حرب على الفساد..هل تحارب الدولة نفسها؟

 

جريدة الرأي العام، العدد9، تونس في  01 جوان 2017.

تلازم رفض الفساد مع رفض الاستبداد في الثورة التونسية، باعتبارهما الركيزتين الأساسيتين لمنظومة حكم المخلوع بن علي. تقدّم مسار الانتقال الديمقراطي في القطع مع الاستبداد بوضع دستور جديد للجمهورية الثانية  يضمن الحقوق والحريات ويوازن بين السلطات ويضع آليات للرقابة والتعديل، وتنظيم انتخابات تعدّدية وشفّافة وبداية إرساء المؤسسات الدستورية الضامنة، لكنّ النتائج في مقاومة الفساد كانت خلاف ذلك. فقد ارتفع منسوبه بعد الثورة واستفاد من ضعف الدولة ليستشري أكثر، بما لم يساعد على بناء الثقة بين الحكّام والمحكومين. وقد لاقت الإجراءات الأخيرة لرئيس الحكومة في إيقاف بعض المشتبه بهم في قضايا فساد، خاصة ممّن يُعتقد أنّهم رؤوس ورموز، ترحيبا وتأييدا واسعين، رغم بعض التشكيك والتحفّظ، وتحدّث الكثير في منابر مختلفة عن انطلاق الحرب على الفساد. ويهمّنا أن نتوقف هنا على بعض ملابسات ما حصل بعد أكثر من أسبوع من تلك الإيقافات، وعن دقّة إطلاق عنوان “الحرب على الفساد”  في وصف ما يحصل، وعن التكلفة الظرفية المحتملة لهذه الحرب والشروط المطلوبة لاستمرارها حتى تحقيق أهدافها.

1 ـ دعم حذر..

لا خلاف بين التونسيين وحتّى بين المراقبين في الخارج، على أنّ الفساد أهمّ الأخطار التي تتهدّد الدولة، لذلك عبّرت أطراف عديدة عن استحسان ما أقدم عليه السيد يوسف الشاهد أساسا، باعتبار الصبغة المفاجئة والطابع الاستثنائي للإجراءات. إذ يعتقد الكثير أنّ “الأيادي المرتعشة” للحكومات المتعاقبة بعد الثورة، كانت السبب الرئيسي لاستشراء الفساد والإفلات من العقاب. لذلك يحيّون شجاعة الحكومة الحالية ويرون فيما أقدمت عليه سابقة وخطوة هامّة، وإن كانت متأخرة، في استعادة هيبة الدولة وسلطة القانون. ناهيك أنّ أحد الموقوفين، بل أهمّهم، بالغ في الاستهتار بالدولة وتحدّى منذ مدّة قصيرة رئيس الحكومة شخصيا، بأنّه عاجز عن “إدخاله السجن” بعدما راجت أخبار وتحليلات عن احتمال استهدافه.

وفي المقابل يتحفّظ البعض ويشكك آخرون في جديّة هذه الإيقافات وما يمكن أن يعقبها لترتقي إلى حرب حقيقية ضدّ الفساد. وهي في نظرهم لا تخرج عن كونها تسجيلا لنقاط سياسة في مشوار يوسف الشاهد وتأسيسا لشرعية له، وجوابا عن تحدّي شخصي وتصفية لحسابات داخل حزب نداء تونس الذي  ينتمي إليه رئيس الحكومة وتواجهه مشاكل داخله في الفترة الأخيرة. ولا شك أنّ رصيد الخيبات في السابق وأزمة الثقة بالحكم تزيد في تغذية هذه الاحتمالات. فلا ينسى بعض التونسيين على الأقل شعار “لا ظلم بعد اليوم” وجُمل بيان السابع من نوفمبر 1987 الرنّانة و”الزيارات الفجئية” لبن علي  و”صندوق 26/”26 للقضاء على الأكواخ والأوضاع المزرية بالمناطق “السوداء” من تونس الخضراء. هذا فضلا على أنّ المعطيات التي توفّرت تفيد أنّ القرار لم يتّخذ جماعيا في مجلس وزاري للحكومة، أو إحدى المؤسسات العليا للدولة، ولا يعبّر بوضوح عن إرادة سياسية وخطّة للدولة. فالخطوة كانت من تدبير مجموعة مقرّبة من رئيس الحكومة  فاجأت مختلف الأوساط، ولا تخلو من حسابات سياسوية وطموحات “جيل جديد”. وتبدو بعد أسبوع أنّها إجراءات محدودة وليست حملة ولا مسارا ولا حربا كما يروّج البعض. ولهذه الأسباب وغيرها يأتي التأييد حذرا في انتظار ما يخالف ذلك. ولأنّ التشكيك في النوايا غير مفيد ولا مبرّر له، والإجماع حاصل حول شرعية مكافحة الفساد الذي جاء في النقطة الثانية من وثيقة قرطاج، فإنّ الأصل أن  تقدّر الأمور بقدرها، دون نسيان ما تعلّمناه من الحياة بأنّه في المعاملات كما في السياسة لا نعطي صكّا على بياض.

2 ـ حرب الدولة ضدّ نفسها..

شملت الإيقافات شخصيات تنتمي في أغلبها إلى القطاع الخاص من المتّهمين بالتهريب والعمل خارج القانون، وهذا قليل جدّا من كثير. ويعلّمنا التاريخ أنّ المجهولين في هذا العالم “السريّ” ممّن يعملون في صمت ويحركون الخيوط دون أن يتفطن إليهم أحد، هم الأكثر خطورة من المعلومين، خاصّة إذا كانوا من المتهافتين على الظهور الإعلامي أو من أصحاب الخصومات المتعددة المعلومة. لكنّ الجميع يعلم أنّ هؤلاء ما كان لهم لينجحوا في أعمالهم غير المشروعة لولا تواطؤ متعاونين معهم من داخل أجهزة الدولة الحسّاسة من المحمولين على مراقبتهم ومحاسبتهم. فالفساد الأصلي في الدولة نفسها، أي في الإدارة والأجهزة ومنظومة الحكم. إذ المتعاونون مع المهرّبين والمفسدين جزء من منظومة الفساد. ولا ندري بدقّة هل هو الجزء الأصغر أو الأكبر؟ ولذلك تكون الحرب على الفساد إن صدق العزم، حربا الدولة ضدّ نفسها لتتطهّر من فسادها المستشري في مفاصلها والممتدّ في كامل جسمها. وأحسب أنّ التفكير في حجم هذه الحرب وأدواتها ومداها الزمني عناصر كافية لتعطي فكرة عن تكلفة هذه الحرب التي لا مفرّ منها وعن مستلزمات كسبها. لذلك يصرّح الجميع بما في ذلك المسؤولون بأنّ الحرب على الفساد أخطر من الحرب على الإرهاب. فالأخير في الغالب عدوّ خارجي للدولة لا حاضنة له، والفساد عدوّ داخلي وإخطبوط  له حواضن عديدة. وبعبارة دقيقة لصديقي نور الدين الختروشي في العدد السابق من هذه الجريدة “الإرهاب مخلب قط أسود على خدّ الوطن، والفساد ورم سرطاني في قلب الدولة.” فكم هي كلفة استئصال الورم الخبيث عافاكم الله من جسد منهك أصلا؟.

        3 ـ كلّكم تبكون فمن سرق المصحف؟

مع الإقرار بشرعيّة الحرب على الفساد وحيويّتها وحاجتها أحيانا إلى إجراءات استثنائية تناسبها، على غرار قانون الطوارئ أو قانون مكافحة الإرهاب وغسيل الأموال أو المحاكم العسكرية…فإنّ أصواتا عديدة مُحقّة في الدعوة إلى ضرورة التقيّد بالقانون وضمان احترام حقوق الإنسان في هذه الحرب كما في الحرب على الإرهاب. فالنوايا الحسنة، إن صحّت،  لا تشرّع الأعمال السيّئة. فلا شيء يبرّر المظالم في حقّ أيّ طرف. ومن تعوّد على خرق القانون لن يرتدع على تكرار ذلك. وتجاربنا في تونس مرّة في اعتماد التدابير الاستثنائية وليس العهد ببعيد. وكم من عناوين معارك بدت مشروعة استغلت لغايات غير مشروعة أو كانت مناخا لاستشراء الفساد نفسه والتغطية على الاستبداد. ولا شيء يضمن أنّ الحرب على الفساد إذا لم تكن متقيدة بالقانون وشفّافة قد تأتي سلبيا على مكاسب القطع مع الاستبداد.

وإذا كان إيقاف النزيف مستعجلا ووضع حدّ للتجاوزات مطلوبا ومحاسبة المخالفين شرطا للتجاوز، فإنّ الأهمّ من ذلك كله كيف نرسي دولة القانون والمؤسسات وننجح في تكريس الحوكمة الرشيدة التي تظلّ الضامن الأساسيّ لمنع الفساد مستقبلا أو تقليص منسوبه إلى أدنى المستويات. فذلك هو الجهاد الأكبر الذي يسري على الأفراد من المسؤولين وأعوان الدولة عموما كما يسري على مختلف السلطات والأجهزة والمؤسسات وعلى رأسها السلطة القضائية الضامنة للعدل بصفته شرطا للعمران. ومن قبل قال الإمام الأشعري “كلكم تبكون فمن سرق مصحفي”؟.

L’image contient peut-être : 2 personnes, texte

مشاركة
    0 Comments

    No Comment.

    %d مدونون معجبون بهذه: