عام على تأسيس جبهة الخلاص الوطني: إنجازات وتحدّيات

لا نفشي أسرارا حين نذكر أنّ بيان 9 أفريل 2022 الذي نشره الأستاذ أحمد نجيب الشابي بجريدة المغرب يوم الأحد 10 أفريل وتلاه أمام المسرح في اليوم نفسه على الحاضرين بالوقفة الاحتجاجية، التي نظمها “مواطنون ضد الانقلاب”، جاء بعد سلسلة من كواليس الاتصالات السياسية، شاركت فيها شخصيات وأطراف عديدة، خلال 9 أشهر من الإجراءات الانقلابية في 25 جويلية 2021. وكنت شخصيا من المبادرين بتلك الاتصالات وشاهدا على تطوّراتها. فقد اُريد ل”جبهة الخلاص الوطني” أن تكون مراكمة للمجهودات الهامة التي رعاها “مواطنون ضد الانقلاب” وتطويرا لها بالاتفاق معهم وقبولهم الانخراط فيها. ولعلّ تسمية الجبهة في حدّ ذاتها تختزل أفقا وطنيا أرحب واهتمامات أشمل من التجربة الأولى. وهي خطوة على طريق توحيد المعارضة والخروج بالبلاد من أزمتها المركبة والمعقدة. فكيف نقيّم عمل جبهة الخلاص الوطني في الذكرى الأولى لتأسيسها؟

استطاعت جبهة الخلاص الوطني بعد عام عن تأسيسها ثبيت نفسها عنوانا سياسيا ونضاليا رئيسيا في المشهد الوطني التونسي. وفي رصيدها حصيلة مشرّفة من المواقف والتحركات الميدانية التي أثبتت للمتابعين في الداخل والخارج أن للديمقراطية في تونس أنصارها (بواكيها). وأنّ الديمقراطيين حسموا معركة الشارع عدديا لصالحهم من خلال عدد الوقفات الاحتجاجية والمسيرات وعدد المشاركين فيها، مقارنة بما فعله أنصار الرئيس قيس سعيد من المساندين لمسار 25 جويلية. وإن ظلّ هذا الرصيد المشرّف غير كاف لوحده لتغيير معادلة موازين القوى على الأرض، لتحقيق هدف الجبهة فيما تسميه “إسقاط الانقلاب” وإنفاذ برنامجها السياسي.

واصلت الجبهة مشوار “مواطنون ضد الانقلاب” في الوقفات الاحتجاجية والمسيرات بالعاصمة وبعدد من العواصم بالخارج، التي بدأت في 18 سبتمبر 2021 ضدّ انقلاب 25 جويلية 2021 بكلمات جريئة ومتنوعة وعبر اجتماعات في الجهات. كما تجاسرت الجبهة على محاولات السلطة منع التحركات أو التضييق عليها مركزيا أو جهويا. وكان فرض الإرادة السياسية للجبهة في كل الحالات تجرئة للمواطنين على حق المعارضة. وتعهّدت بملف المعتقلين السياسيين دون استثناء والدفاع عنهم والمطالبة بإطلاق سراحهم من خلال وقفات احتجاجية وندوات صحفية واعتصام وتنسيق واتصالات بالعائلات…

كما واظبت الجبهة على مناكفة السلطة عبر البيانات واللقاءات الصحفية في القضايا والمحطات المختلفة على غرار الاستفتاء والانتخابات التشريعية. وكانت أهم جهة رقابية على الحكم الفردي المطلق لقيس سعيد. وأسهمت تدريجيا في تعرية السلطة وإضعافا وتراجع شعبية الرئيس ومسار 25 جويلية. رغم أنّ الرئيس نفسه يبقى أهم من يفعل ذلك عبر نهجه الانفرادي وخطاباته وفشله في إدارة الشأن الاقتصادي خاصة. وكانت الجبهة في الأثناء تبذل مجهودات لتوحيد صف المعارضة. وكانت لها محاولات متكرّرة في ذلك على غرار لقاءات مع الخماسي أو الدعوة إلى أنشطة مشتركة ميدانيا.

وفي مقابل هذه الإنجازات غير الهيّنة، تواجه جبهة الخلاص الوطني تحدّيات جمّة في واقع سياسي متحرّك وطنيا وإقليميا ودوليا.

فقد عرفت تعثّرا في التوسّع، بل تراجعت المكونات الرئيسية لها. على غرار الانقسام الذي لم يعد مخفيا في صفوف “مواطنون ضد الانقلاب”، وتراجع المكونات المستقلة الأخرى على غرار “اللقاء الديمقراطي” و”اللقاء من أجل تونس” و”تنسيقية الكتل البرلمانية”، إضافة إلى عدم انضمام شخصيات مستقلة كانت قريبة من تأسيس الجبهة، أو أطراف حزبية جديدة ما عدا ممثل “حزب البناء المغاربي”.

ولا نبالغ إذا قلنا أنّ توحيد المعارىضة بات أصعب، في غياب المراجعات المطلوبة، وتزايد أزمة الثقة بين الأطراف بسبب أخطاء تكتيكية، علاوة على التأثير السلبي جدا لحملة الاعتقالات السياسية، التي شملت عناصر هامة ذات مصداقية وتأثير في محاولات توحيد المعارضة.

ومن جهة أخرى فشلت الجبهة في إيقاف أجندة قيس سعيد في تفكيك منظومة عشرية الانتقال الديمقراطي بسرعة وسهولة مذهلين يستدعيان التفكير. بما أبان عن هشاشة واضحة في بناء تلك العشرية. فباستكمال الرئيس لأجندته وفرض وضع جديد (دستور وبرلمان …) صار الاستثناء قاعدة. وبدأنا فعليا مرحلة سياسية جديدة لا عودة بعدها إلى الوراء. في حين فشلت الجبهة في إنفاذ أجندتها في وضع البديل الديمقراطي وإطلاق حوار وطني وتشكيل حكومة تتعهّد بالأوليات الاقتصادية والاجتماعية وتؤهل البلاد لانتخابات رئاسية وتشريعية، كما جاء في برنامج جبهة الخلاص الوطني المعلن في نصّ تأسيسها.

لقد صار ملحوظا تعثّر الجبهة على صعيد وضع البديل الديمقراطي (الورقات المضمونية) رغم القناعات والكفاءات، ورغم تشكيلها “منتدى الحوار” لهذا الغرض. ولم تبرهن الجبهة عمليا عن إعطاء الأولوية للاقتصادي والاجتماعي. فلا موقف للجبهة على سبيل المثال من الإصلاحات الهيكلية للاقتصاد ولا مقترحات لها لتغطية العجز الفادح في الميزانية ومعالجة مشكلة المديونية أصلا فضلا عن البطالة وغلاء الأسعار وتردّي الخدمات العامة. وتلك أولويات عموم الشعب.

وبانزياحها عن الحل الوطني دون إقصاء (كما في نص التأسيس) إلى خطاب راديكالي وخيار القطيعة مع السلطة، تحت شعار “ما بُني على باطل فهو باطل” اللذان أبانا عن مخاطر في تهميش المعارضة والتفريط في أحد مكاسب الثورة في إدماج الجميع داخل الدولة. وتزداد مصاعب الجبهة سياسيا، بعدم واقعية استناد برنامجها إلى برلمان 2019 المُنحل ومرجعية دستور 2014 المُلغى. علاوة على استحالة إنفاذ القانون عدد 1 لسنة 2022 الذي اتخذه البرلمان في جلسة 30 مارس 2022

وبتواصل الهوّة بين المجتمع السياسي المنظم (الأحزاب والجمعيات) والمجتمع المهمش من عموم الشعب، يبدو التقاء الشارع الديمقراطي بالشارع الاجتماعي الشعبي شبه مستحيل. إضافة إلى العزوف العام عن السياسة بسبب غياب المراجعات وعدم تجديد الواجهة السياسية والعرض السياسي. كما أبانت عن ذلك نسبة عدم المشاركة في تشريعية 2023. (حوالي 90 بالمئة).

وكم تبدو حاجة الجبهة أكيدة إلى مراجعة مفهوم “المقاومة” المسقط على سياقنا والفاقد لشروطه. فالصراع السياسي بين متنافسين، ليس “معركة تحرّر وطني” كما يؤكد الرئيس قيس سعيد بدوره، ولا يناسبها “مقاومة” عدو، على غرار المشهد في فلسطين المحتلّة. ولعلّ انتهاج خيار المعارضة ومعجمها ضمن واقعية “حكم المتغلّب” ومعطيات الأمر الواقع، والاستثمار في المرجعية المشتركة للثورة والديمقراطية والبناء على رصيد الحريات وتجربة النضال الديمقراطي، يبدو الخيار الأنجع. والمعارضة بديلا عن المقاومة، لا تعني التسليم أو الموالاة، ولا تهدف إلى “التطبيع” مع سلطة الأمر الواقع كما يُراد تشويهها من البعض، بل تعني تعديل الخطاب بحسب تطوّرات الواقع، والبحث عن نجاعة التمشّي من أجل تحقيق برنامج سياسي واقعي ومُزَمَّن، وليس مجرّد إعلان مبادئ مجرّدة وعنتريات لا تغيّر الواقع.

ومن شروط النجاعة، اعتماد خطاب سياسي عقلاني في مخاطبة الرأي العام الداخلي والخارجي وعدم محورة الخطاب حول قيس سعيد. ومثال ذلك الصدع بمطلب مقنع وبسيط ومعبّئ أختصره في المطالبة بتحديد موعد لانتخابات رئاسية تعددية دون إقصاء وضمان شروط شفافيتها لحسم أزمة شرعية الحكم. فالمقترحات المسكونة بالواقعية، لا تكترث ب”العنتريات” المستندة إلى “سرديات” مختلفة حول الصراع السياسي، بين “,الانقلاب” و”التصحيح” وما بينهما من وجهات نظر في قراءة ما حصل مساء 25 جويلية 2021 وما سبقه وما تلاه. فليحتفظ كل بسرديته، ولكن لنجتمع على حلّ ولا نرتهن الوطن.

وبمثل هذا التوجّه يمكن أن تمهّد الجبهة لتفاعل إيجابي بعد جفاء، مع المبادرة المنتظرة للاتحاد العام التونسي للشغل والمنظمات، التي قد تملأ فراغ غياب خريطة طريق واقعية للخروج من الأزمة المركّبة والمعقّدة، وتقديم مضامين جاهزة للتحاور بشأنها. إضافة إلى تجهيز الجبهة نفسها إلى زمن رئاسي بدأ بعد، وتحتاج فيه المعارضة إلى مُرشّح رئاسي ديمقراطي صاحب كفاءة عالية وجذاّب وجامع، في منافسة شعبوية سعيد أو غيره.

وختاما يظلّ اشتغال جبهة الخلاص الوطني بعيد المدى على قراءة عميقة لما حصل مساء 25 جويلية 2021 من حيث أسبابه وأطرافه وأهدافه واستخلاصاته. والتحرّي في تجلية المواقف الإقليمية والخارجية عموما وحسن التعامل معها. ومعالجة استحقاقات المطالبة بالمراجعات والاعتراف والاعتذار وتجديد الطبقة السياسية والعرض السياسي والتصالح مع الرأي العام، شروطا حيويّة للانصراف إلى إعادة تشكيل المشهد الحزبي والسياسي، بالعمل على تأسيس حزب وطني متعدّد الروافد وصاحب برنامج لتونس المستقبل، يحتاجه المشهد، ويكون قادرا على كسب الرهانات الانتخابية بالأغلبية التي تتيح إنفاذ برنامج الحكم، وليس الاكتفاء بالتصدّر في المرتبة الأولى.

محمد القوماني

*مقال منشور بالعدد 358 من أسبوعية “الشارع المغاربي” من 09 إلى 15 ماي 2023.

مشاركة
    0 Comments

    No Comment.

    %d مدونون معجبون بهذه: