الأخطاء أمجادا.

توفير شرط نجاح حوار دون إقصاء تظلّ ممكنة

             رغم خطابات التحريض والتشويه وأجواء الاستقطاب والاحتراب، التي ترى أطراف عديدة أنها هدف لها، ومتضرّرة منها، وقد اكتفينا بجوانب من استهداف حركة النهضة مثالا عنها، فإنّ فرصا للحوار تظلّ قائمة ونجاحه يظلّ ممكنا. وإذ تعزّز التفاؤل بانطلاق الحوار ولو متأخّرا، بعد إعلان الطبوبي قبول الرئيس سعيد بمبادرة اتحاد الشغل، فإنّ الاهتمام ينصرف أكثر إلى آفاق الحوار وأولوياته ورهاناته وحظوظ نجاحه في بلوغ أهدافه.

             ولعلّ أولى شروط ذلك تتوقّف على رئيس الجمهورية بصفته المشرف على الحوار الوطني في التوجّه إلى الشعب بخطاب في الغرض، يحدّد بوضوح الأهداف الكبرى،  ويعلن الأولويات والآليات، ويكشف عن الأطراف المدعوّة إلى مائدة الحوار دون أيّ نزعة للإقصاء، وأن يضع سقفا زمنيا لإعلان مخرجات الحوار والتزام جميع المشاركين بها. وأن تستحضر مختلف الأطراف المعنيّة بالحوار المعجم المخصوص في التخاطب والاعتراف المتبادل والمنسوب الأدنى من الثقة والحرص على البناء على المشترك وتفهّم الخصوصيات والتعقيدات، وتغليب المصالح الوطنية العليا عن الأجندات الحزبية والخلافات الشخصية.

             ولأنّ الحوار ليس غاية في حدّ ذاته، بل وسيلة للتوافق على مخرجات جامعة تكون أرضية لبرنامج وطني للإنقاذ، فإنه من بديهيات الأمور أن يجمع الحوار  مختلفين، مهما كان منسوب اختلافهم. وأن يتداخل الاقتصادي والاجتماعي والسياسي. وأن لا تتحول آليات إنجاح الحوار إلى أدوات للإقصاء أو الوصاية على الحوار. وأن لا تكون المخرجات سابقة لتبادل الآراء.

             ويبقى أخطر ما يتهدّد انطلاق الحوار الوطني ونجاحه، هو استمرار مناخ التوتّر وعدم التعاون بين مراكز الحكم في قرطاج باردو والقصية. وأن يظلّ طلب استقالة المشيشي أو سحب الثقة من الغنوشي أو استعمال وسائل الدولة لاستمرار إيقاف رئيس حزب قلب تونس والضغط عليه، أو أيّة مناورات في هذا الاتجاه، عناوين للابتزاز الحزبي أو مخاطر على الاستقرار السياسي النسبي ببلادنا. فلا يصحّ تعاقد تحت الإكراه. ولن تنجح برامج مهما كانت جدواها ما لم تستند إلى استقرار سياسي وهدنة اجتماعية وحزام سياسي واسع يدعم ذلك، ويبعث رسائل مطمئنة للداخل والخارج.

محمد القوماني

*منشور بجريدة الرأي العام، العدد 200، تونس  في  01 أفريل 2021     

مشاركة
    0 Comments

    No Comment.

    %d مدونون معجبون بهذه: