حكومة الشاهد في منزلق خطر.. هل تؤكد تونس نجاحها السياسي؟
جريدة الرأي العام، العدد 30، تونس في 09 نوفمبر 2017
حين يفشل البرلمان في انتخاب رئيس لهيئة الانتخابات، خلال أربع عمليات تصويت في مناسبتين متباعدتين، فإنّ ذلك بلا شكّ عنوان أزمة متصاعدة في الائتلاف الحاكم الذي يضمّ أحزابا يشكّل نوّابها أغلبيّة مريحة. وحين تتعالى أصوات قيادات أولى من تلك الأحزاب تنتقد الحكومة أو تهدّد بعدم التصويت لميزانيتها أو تهاجم أحزابا أخرى شريكة لها في الحكم، فإنّ ذلك مما يزيد الوضعية مأزقيّة. وحين تهدّد منظّمات مُمضية على وثيقة قرطاج، التي تشكّلت على أرضيتها حكومة الوحدة الوطنية، ويتزامن ذلك مع عودة الإرهاب إلى استهداف قوات الأمن في قلب العاصمة، وعودة الاحتجاجات القطاعية والاجتماعية، وتوتّر الخطاب السياسي والإعلامي وعودته إلى مربعات الاستقطاب والاتهامات المجانية، فإنّ كلّ تلك العوامل حين تجتمع إنّما تؤشر، بعيدا عن كل تشاؤم، على بداية شتاء ساخن يضع حكومة السيد يوسف الشاهد على صفيح قد لا تتحمّله طويلا، ويدفع بالبلاد إلى أزمة سياسية لا تساعدها على معالجة القضايا الاقتصادية المتأكّدة. فمنذ نهاية السنة البرلمانية والسياسية المنقضية، كانت المؤشرات واضحة على أزمة سياسية في الأفق، تناولناها في إبّانها، وظننّا أنّ التعديل الوزاري الواسع مطلع السنة السياسية الجديدة قد امتصّ أهم أسبابها، لكن يبدو أنّه أجّلها ولم ينجح في حلّها. وها نحن إزاء مؤشرات أشدّ دلالة وتعقيدا.
فقد عاد التوتّر بين حزب النداء ورئيس الحكومة، ولم يعد خافيا الحديث عن سعي كل منهما إلى تشكيل مشهد يستغني فيه عن الآخر. وهنا على سبيل المثال، يتمّ ربط مساعي تشكيل جبهة برلمانية “ديمقراطية وتقدمية” من عدّة كتل ونواب من حزب النداء، بأجندة الشاهد السياسية. إذ لا يستقيم أن تكون هذه الجبهة داعمة للحكومة، وتقول عن نفسها أنها من أجل خلق توازن مع النهضة والنداء، وهما ركيزة الائتلاف الحاكم. وتُفهم تصريحات بعض قيادات النداء المنتقدة بشدّة لمشروع ميزانية 2018 وربما التهديد بعدم التصويت لها، في هذا السياق من التجاذب. بل يذهب البعض إلى أنّ عدم حرص النداء على إجراء الانتخابات البلدية، التي يعدّ إنجازها مكسبا لحكومة الشاهد، يندرج في نفس الحسابات.
كما أنّ عدم جمع 109 من الأصوات لانتخاب رئيس لهيئة الانتخابات من بين أعضائها الذين حصلوا في تزكيتهم على 145 صوتا، وكان ذلك بالنسبة لبعضهم خلال الأسابيع الأخيرة، بما يعني بوضوح أنّ المسألة ليست فنّية وأنّ المعادلات داخل البرلمان لم تتغير، وإنّما الأزمة السياسية فعلت فعلها، وربّما نالت جزئيا من العلاقة بين الحزبين الرئيسيين النهضة والنداء. وقد سبق ذلك عدم انسجام واضح في الائتلاف الحاكم خلال التصويت لقانون المصالحة الإدارية، أو لسدّ الشغور بهيئة الانتخابات. وها أنّ الخلافات تتجاوز الرسائل المشفّرة، لتتوضّح من خلال مواقف حادّة و”سريالية” إلى حدّ ما. على غرار إعلان الحزب الجمهوري “انسحابه من الحكومة” بعد استقالة وزيره الوحيد إيّاد الدهماني من حزبه “الجمهوري”، واتهام أمين عام الحزب عصام الشابي للنداء بالضغط على الدهماني من أجل الاستقالة، ووصفه للعلاقة بين أحزاب الائتلاف الحاكم بأنّها أقرب إلى “الحرب الأهلية”. وها أنّ ياسين إبراهيم أمين عام حزب آفاق تونس يصعّد هو الآخر من انتقاداته السابقة لتحالف النهضة والنداء، ويتماهى مع خطاب الجبهة الشعبة، فيهاجم حركة النهضة كما لم يحصل من قبل، ويسحب منها “الطابع المدني والديمقراطي” ويتّهمها ضمنيا بدعم الإرهاب، ويدعو إلى هزمها في انتخابات 2019 وإجبارها على التموقع في المعارضة 5 سنوات على الأقل “لتبرهن على نبذها للعنف”. ويضاف إلى هذا المشهد الحزبي المتوتّر تهديدات اتحاد الأعراف بالانسحاب من “وثيقة قرطاج” وتبنّي صيغ تصعيدية ، بما في ذلك “الإضراب” وإغلاق المؤسسات، في مواجهة الحكومة، إذا لم تتخلى عمّا رأته المنظمة تهديدا للمؤسسات ولأصحاب الأعمال في مشروع قانون المالية وميزانية 2018.
هذه المؤشرات على خطورتها، نحسب أنّها ستجد التعاطي الحكومي المناسب معها، ولا تشكّل تهديدا جدّيا للاستقرار السياسي بتونس ولا تشي بمفاجآت أو سيناريوهات “سريالية” هي الأخرى، يروّج لها البعض وتلقى هوى في أوساط مهووسة بالتقلّبات الإقليمية أو غاوية للتهويمات المؤامراتيّة أو الفرقعات الإعلامية. فدعوة بعض الأطراف على غرار الجبهة الشعبية لانتخابات تشريعية ورئاسية سابقة لأوانها، لا مبرّر ولا حظوظ واقعية لها. فهي مزايدة سياسية لا أكثر. لأنّ الانتخابات المبكّرة التي تعدّ آلية من آليات العمل الديمقراطي، يدعو لها طرف وازن في الحكم أو المعارضة، إذا تعذّرت الأغلبية بالبرلمان، وهذا ليس واقع الحال ببلادنا وغير متاح للجبهة الشعبية التي لا يؤهلها وزنها البرلماني والسياسي للدعوة إلى مثل هذا الإجراء. كما أنّ “التوافق” الذي يحكم المعادلة السياسية منذ مخرجات “الحوار الوطني” وتعزّز بعد انتخابات 2014، لا يزال قائما ومطلوبا، رغم الاستهداف الداخليّ والإقليميّ له، نظرا لما تأكّد من نتائجه الايجابية على البلاد وعلى الأطراف المنخرطة فيه، وما يحظى به من استحسان ودعم إقليميّ ودوليّ. وليس دقيقا القول بأن “التوافق” حاصل بين شخصي الرئيس الباجي والشيخ الغنوشي فقط، فقد بدأ كذلك وتوسّع ليشمل حزبي النداء والنهضة أساسا، ويضمّ أطرافا أخرى لاحقا، ويتحوّل تدريجيا إلى عمل مِؤسساتي في الحكومة وفي البرلمان، ويتعزّز برسائل في دعم الثقة على غرار الانتخابات الجزئية القادمة في دائرة ألمانيا، ويصير خيارا وليس تكتيكا، في مواجهة مصاعب وخصوصيّات مرحلة دقيقة في الانتقال الديمقراطي. ولا عجب أن يصبح “التوافق التونسي” مصدر إلهام وتجربة ناجحة تستفيد منها تجارب عربية أخرى، ليكون “التوافق والإدماج والتعايش” نهجا في مواجهة “التنافي والإقصاء والاحتراب الأهلي”. ومن جهة أخرى لا تبدو التوازنات السياسية مرشّحة لتغييرات جوهرية في ظل المشهد الحزبي المنظور، والاستحقاقات الانتخابية القادمة.
إنّ من أوكد ما تحتاجه بلادنا في هذه الأوضاع لتأكيد نجاحها السياسي بصفته شرطا للنجاح الاقتصادي، بعث رسالة أقوى في الحكم، وفي بثّ الأمل، وفي لجم الأطماع الداخلية والخارجية، بـتعزيز الثقة بين حزبي النداء والنهضة، وفكّ الاشتباك بينهما في القضايا الجوهرية بمجهود نظري وسياسي لم يحصل بعد، وتأكيد التحالف المستقبلي وتوسيعه ما أمكن، على قاعدة تقديم المصالح الوطنية على الحزبية والشخصية، وطمأنة الشعب على الوفاء للشهداء رحمهم الله تعالى والمضيّ في إنفاذ الدستور واستكمال الانتقال الديمقراطي وتحقيق أهداف الثورة في الحرية والكرامة.
محمد القوماني