رسائل متفائلة في مواجهة كورونا القاتلة
تتالت تصريحات قادة عديد من الدول العظمى خلال الأيام الأخيرة معلنة النفير في مواجهة فيروس كورونا المستجدّ، ومُعترفة في آن بالأخطار المحدقة بالإنسانية بسبب هذا الوباء الذي سرعان ما صنّفته منظمة الصحة العالمية في 11 مارس 2020 بالجائحة، بعدما تجاوز حدود منطلقه بالصين وجيرانها الآسيويين، وأصبحت دول أوروبية مناطق وبائية. إنّها معركة حياة أو موت حقيقة لا مجازا. وبعيدا عن جدال المختصّين حول أصل هذا الوباء ومنبعه والمتسبّب فيه، وآليات انتشاره وسبل مقاومته والوقاية منه، والرهانات السياسية والاقتصادية التي قد تكون وراء حالة الرعب التي تستأثر بالإعلام العالمي وتهزّ حياة الناس في مختلف القارات، بعيدا عن ذلك نتوقّف عند بعض الخواطر والاستخلاصات التي نروم تسجيلها ومقاسمتكم إياها، في سياق متابعة يوميات فيروس كورونا البغيض الذي يملأ الدنيا ويشغل الناس في هذه المرحلة.
1 ـ تعيش أجيال ما بعد الحربين أجواء حالة وبائية عامة وعالمية لأوّل مرة. فقد طالعنا في كتب التاريخ أو الأدب أحاديث عن أوبئة فتكت بالبشرية في أزمنة وأنحاء مختلفة من العالم، قبل أن يكتشف العلماء تلاقيح وأدوية لمعالجتها. وصارت بعضها أمراضا عادية قد لا تحتاج الاستعانة بالطبيب أحيانا، بعد أن كانت أمراضا خطيرة. وعايشنا أوبئة جديدة خلال العقود الأخيرة. وبعد الفتوحات المعرفية والطبية أساسا، والثورات التقنية والإعلامية، التي غيّرت واقع الإنسانية، ظننا أنّ عهد الأوبئة العارمة انقضى بلا رجعة، وإن حصل وباء فلا يعدو أن يكون محلّيا وظرفيا.
وحين بدأ تداول أخبار انتشار فيروس كورونا المستجدّ في منتصف ديسمبر 2019 في مدينة ووهان بالصين،قبل أن ينتقل إلى مناطق أخرى بها، وكان ضحاياه يتساقطون بسرعة وفي حالة من الدهشة في مواجهته في أسابيعه الأولى، ظنّ المتابعون أنّ الموضوع محليّ، بل ذهب البعض إلى أنّه “عقاب من الله لحكّام الصين” وربطوه بأحداث وسياسات إقليمية.
وربّما كان هذا الاعتقاد الخاطئ وسوء التقدير وراء مباغتة العالم بتفشّي وباء كورونا. وهذه فرصة لمراجعة تلك الاعتقادات التي ربطت الوباء بالعرق أو الدين، وكذلك الثقة المبالغ فيها في بعض المعطيات حول قدرات الدول والإنسانية الحديثة عامة، مهما كانت الفتوحات العلمية على أهميتها ونوعيتها. “وقل ربّ زدني علما”. (سورة طه، الآية 114) ويظلّ من لطف الله تعالى بعباده أن ظهر الوباء في دولة الصين ذات الخبرة والإمكانيات والتقدم العلمي والانضباط الشعبي، مما ساعد على الاكتشاف المبكّر للفيروس ومحاصرته، وتبليغ رسالة إيجابية لبقية دول العالم التي انتقل إليها الوباء.
2 ـ كان ارتباط فيروس كورونا المستجدّ بالصين، مصدرا لحملات وممارسات عنصرية في البداية، شملت صينيين وذوي ملامح آسيوية في بقاع مختلفة من العالم. وانتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي فيديوهات وصور تظهر ممارسات عنصرية ومنها هتافات تصف أشخاصا صينيين ينادون بـ”كورونا”. وشهدت تونس للأسف أمثلة في هذا الاتجاه. وسرعان ما انتقل الوصف العنصري ليشمل القادمين من مناطق موبوءة، من أوروبيين وغيرهم، بل توسّع الأمر ليمتدّ إلى مهاجرين في بلدانهم الأصلية.
وبعد أن كان المقيمون بالخارج مرحّبا بهم في عودتهم إلى أوطانهم، صاروا مصدر إزعاج وحصلت معهم ممارسات مسيئة قولا أو فعلا. وحتّى لا نذهب بعيدا نذكر أنّ تونسيين ومن بينهم نائب شعب بالبرلمان، اشتكوا من سلوكات خاطئة ذات صلة بكورونا. وقال البعض بعدم إنجاد من علقوا بالمطارات والمعابر. وقال آخرون نريد أموالكم لمساعدتنا على ما نحن بصدده ولا نريد عودتكم. وكانت طريقة الإعلام بوجوب الحجر الصحي أو التبليغ عن القادمين من الخارج مؤخرا مصدر إزعاج وإساءة لبعضهم.
وقد تنقلب العنصرية إلى أنانية مفرطة، تكشف هشاشة التضامن بين الإنسانية وبين الدول، وهيمنة الفردية في مقاومة خطر لا يمكن درؤه إلا بسلوك جماعي وتضامن لا غنى عنه. وقد صار الاستهتار الفردي بصحة الآخرين، وعدم الانضباط للحجر الصحي الذاتي من أهمّ المخاطر التي تتهدد الصحة العامة بتونس، مما استدعى المطالبة بالعقوبات والمراقبة الأمنية وفرض حظر الجولان مساء. وفي التوقّف عند هذه السلوكات ونقدها فرص لاختبار مدنيّتنا وتحضّرنا وتصحيح أخطاء فادحة في سلوكنا المواطني والإنساني.
3 ـ كان الإقبال المبالغ فيه على المحلات التجارية للتزوّد الاحتياطي بالمؤونة تحسّبا لتطوّر دراماتيكي للوباء في بلادنا، سببا آخر في سلوكات طالما تمّ انتقادها مرارا ونبّهت إليها منابر إعلامية عديدة. فهي إضافة لما تنطوي عليه من لهفة وأنانية وسوء تقدير، تكون تلك السلوكات في أغلب الأحيان سببا رئيسيا في الاحتكار وارتفاع غير مسبوق في أسعار بعض المواد. وهنا يكون السقوط الأخلاقي لبعض المزوّدين وبعض المستهلكين في ظرف يوصف بالكارثة الوطنية. فالتهديد الذي يوصف بالحرب يستوجب التضامن ورفع منسوب الشعور الجماعي والغبرية.
وقد يكون تقييم المردود الجماعي في هذه الأزمة الوطنية غير المسبوقة مناسبة لتقويم ما اعوجّ في تفكيرنا وسلوكنا. ولعلّ المبادرات المدنية الفردية والجمعياتية في تقديم المساعدة الميدانية والمالية، والتبرع لمعاضدة مجهود الدولة في الصحة وتأمين طرق مقاومة انتشار وباء كورونا، رسائل إيجابية في تأهيل بلادنا لمواجهة أوضاع أكثر خطورة يتوقعها المتابعون قبل بداية التعافي.
4 ـ اجتاح وباء كورنا بلادنا مطلع هذا الشهر، ليصل عدد المصابين اليوم إلى حوالي الثلاثين، حسب الإحصائيات الرسمية، وقد يكون أكثر. وقد دخل علينا في وضع سياسي تشقّه خلافات حادة في مستويات عديدة، وفي ظرف اقتصادي واجتماعي صعب جدا، ومع بداية حكومة جديدة، وتلك عوامل غير مناسبة. وأمام الضغط العالي للخطر الوبائي، والدور المؤثر للإعلام، والمبادرات المعلنة من بعض الأحزاب والمؤسسات الوطنية والمحلية، وتحمّل مجلس نواب الشعب لمسؤولياته في إطار من التضامن، تتالت الإجراءات الاستثنائية المعلنة من السلطة التنفيذية، سواء من رئيس الحكومة أو من رئيس الجمهورية مؤخرا. ورغم خطابات البعض التي لم تغادر مربعات الصلاحيات والمنافسة السياسية، فإنّ المزاج الوطني العام يضغط باتجاه تضامن مختلف السلط وتكاملها واستبعاد خطابات المناكفة والحسابات السياسية الحزبية والفردية، أو تأجيلها على الأقل.
تعتصر القلوب وتتعالى أدعية الصادقين وترتفع وتيرة الاستعدادات وأخذ الأمور بأكثر جدية في مواجهة جائحة كورونا، ويسابق العلماء الزمن في تحليل الفيروس ومشتقاته وبحث اللقاح والدواء المناسبين له. وإذ نتفاءل خيرا في الانتصار على هذا الوباء على غرار ما سبقه، في تونس وفي كل أنحاء العالم، فإننا نضمّ أصواتنا وجهودنا إلى من يجتهدون في مزيد نشر الوعي بأخطار أي تقصير أو استهتار أو تراخ فردي أو جماعي، ومن أي موقع في مواجهة هذا الخطر الداهم. وأن نصبر ونتضامن وطنيا وعالميا ونضحّي لبعض الوقت، في محاربة عدوّ مشترك لنسعد بعد هزمه بحياة أفضل، خير من أن يتسلّل إلينا الوباء الخبيث من بين ثغراتنا التي أشرنا إلى بعضها، فيهزمنا ويحرمنا الحياة أصلا. فأحيانا للأسف، لا ينتبه أحدنا إلى الخطر حتّى يصيبه أو يصيب من يحبّ. وإذ تقول الحكمة من قبل “الوقاية خير من العلاج”، فما بالكم أنّ العلاج اليوم متعذّر.
محمد القوماني
*منشور بجريدة الرأي العام، العدد 149، تونس في 19 مارس 2020
مقالات ذات صلة
25 جويلية: جمهورية مغدورة.. وذكرى حزينة..
2023-07-25