حول أحداث 9 أفريل 2012: مبادرة سياسية لخفض التشنّج وبناء الشرعية
جريدة المغرب بتاريخ 18 أفريل 2012.
جاء قرار المجلس الوزاري ليوم الأربعاء 11 أفريل 2012 بتعديل قرار وزير الداخلية القاضي بمنع التظاهر بشارع الحبيب بورقيبة بالعاصمة تونس، ليعيد الأمور إلى نصابها بتصحيح خطإ سياسي وإنهاء جدال نحن في غنى عنه حول حق التظاهر السلمي الحر والمنظم. لكن ما حصل يوم 09 أفريل 2012 من قمع للمتظاهرين وما رافق ذلك وما سبقه وما تلاه من تجاذب سياسي حادّ ومن جدال حول أداء الإعلام عامة والعمومي منه خاصة، يظل هو الأهم، فهذه الأحداث فرصة لتعميق النظر حول قضايا بالغة الأهمية في هذه المرحلة الانتقالية لم تعد تحتمل التأجيل، وفي مقدمتها التساؤل عن مدى اتجاهنا في تغيير الحكم والقطع مع الاستبداد بمجرّد تغيير الحكّام بعد الثورة؟ والتساؤل عن المخاطر التي تتهدد الثورة في ظل التنازع حول الشرعية بعد انتخابات تعدديّة وشفافة، وعدم التوافق على مقتضيات الحكم الديمقراطي الذي ارتضيناه بديلا عن الاستبداد، لا سيما آليات إدارة الاختلاف وصيغ المعارضة الديمقراطية في ظل نظام يحظى بالشرعية؟ وإني لا أخفي مخاوفي الجديّة من مخاطر حقيقية تتهدّد الثورة التونسية ومن احتمال انتكاس المشهد السياسي وضياع الفرصة التاريخية التي منحتنا إيّاها الثورة. وإنّى لا أتردّد في اتهام النخب في المقام الأول وتحميلها المسؤولية في تصحيح المسار.
أبدى التونسيون من مختلف المواقع والأجيال أقدارا لافتة من الوعي واليقظة والمسؤولية خلال الأيام الحاسمة من الثورة المجيدة وما تلاها من ظروف صعبة بعد انتصارها، وانخرطوا تدريجيا في وهجها وفي مسار إنجاحها. وانتظروا بصبر كبير موعد إجراء انتخابات المجلس الوطني التأسيسي التي جاءت تعددية وحرة وشهد لها الجميع بالشفافية. ونظر الجميع بالداخل والخارج إلى انعقاد المجلس وانتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة، والانتقال السّلس للحكم، على أنها عناوين بارزة ومُشجعة على بداية مرحلة ما بعد الاستبداد والفساد وخطوات على طريق الانتقال الديمقراطي الذي تمثل تونس أفضل حالاته العربية.
كان المأمول بعد تلك الخطوات الهامة، بناء الشرعية السياسية وخلق حالة من الاستقرار وبداية حل المشاكل حسب الأولويات في إطار من الشراكة الواسعة والتعاون على رفع التحديات وإنجاح المسار الانتقالي. لكن بعد حوالي نصف عام من الانتخاب تبدو الأمور غير مطمئنة لعموم التونسيين حسب ما ألاحظ. ولعل أهمّ معطى نجده في المشهد السياسي الحالي، رغم المكاسب العديدة على صعيد ممارسة الحريات، هو انزياح هذا المشهد تدريجيا الى نفس ما كان عليه تقريبا قبل الثورة. إذ نجد “ترويكا“ حاكمة منغلقة على نفسها، ومعارضة مُشتّتة واحتجاجيّة دون برامج ودون تأثير على مجريات الأحداث، وعزوف متنامي من الأغلبية عن المشاركة، واستمرار أزمة التنمية السياسية وضعف ثقافة المواطنة والديمقراطية. وليست مظاهر الاستقطاب الإيديولوجي والتجاذب السياسي الحادّين بين الاطراف السياسية والتوتر الاجتماعي والانفلات الإعلامي، سوى عناوين لتأزّم الأوضاع واستمرار الهشاشة الأمنية والتنازع حول الشرعية. فالاختلاف رحمة وهو إيجابي وهو أيضا عنوان التعددية، لكن الفرق كبير بين الاختلاف والتنافس وبين التجاذب والاستقطاب والعداوة. إذ الحياة السياسية في الوضع الديمقراطي تقوم على التنافس وليس على العداوة كما هو الحال.
لا يمكن لمن عاين الانتهاكات البالغة من طرف قوات الأمن لحقوق الإنسان، وحجم العنف اللفظي والمادي والتنكيل الذي طال التونسيات والتونسيين ممن حضروا للاحتفال بعيد الشهداء يوم 09 أفريل الجاري، لا يمكنه إلاّ أن يحزن لما جرى ويخشى على مستقبل الانتقال الديمقراطي. فسلوك الجهاز الأمني واحترام كرامة المواطن المعنوية والمادية وضمان حقوقه، مقاييس بالغة الدلالة في تقييم حقيقة التغيير الحاصل في الحكم. فلا يتغير الحكم بتغير الحاكمين فقط، بل بتغيير أساليب الحكم ومضمونه. وأحسب أن التونسيين ينظرون بحساسية خاصة للإصلاحات المُستوجبة في وزارة الداخلية، اعتبارا لدور هذه الوزارة وعلاقتها بالتونسيين في العهد البائد الذي ثاروا عليه. وهذا ما يُفسر الإدانة الواسعة للقمع وحجم الانزعاج الذي جوبه به.
ومن جهة ثانية لا يمكن أن يحجب عنا القمع، خطورة التغطية السياسية والحقوقية وربما الإعلامية لحالة تمرّد صريح على القانون، وتحريض غير خاف على مواجهة حكومة شرعية، بخطابات سياسية تخطئ السياق وتمارس إسقاطا غير جائز لصُور ومصطلحات وآليات تصحّ على العهد السابق ولا تأخذ بمعطيات الوضع الجديد. ولعل مشاركة نخب من القيادات السياسية والشخصيات الحقوقية في المواجهات مع قوات الأمن يوم 09 أفريل ، ونزول نوّاب من المعارضة بالمجلس الوطني التأسيسي في اليوم الموالي للأحداث، للتظاهر بشارع الحبيب بورقيبة، في تحدّ واضح لوزير الداخلية قبل الالتقاء به داخل مقر الوزارة، صيغ بالغة الرمزية والخطورة في علاقة التجاذب والتحدي بين السلطة والمعارضة.
لابدّ من نقاش معمّق في مضمون الديمقراطية وآلياتها، خاصّة في المرحلة الانتقالية، حتى نصحّح المسار. فاستقطاب المشهد السياسي بين حكومة ومعارضة نراه غير صحّي، لأن المرحلة الحالية تقتضي شراكة لا تطمس التعددية و حق الاختلاف. فالحكومة مهما كانت شرعيّتها، لا يمكن أن تستأثر بالمرحلة الحالية. ولا تستطيع القول أنها المسؤولة الوحيدة على تأمين تحقيق أهداف الثورة. والشرعية الانتخابية غير كافية لممارسة السلطة. ولا يمكن الحكم بمنطق الأغلبية في غياب دستور وعقد اجتماعي وسياسي بين جميع الأطراف. وتعبير “الصفر فاصل” تعبير خاطئ ومُضلّل. وعليه فإن الرسائل السلبية للترويكا منذ الانتخابات، وخاصة رسالة الهيمنة، تزيد في توتير الوضع السياسي.
كما أن الأطراف السياسية التي اختارت المعارضة مبكّرا وصنعت حاجزا بينها وبين الحكومة، حكمت على المشهد أيضا بنوع من الاستقطاب. فمن كان شريكا في الثورة، عليه أن يدافع عن حظوظه في المشاركة السياسية ويواصل إسهامه في إنجاح المرحلة وتحقيق أهداف الثورة. فالديمقراطية تكليف ومراقبة وليس تفويضا مطلقا. والتوازن ضروري للمجتمع في كل الأحوال. وعليه فإن الوضع الإستقطابي (سلطة/معارضة) بهذه الحدّة لم يعد مقبولا. وحق المعارضة لا يحجب واجب الاقرار بشرعية السلطة وتوخّي الصيغ الديمقراطية والمشروعة في الصراع السياسي.
لابدّ من القيام بخطوات جريئة نحو خفض التشنّج وأن نبحث عن صيغ أخرى للتعامل داخل المجلس الوطني التأسيسي وخارجه. ولابدّ من حوار وطني واسع حول مشروع تونس الجديدة. على الحكومة أن تعطي رسائل مفادها أنها ستوسّع المشاركة في الحوار وفي رسم التوجهات، وحتّى في تحديد المهام والتعيينات في المناصب الحيوية. وعلى المعارضة أن تجدّد خطابها وتعلن أنها تعمل على إنجاح المرحلة وعلى استعدادها للتعاون مع الحكومة لإيجاد الحلول. فتونس تهمّنا جميعا ونجاح المسار الديمقراطي مسؤولية الجميع. لذلك أدعو أعضاء الحكومة إلى الخروج من جلباب الانتماء الحزبي والتصرّف كرجال دولة، كما أدعو مختلف الفاعلين من خارج “الترويكا” الحاكمة إلى التعالي عن الحسابات الشخصية ومعارك الماضي، وتحمّل المسؤولية في عدم تفويت هذه الفرصة التاريخية للنهوض ببلادنا والقطع مع منظومة الفساد والاستبداد. وعلينا أن نعي جميعا أن التنمية السياسية لا تتحقق فقط بحرية التنظم والتعبير والتظاهر، وأن تغيير الحكّام لا يضمن وحده تغيير الحُكم.
لا ننكر ما يُظهره الفريق الحكومي من جدّية في العمل وتحمّس للاقتراب من مشاغل الناس وشفافية في الأداء ومرونة في ممارسة السلطة واستعداد للتطوير. ولا ننكر الدور الايجابي للضغط المُمارس من مواقع مختلفة على السلطة الجديدة، في تصحيح كثير من المسارات والتنبيه إلى انزلاقات محتملة. ولعل ما أعلن في الأيام الأخيرة من عزم على وضع عقد اجتماعي جديد يبدأ بحوار مع ممثلي الأعراف والشغالين والحكومة، وما يعدّ له لإيجاد هيئات تفسح المجال للحوار السياسي خارج المجلس الوطني التأسيسي، إلى جانب ما تضمنه برنامج الحكومة في الميزانية التكميلية، من اقتراح تنظيم الانتخابات القادمة يوم 20 مارس 2013 ومن برامج في التشغيل والتنمية الجهوية وتكريس العدالة الانتقالية وضمان الأمن والاستقرار، لعل في ذلك مؤشرات لظهور علامات خضراء على انفراج ما، في الفترة القادمة. ناهيك أن الجميع يعلن رغبته في أن تنجح الحكومة، لأن في نجاحها نجاح لكامل المسار وللتجربة التونسية.
أحسب أن الحاجة باتت أكيدة إلى إطلاق مبادرة سياسية في هذا الاتجاه، تستهدف خفض التشنج وتحقيق التوافق وبناء الشرعية بجميع عناصرها. وأعدّ أنّ دورا ايجابيا للإعلام مفيد جدّا وحاسم في إنجاح هذا المسعى.
* منشور بجريدة المغرب (اليومية التونسية) بتاريخ 18 أفريل 2012. ومنشور بالتوازي في جريدة “الضمير”(اليومية التونسية).