سلطة محلّية لأوّل مرّة في تونس: انتظارات وتحدّيات

 

جريدة الرأي العام، العدد14، تونس في  13 جويلية 2017.

 

بدت النخب السياسية التونسية المؤثّرة في مسار تونس ما بعد الثورة، كارهة إلى حدّ الحساسيّة، لكلّ ما كان يُنظر إليه على أنّه من ركائز منظومة الاستبداد والفساد والظلم. وحرصت على إقرار خيارات جديدة تدلّ على تغيّر نمط الحكم. وهذا ما لا يصعب على أيّ متابع التقاطه من مجمل الإجراءات والخيارات الأساسية.  فعلى خلفية الرغبة في التخلّص من هيمنة الحزب الواحد على المشهد السياسي وهيمنة الشخص الواحد على الدولة باعتبارهما ركيزتين للاستبداد، أُقرّت حرية التنظّم الحزبي، فتشكّلت عشرات الأحزاب في ظرف وجيز. وتمّ وضع  نظام انتخابي يمنع عمليّا هيمنة حزب واحد على البرلمان ويفرض حدّا أدنى من التعديّة داخله. ثم جاء دستور الثورة ليرسي نظاما سياسيا يوّزع السلطة المركزية بين ثلاث رئاسات ويجعل للمعارضة موقعا في القرار داخل البرلمان. ولإنهاء هيمنة المركز على الجهات وما سبّبه من تهميش ولا توازن، أقرّ الدستور أيضا سلطات محليّة وجهويّة تحدّ من المركزيّة وتؤشّر على خيار جديد في الحكم. لذلك لا نبالغ إذا قلنا أنّ الباب السّابع من دستور تونس ما بعد الثورة كان من أهمّ الإضافات والمكاسب. وهو الباب المعطّل إلى حدّ الآن، ويتطلّع التونسيات والتونسيون إلى تجسيده بدءا بالانتخابات المحلية المقرّرة ليوم 17 ديسمبر 2017. ففا هي أهمّ الانتظارات والتحدّيات المتّصلة بهذا الاستحقاق الوطني الهامّ، الذي يقترب موعده ولا يلقى ما يستحقّ من الاهتمامات على جميع المستويات؟

نصّ الفصل 131 من الدستور على أنّ السلطة المحليّة تقوم على أساس اللاّمركزية و”تتجسّد اللاّمركزية في جماعات محليّة، تتكوّن من بلديّات وجهات وأقاليم” وأضاف الفصل 132 أنّ الجماعات المحليّة تتمتّع ” بالشخصية القانونية، وبالاستقلالية الإدارية والمالية، وتدير المصالح المحلية وفقا لمبدأ التدبير الحرّ”. وأوضح الفصل 133 أنّ تلك الجماعات تديرها مجالس منتخبة وانّ القانون يضمن تمثيلية الشباب بها. وجاء الفصل 139 على النحو التالي ” تعتمد الجماعات المحلية آليات الديمقراطية التشاركية، ومبادئ الحوكمة المفتوحة، لضمان إسهام أوسع المواطنين والمجتمع المدني في إعداد برامج التنمية والتهيئة الترابية ومتابعة تنفيذها طبقا لما يضبطه القانون”.

ويتّضح من مجمل هذه الفصول أنّنا إزاء حكم محليّ لأوّل مرّة في تونس بعد الاستقلال. وأنّ توزيع السلطة للحدّ من الاستبداد تم مركزيا ويتدعّم محليا. وأنّ الديمقراطية تضمنها مؤسسات وتجسّدها انتخابات حرّة وتعدديّة وشفافة ومشاركة مواطنيّة واسعة. وأنّ أمام المواطنين فرصا جديّة لخدمة مناطقهم وتحسين الخدمات وظروف العيش. ولمعالجة مسائل التنمية العادلة وإنهاء التهميش للجهات الداخلية أقرّ الفصل 141من الدستور أنّ “المجلس الأعلى للجماعات المحلية هيكل تمثيلي لمجالس الجماعات المحلية مقرّه خارج العاصمة.” وهو ينظر “في المسائل المتعلقة بالتنمية والتوازن بين الجهات، ويبدي الرأي في مشاريع القوانين المتعلقة بالتخطيط والميزانية والمالية المحلية، ويمكن دعوة رئيسه لحضور مداولات مجلس الشعب.” فهذا المجلس يمكن أن يتحوّل فعليّا إلى غرفة برلمانية ثانية، يكون فيها تمثيل الجهات متساويا مهما كان عدد السكان، يناقش قضايا التنمية العادلة ويكون صوت الجهات ويعبّر عن مشاغلها فعليا، لأنّ الممثلين هنا ناطقون باسم الجهات وليس باسم الشعب كما في البرلمان. فالشراكة في التنمية لا تتحقّق إلاّ عبر الشراكة في السلطة والقرار.

ومن الغريب ألاّ تحظى مثل هذه الانتظارات بما تستحقّ من الاهتمام الشعبيّ والسياسيّ والإعلاميّ. وقد يعود ذلك إلى غلبة التحدّيات في هذا الاستحقاق على الانتظارات. فالحكم المحليّ الذي سيدشّن بانتخابات بلدية صارت تغطّي كامل تراب الجمهورية وستفرز 350 مجلسا لسبعة آلاف مستشار بلدي، تحدّد موعدها المتأخّر أصلا، من الهيئة المستقلة للانتخابات بعد عناء، ليوم 17 ديسمبر القادم وتمّ نشر ذلك بالرائد الرسمي، ما زالت بعض الأحزاب تجادل في ذلك الموعد وتشكّك فيه وتعمل على التأجيل لحسابات حزبية ضيّقة ومناورات سياسية لإضعاف خصوم مفترضين للفوز في ذلك الاستحقاق. كما أنّ الاستقالات بهيئة الانتخابات ومصاعب سدّ الشغور الحاصل  من مجلس نواب الشعب قبل نهاية دورته السنوية، تزيد في التشكيك ولا تساعد على التعبئة الشعبية المطلوبة فيما تبقّى من وقت قصير عن الموعد. يضاف إلى ذلك المناخ السياسي غير الإيجابي الذي تسوده الانقسامات والمناكفات الحزبية ويشتغل فيه البعض على التبئيس والتيئيس، ويستهدف فيه الانتماء الحزبي الذي يشكل جوهر التنافس السياسي الديمقراطي، وتهدّد فيه بعض الشرائح الاجتماعية أو المناطق الغاضبة أو الشباب العازف عن المشاركة، وغيرهم بمقاطعة الانتخابات. ولا ننسى ما يسبّبه تشكيل القائمات المتنافسة، التي تتضاعف فيه الصعوبات هذه المرّة، بسبب كثرة المترشحين المطلوبين في القائمة الأصلية والاحتياطية، وما فرضه القانون الانتخابي من شروط لا تخلو من عسر ومزايدة. وما يصاحب تشكيل القائمات من تنافس وتسابق ومطامع ومصالح ونعرات مختلفة وخصومات متنوعة تمتد آثارها إلى مناخ الانتخابات وما يليها.

لهذه الاعتبارات التي أوجزنا أهمّها من انتظارات وتحدّيات يبدو الجميع، وخاصّة الأحزاب السياسية، مدعوّين إلى استنهاض الهمم ومضاعفة الجهود للتدارك وكسب رهانات هذا الاستحقاق الوطني الذي نلحّ أنّه يحصل لأوّل مرّة ببلادنا، ولا يجوز أن يحجب عنا ما تعوّدناه من نظام الجماعات المحلية قبل الثورة، ما فيه من جدّة وإضافة نوعية. ولا مناص خلال الأيّام والأسابيع القادمة من مبادرات من الأحزاب الكبيرة خاصة، لتثبيت موعد الانتخابات المحلية ودفع الحملة من أجل التسجيل ومقاومة أجواء الإحباط وطمأنة المواطنين على مناخات انتخابية إيجابية، يحضر فيها التنافس على خدمة الناس ولا يغيب فيه التوافق على مصلحة الوطن.

محمد القوماني

L’image contient peut-être : 3 personnes

مشاركة
    0 Comments

    No Comment.

    %d مدونون معجبون بهذه: