حكومة الفخفاخ: هل تكون انتقالية وبلا صاحب؟

      يوشك رئيس الحكومة المكلّف إلياس الفخفاخ على استنفاذ نصف المدة الدستورية لتشكيل حكومته، ولم تتّضح بعد حظوظ نيلها ثقة البرلمان. ففي الوقت الذي تبدو فيه السياقات الحالية مناسبة لفتح الطريق عريضة للحكومة المرتقبة، تطفو على المشهد مؤشرات على صعوبات حقيقية قد تحول دون مرورها، وترجح الدعوة إلى إعادة الانتخابات. فمع استبعاد الفخفاخ لحزبي الدستوي الحر وقلب تونس، تصبح تحفظات حركة النهضة وائتلاف الكرامة وكتلة الإصلاح محدّدة عدديا لنيل الثقة من عدمها. وإذا أصرّ الفخفاخ على خياره المعلن في السياج السياسي لحكومته، فإنّ العوامل الموضوعية، إذا ظلّت على حالها، ستكون وحدها المرجّحة لإمكانية مرورها بتصويت الأغلبية المطلوبة لها، لكنها على الأغلب ستكون عمليا حكومة أقلية وسياسيا حكومة بلا صاحب.  ولا يستبعد أن تخضع بعد مرورها لضغط عال من أغلبية، بما يجعلها حكومة انتقالية محدودة الزمن والقدرة على الفعل.

      فقد عقد مجلس شورى حركة النهضة دورته 37 يوم الأحد 26 جانفي 2020 وناقش خيارات الحركة بعد تكليف السيد إلياس الفخفاخ بتشكيل الحكومة ودعا في بيانه إلى “توسيع المشاورات لتشمل مختلف الكتل النيابية وذلك لتوفير حزام سياسي واسع” و”بما يضمن الوصول إلى حكومة وحدة وطنية ذات مضمون اجتماعي ديمقراطي”. كما أوصي المكتب التنفيذي “بالتهيؤ لكل الاحتمالات بما فيها الانتخابات السابقة لأوانها على أن يبقى مجلس الشورى في حالة انعقاد دائم”. وقد تلقت مختلف الأوساط السياسية والإعلامية بيان شورى النهضة باعتباره خطوة تصعيدية في مواجهة خيار الفخفاخ، وهو بالحدّ الأدنى محاولة للضغط من أجل تعديله. ويبدو أن لقاء الفخفاخ بالغنوشي صباح الثلاثاء تركّز حول هذا الموضوع دون أن ينتهي إلى اتفاق واضح. وقد اجتمعت لجنة المفاوضات لحركة النهضة في نفس اليوم الثلاثاء 28 جانفي 2020 لتنظر في فحوى هذا اللقاء، ولمتابعة مجريات اللقاء الذي حضره السيدان عماد الحمامي ونور الدين العرباوي عن الحركة، وجمع عددا من الأحزاب بالسيد إلياس الفخفاخ وفريقه للتداول في وثيقة البرنامج الحكومي. وأكد البلاغ الإعلامي الصادر عن اجتماع  اللجنة مجددا “على أهمية التعجيل بتشكيل حكومة وحدة وطنية مصغّرة تضمّ كفاءات حزبية سياسية”..

      وكان حزب قلب تونس قد استنكر تصريحات رئيس الحكومة المكلف  إلياس الفخفاخ في أول ندوة صحفية له يوم الجمعة 24 جانفي 2020 وأصدر مكتبه السياسي بيانا في الغرض يومها ختمه بالتذكير “بموقفه المبدئي من طبيعة هذه الحكومة التي يجب أن تتشكّل بسرعة وأن تكون حكومة وحدة وطنيّة وهو أمر طبيعيّ بالنظر إلى الوضع العام العصيب الذي تمرّ به البلاد نتقاسمه مع بقيّة الأحزاب التي عبّرت عن هذا الموقف وتبنّت نفس المبدأ”. وفي اجتماعه الدّوري ليوم الثلاثاء 28 جانفي 2020 جدّد حزب قلب تونس مطالبة رئيس الجمهوريّة بتوضيح رؤيته وموقفه من التضارب البيّن بين ما جاء في خطاب التكليف من إشارة إلى احترام إرادة الناخبين في الانتخابات التشريعيّة واحترام مقترحات الأحزاب والكتل النيابيّة “وأنّ الحكومة التي سيتمّ تشكيلها لن تكون حكومة رئيس الجمهوريّة بل هي التي سيمنحها مجلس النوّاب الثقة” وبين ما جاء على لسان السيّد إلياس الفخفاخ من أنّه يستمدّ شرعيّته في تشكيل الحكومة من نتائج الانتخابات الرئاسيّة وحدها، مشيرا ضمنيّا إلى أنّ حكومته ستكون حكومة الرئيس. وكان لافتا ما اختتم به البيان على غرار ما تضمنه بيان شورى النهضة أنّه “تحسّبا لكلّ الاحتمالات قرّر المكتب السياسي لحزب قلب تونس تفعيل اللجنة المكلّفة بالإعداد للانتخابات ودعوتها إلى الانعقاد ودعوة القيادات والقواعد الجهويّة إلى الاستعداد لكلّ طارئ في هذا الشأن”.

      وإذا أضفنا إلى هذا التقاطع في الموقف “الصارم” من خيار الفخفاخ بين الحزبين الأوّلين النهضة وقلب تونس، الاشتراطات “التعجيزية” التي عبر عنها الناطق باسم ائتلاف الكرامة سيف الدين مخلوف للمشاركة في الحكومة، والتحفظات التي يبديها رئيس كتلة الإصلاح الوطني حسونة الناصفي، ندرك جيدا حجم المعارضة التي ستلقاها حكومة الفخفاخ من هذه الكتل الوازنة والتي لا يستبعد أن تتحوّل قبل المصادقة على الحكومة أو بعدها إلى “جبهة برلمانية” ستكون محدّدة في المشهد البرلماني والسياسي مستقبلا.

      تبدو حجج الدعوة إلى حكومة وحدة وطنية وجيهة وقوية، بصرف النظر عن الحسابات الحزبية لأصحابها. فرئيس الحكومة المكلّف إلياس الفخفاخ لا يستند إلى كتلة برلمانية ولم تأت به صناديق الاقتراع أصلا. وهو مكلّف من رئيس الجمهورية على خلفية “الشخصية الأقدر” وليس الأجدر، على المعنى الدستوري للفقرة الثالثة من الفصل 89 التي تفترض إمكانية حصوله على الأغلبية المطلوبة لنيل الثقة بالبرلمان، بعد فشل سلفه في ذلك على مقتضى الفقرة الثانية. وتوفّر “حكومة الوحدة الوطنية” التي لا يُقصى منها إلا من رفض المشاركة، أكبر ضمان لمرور الحكومة. علاوة على الحاجة إلى أغلبية معزّزة من 145 صوتا فأكثر، تضمن لاحقا استكمال تنزيل الدستور  بانتخاب أعضاء المحكمة الدستورية الراجعين بالنظر إلى مجلس نواب الشعب وانتخاب الهيئات الدستورية ودعم مشاريع القوانين التي تقدمها الحكومة وتحتاجها لتسيير البلاد. هذا علاوة على طبيعة المرحلة السياسية وما تستوجبه من وحدة في مواجهة التحديات الداخلية وفي مقدمتها إنفاذ الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية المتأكدة لمواجهة البطالة والفقر ومحاربة الفساد وتحقيق التنمية وتحسين عيش المواطنين، ومواجهة التحديات الخارجية الناجمة خصوصا عن الحرب المتصاعدة بالجارة ليبيا وتداعياتها الكبرى على حدودنا وبلادنا.

      في ظلّ التجاذبات  السياسية والحزبية الحالية تبدو حكومة الفخفاخ سياسيا بلا صاحب. فرئيس الجمهورية قيس سعيد صرّح يوم التكليف أنها ليست “حكومة الرئيس” بل حكومة البرلمان الذي سيمنحها الثقة. والأحزاب التي قد تشارك فيها لا تعتبرها حكومتها. ورئيس الحكومة المكلف لا ينتمي إلى حزب ممثل بالبرلمان ولا يستند صراحة إلى كتل أحزاب بعينها. وشرعية الانتخابات الرئاسية في دورها الثاني التي ألمح إليها الفخفاخ لا تستقيم، لأنّ البرلمان  الذي تنتمي الأغلبية الساحقة لأعضائه إلى الأحزاب  من يمنح الثقة، وليس ناخبو قيس سعيد، الذين ينتمي جزء هام منهم إلى الأحزاب أيضا.

      على السيد إلياس الفخفاخ أن يعتبر من تجربة سلفه السيد الحبيب الجملي. فقد أكّدت تصريحات من داعمي حكومته وحتى من المعارضين لها في مرحلة معينة من مسار تشكيله، أن الأغلبية المطلوبة لتمريرها مضمونة، لكن النتيجة يوم التصويت كانت مخيّبة. ولعلّه قد صار من خصوصيات الديمقراطية التونسة أنّ تصويتها لا يبوح بأسراره إلاّ بعد الفرز. كما كان الدرس في أنّ من يستبعد الأحزاب تستبعده.

      قد تسعف العوامل الموضوعية الفخفاخ أكثر من الجملي. فهو الفرصة الأخيرة قبل الدعوة إلى إعادة الانتخابات، بما فيها من تكلفة مادية وسياسية وإحالة على المجهول، والتي تظلّ فرضية جدّبة. وقد تكون الحاجة إلى إنهاء حكومة الشاهد، التي صارت ضعيفة عددا وأداء، وبات ضررها واضحا، أحد الأسباب القوية التي تدفع لمرور الحكومة الجديدة. وإذا أصرّ الفخفاخ على رفض مقترح الحكومة الوطنية، فإنّ احتمالات مرور حكومته ستكون بأغلبية محدودة. وستكون بعد التصويت عليها أقرب إلى حكومة انتقالية بلا صاحب، قد لا تصمد طويلا أمام مطرقة المطالب الشعبية المتصاعدة، وسندان الجبهة البرلمانية الضاغطة. فالمشهد البرلماني والسياسي التونسي متحرّك ومفتوح، ومن الإدّعاء الجزم باتجاهاته المستقبلية.

محمد القوماني

*مقال منشور بالعدد 142 من أسبوعية “الرأي العام”، تونس في 30 جانفي 2020.

مشاركة
    0 Comments

    No Comment.

    %d مدونون معجبون بهذه: