عفو تشريعي عام لماذا ؟ و متى؟
عفو تشريعي عام لماذا ؟ و متى؟
جريدة “الموقف” بتاريخ 20 جوان 2003
من زنزانات السجون إلى رحاب مجلس النواب، ومن الجمعيات والمنظمات إلى الأحزاب السياسية ، في الداخل والخارج ، ترفع أصوات عديدة مطالبة بسن قانون العفو التشريعي العام بتونس، وهو ما يعكس اجتماعا واسعا حول هذا المطلب. فما المقصود بالعفو العام ؟ و لماذا المطالبة به الآن ؟ ومتى يمكن أن يتحقق في الواقع؟
- في معنى العفو:
العفو العام كما يعرفه الفصل 376 من مجلة الإجراءات الجزائية ” يمنح بقانون وتمحي به الجريمة مع العقاب المحكوم به ” و يضيف الفصل 377 ما وقع العفو فيه يعتبر كأن لم يكن” فالعفو العام اذن يصدر عن الهيئة التشريعية أي مجلس النواب خلافا للعفو الخاص او السراح الشرطي الذي تصدره السلطة التنفيذية. وهو عفو يلغي الجريمة و يعتبرها كأن لم تقع و يسقط الأحكام مهما كنت و يوقف التتبعات ويعيد الحقوق المدنية و السياسية الاجتماعية بما في ذلك حق الشغل للمتمتع به.
و العفو العام لا يأخذ بعين الاعتبار السيرة الذاتية للسجين كما هو الحال في السراح الشرطي و هو أيضا لا يقبل التراجع فيه.
و العفو العالم الذي تطالب به الحركة الحقوقية و السياسية قي تونس هو العفو الذي يشمل آلاف التونسيين والتونسيات الذين طالتهم محاكمات رأي ذات طابع سياسي أو نقابي أو فكري منذ أواخر الستينات وإلى اليوم. و إن الخلط المتعمد في القانون التونسي بين جرائم الحق العام مثل القتل و السرقة و الغش و الزنا… و بين الجرائم السياسية المتعلقة بأقوال أو أفعال يقصد من ورائها أهدافا سياسية ما ، هو الذي يفسر الإجماع الوطني الواسع حول مطلب العفو العام، و لكن السلطة في المقابل تنكر وجود مساجين سياسيين أصلا بتونس اليوم. و تكفي الإشارة لتفنيد ادعاء السلطة في هذا المجال ما أشارت إليه التقارير الصادرة حول من وجود ما يعرف ب ” جماعة الانتماء” أو الحالات الخاصة ” و إن البوليس السياسي أو ما يعرف بجهاز أمن الدولة هو الذي تولى في تونس باستمرار التحقيق في قضايا الرأي سواء كانت ذات صبغة سياسية او تنظيمية او نقابية او غيرها. و إن المعالجات الخاصة لبعض الملفات من خلال الإعلام أو الظروف السجينة أو التفاوض في شروط السراح أو إلغاء العقوبة بعد مدّة و جيزة من إقرارها ، أو العودة في قرار السراح الشرطي ….كلها أدلة على الطابع السياسي لهذه الملفات. و أخيرا فإن صيغة الانتماء الى جمعية غير مرخص فيها ” أو الانتماء الى جمعية مفسدين….” او غيرها من الصيغ و إن أخذت طابعا قانونيا فانها لم تقنع أحد بنفي الطابع السياسي عن بعض المحاكمات المندرجة ضمن قضايا الرأي.
- لماذا العفو
العفو العام إجراء قانوني تتخذه السلطات في مراحل انتقالية حاسمة من تاريخ المجتمعات و يأتي عادة لتهدئة التوترات الاجتماعية أو السياسية أو تحقيق المصالحة الوطنية. و تبدو الظروف التي تمر بها البلاد اليوم في حاجة ماسة الى مثل هذا الإجراء فالعفو التشريعي العام هو الكفيل وحده بإنهاء آثار الحكام التي صدرت ضدّ آلاف التونسيين و التونسيات الذين لفقت ضدّهم القضايا أو انتزعت منهم الاعترافات تحت التعذيب أو لم تتوفر لهم شروط المحاكمة العادلة. و مازال عدد كبير من ضحايا تلك المحاكمات محرومين من حقوقهم الأساسية و خاصة منها الحرمان من الشغل. و قد اعترفت السلطة خلال الفترة الأخيرة بأن مجلة الصحافة مثالا كانت تحتوي على فصول زجرية قابلة لعدة تأويلات و معلوم إن كثيرا من المحاكمات تمت بمقتضى تلك الفصول التي تمت مراجعتها. كما أن الإقرار بالحاجة إلى مراجعات في الدستور و في الترسانة التشريعية ذات الصيغة السياسية خاصة من قبل السلطة يقتضي مراجعة مسار سلسلة من المحاكمات التي طلت من كانوا يطالبون بمثل هذه التعديلات العفو العام مدخل لطي صفحة المحاكمات السياسية التي تجرّم الرأي المخالف و تصادر الحريات الأساسية في الرأي و التعبير والتنظيم…و هو شرط من أجل اعادة الاعتبار لهيبة القضاء و لاستقلاليته و عدم الزج به مستقبلا في الخلافات السياسية وهو انهاء للمعالجة الأمنية للملفات السياسية . ويجمع النشطاء الحقوقيون والسياسيون في تونس على إن سنّ قانون العفو التشريعي العام هو الشرط الضروري لأي انفراج سياسي و هو المؤشر الحاسم على مدى استجابة السلطة لتطلعات المجتمع في الحرية و الديمقراطية . و إضافة إلى آلاف المحكومين المسرحين المجرمين من بعض حقوقهم، فان السجون التونسية مازلت تحبس بين جدرانها مآب المواطنين الصادرة بحقهم أحكام ثقيلة تصل الى حدّ السجن المؤبد بالنسبة للبعض منهم؟ بما في ذلك طلبة بالجامعة بسبب أنشطتهم السياسية المعرضة للحكم، كما لا يزال آلاف التونسيين مضطرين الى الغربة القسرية عن الوطن بسبب أحكام أو تتبعات متعلقة بهم ذات طابع سياسي. وما أحوج بلادنا في ظروف إقليمية و عالمية صعبة الى جمع كلمة أبنائها و الاستفادة من خبراتهم و طاقاتهم.
كما انه بقطع النظر عن المصيب و المخطئ، و بدون الحكم على مشروعية بعض الأنشطة المعارضة، أو الإجراءات الأمنية و السياسية و القضائية المتخذة من قبل السلطة ضدّ تلك الأنشطة، فأنه بالإمكان اليوم، بل من الضروري و المفيد صيّ صفحة الماضي و نشر التسامح و الطمأنينة بسن قانون العفو التشريعي العام الذي يتيح للمحاكمين فرصا جديدة للمشاركة في الحياة العامة في اطار الطموح المشروع للمشاركة السلمية في التداول على الحكم، و يتيح للسلطة إمكانية جديدة لإعادة ترتيب الشأن الداخلي و تطوير الحياة السياسية بما يستجيب أكثر لطموحات المجتمع و نخبه خاصة و يصالح بين الدولة و المجتمع .
و العفو في النهاية يبقى قيمة إنسانية متألقة مطلوبة في كل الأوقات و الأوضاع فالعفو كما يحفظ دلالته تراثنا العربي الإسلامي يعنى ” الصفح و النسيان” وهو ” لا يكون الا عند المقدرة” و هو ” من شيم الكرام” و هو قيمة دينية في الدنيا و الآخرة تتصل بالله و بالإنسان في آن
و العفو من الناحية الاجتماعية والإنسانية إجراء نوعي لرفع مظالم طال أمدها، و قطع لجذور الأحقاد و الضغائن و الثأر، و تحصين للمجتمع ضد العنف، و الانتقام ، و تحسين لظروف اجتماعية قاسية و جمع لشتات عائلات مشردة، و العفو سبيل لتأهيل بلادنا لمستقبل أفضل. فالمجتمع المحصن و المتسامح أقدر على تقبل العفو و تجنب الأحقاد و المغامرة. لهذه الأسباب المتقدمة و غيرها تحسب أن سن قانون العفو التشريعي العام ضرورة تاريخية و سياسية و حضارية و إنسانية.
- متى يتحقق العفو العام؟
أطلقت الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان والمجلس الوطني للحريات ( غير معترف به ) بتونس يوم 29 جوان2001 و بدعم من هيئات حقوقية و سياسية عديدة في الداخل والخارج حملة ووطنية ودولية من أجل العفو التشريعي العام .
محمد القوماني
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جريدة “الموقف” (أسبوعية تونسية) ، العدد223 بتاريخ 20 جوان 2003