حركة النهضة عنوان الديمقراطية وصمّام أمان لها..لكن.. تعالوا إلى كلمة سواء
مع استمرار الأزمة السياسية المفتوحة منذ أشهر والتي يبدو أنّ التحوير الوزاري الأخير المُعلن لن يضع حدّا لها، تتعالى بعض الأصوات المنادية بإقصاء النهضة من المشهد السياسي تحت عناوين متعدّدة، تختلف في المداخل وتتفق في الغاية. فالنهضة في خطاب هؤلاء من الأحزاب أو الأشخاص، ملف أمني وليست منافسا سياسيا، والسجون والمنافي هي الأماكن التي تليق بقياداتها وأنصارها. وينبري البعض دفاعا عن النهضة، فتراهم يشيطنون هؤلاء الخصوم بتقليب دفاترهم وتقزيم أحجامهم والتشكيك في نواياهم، حتّى لا يكادون يرون لهم من فضيلة ولا موقع في المشهد، ولا يليق بهم إلا التشهير والإقصاء، وإن لزم المحاكمة والسجن. وهكذا لا تبدو الديمقراطية الناشئة فقط مهدّدة بعد ثمان سنوات من الثورة، بل يبدو الاستقرار السياسي مستهدفا أكثر من أي وقت مضى. فأوّل الحرب كلام كما يقال.
ماذا يعني اتهام النهضة بالضلوع في العنف والإرهاب قبل الثورة؟ وبالاغتيالات السياسية أثناء قيادتها للحكم؟ ونفي الطابع المدني عن تنظيمها السياسي بعد ثمان سنوات من العمل القانوني؟ هل من مؤدّى سياسي لهذه الاتهامات الخطيرة غير شطب النهضة من المشهد السياسي بحظر نشاطها ومتابعة قيادتها وأنصارها؟ بصرف النظر عن واقعية هذا الاحتمال. وما الجديد في هذه الاتهامات التي روّج لها بن علي طوال حكمه لتبرير قمعه الوحشي لحركة النهضة والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في حق منخرطيها والمتّهمين بدعمها؟
ألم يكن قمع حركة النهضة وادّعاء استئصالها مدخلا لقمع مختلف المعارضين للنظام من تنظيمات وشخصيات مستقلة واستئصال الديمقراطية في النهاية؟ ألم يفشل الرهان عن السكوت على قمع حركة النهضة لطمأنة الحاكم الجديد بالتخلص من منافس خطير حتى يسمح لبقية المنافسين بالمشاركة؟ ألم يُؤكل الجميع يوم أُكل الثور الأبيض؟ لماذا ننسى دروس الماضي ونجرب المجرّب ونكرّر الأخطاء الفاضحة؟
لقد كان منح تأشيرة العمل القانوني لحزب حركة النهضة سنة 2011 بعد الثورة وعودة المهجرين من أبنائها عنوان ديمقراطية تونس الجديدة، دون التقليل من بقية مكونات المشهد الحزبي والفكري بالطبع. وكان فوز النهضة في أوّل انتخابات حرة وتعددية سنة 2011 ومشاركة مساجين سياسيين ومعارضين مهجّرين في الحكم أبرز عناوين الثورة الديمقراطية في تونس. بل كانت حركة النهضة صمّام أمان للديمقراطية الناشئة. إذ في غياب أحزاب سياسية قوية وذات انغراس شعبي، كانت حركة النهضة التي لملمت جراحها ونظمت صفوفها بسرعة، القوة السياسية الرئيسية المنافسة للحزب الحاكم المنحل والعائد في الانتخابات تحت عناوين مختلفة. ولولا النهضة لعاد النظام الذي قامت عليه الثورة من باب الانتخابات.
كتبت بالعدد 45 من الرأي العام مقالا بعنوان “اليسار في تونس ضرورة اجتماعية ولازمة ديمقراطية”. ولا أبالغ اليوم حين أقول أنّ حزب النهضة شكّل إلى حد الآن قوة التوازن الوحيدة في مواجهة المنظومة القديمة العائدة. وهو بهذا المعنى صمّام أمان للديمقراطية وشرط لاستمرارها في انتظار تكوّن قوى سياسية جديدة واشتداد عودها. ومن ثمّة فإنّ أيّة محاولة لإزاحة النهضة بغير الانتخابات الحرة والديمقراطية، لن تكون سوى تسهيل لانخرام التوازن وعودة الاستبداد. وقد كان الدرس واضحا في انتخابات 2014، إذ كانت المنظومة القديمة المستفيد الأكبر من تجمع المعارضة في مواجهة النهضة. وكان حلول النهضة في المرتبة الثانية بكتلة نيابية هامة صمّام أمان مرة أخرى للديمقرطية. ولنا أن نتخيل المشهد البرلماني خلال السنوات الأربع المنقضة دون كتلة النهضة الموحدة والوازنة.
لكن الذي لا يجب أن يغفل عنه النهضويون وأنصارهم في المقابل، هو أنّ حزب النهضة في أحسن نتائجه المتراجعة منذ 2011، لم يحز عل ثقة أغلب التونسيين. فهو لم يحصل في أي مرة على أكثر من نصف أصوات المشاركين في الانتخابات فضلا عن أكثر من نصف من يحق لهم المشاركة. فحزب النهضة في أحسن الأحوال يحظى بتأييد ثلث التونسيين، وهذا لا يخّول له حكم التونسيين بمفرده. والأهمّ من ذلك أنه لا يجوز بحال تجاهل النهضة للثلثين الذين لا يؤيدانها. وهذه حقيقة سياسية على غاية من الأهمية.
فالمرتبة الأولى في الانتخابات، خاصة إذا نزلت عن نسبة الخمسين بالمائة زائد واحد،لا تصنع لوحدها الشرعية السياسية الكافية للحكم كما أسلفنا، إضافة إلى عناصر أخرى مهمّة في معادلة الحكم، ومنها خصوصية الأوضاع الانتقالية والمعادلات الإقليمية والدولية وغيرها من الاعتبارات. وربما أخطأت النهضة التقدير في الفترة الأولى من حكم “الترويكا”، لكنها سرعان ما استخلصت الدروس وغيّرت من نظرتها للأمور وصارت أكثر واقعية في تمثّل الشرعية السياسية للحكم. وكان مفهوم التوافق المُستحسن داخليا وخارجيا أحد العناوين البارزة على هذا الصعيد وأحد عوامل الاستثناء التونسي في مصير الثورات العربية.
فقد كان الصراع قويّا بعد 14 جانفي 2011 بصور معلنة وأخرى مخفية، حول تحديد وجهة الثورة التونسية، بين مساري التغيير الجذري وتصفية المنظومة القديمة للحكم بأشخاصها وممارساتها (المصادرة والمحاكمات والعزل وتجريم مدح النظام القديم والتأسيس…)، والانتقال الديمقراطي وما يفرضه من معجم مخصوص وتسريع للإصلاح وتسوية سياسية بين القديم والجديد (الحوار والتوافق والإدماج والمصالحة…). وقد حُسم الأمر ميدانيا لصالح المسار الثاني، لكن دون أن يسلّم أطراف المسار الأوّل، ودون أن تكتمل عناصر التسوية الشاملة أو تحسم بين من ينخرطون في المسار الثاني.
وكان لقاء باريس سنة 2013 بين الباجي قائد السبسي وراشد الغنوشي محطّة فارقة في إنقاذ التجربة التونسية من أزمة سياسية حادة تردّت إليها الأوضاع، بعد الاغتيالات السياسية واشتداد الاستقطاب وتضاعف التآمر الداخلي والخارجي على الثورة. وتدعّم التوافق بين الزعيمين، ليشمل حزبي النداء والنهضة المتنافسين الغريمين في انتخابات 2014. فكانت تجربة الحكم المشترك. وكان المؤمّل أن يتوسّع التوافق ليتمّ الاشتغال على تحقيق مصالحة تاريخية بين الدستوريين والإسلاميين عموما، بعد عقود من التنافي والصراع، في إطار عدالة انتقالية ومصالحة وطنية عادلة وشاملة. وأن تتوسع المصالحة لتشمل بقية العائلات الفكرية والسياسية.
فلماذا يتمّ في هذه المرحلة، عشية إحياء الذكرى الثامنة للثورة وفي سنة سياسية انتخابية مميزة، التنكّر لمسار التوافق والإدماج الذي تأكد نجاحه؟ في مقابل تأكد فشل نهج الإقصاء والاحتراب. ولمصلحة من يحصل هذا الانقلاب الدراماتيكي في المشهد السياسي الوطني؟ لتعود المناكفات الحادة والاتهامات الجزاف والحرب الكلامية الحادة والتخوين والشيطنة. ومن المسؤول عن كل هذا؟
لا ندّعي تقديم دروسا سياسية لأحد، ولكن نتفاعل مع أصوات متعقّلة عديدة تحذّر من مخاطر ما يحصل، وتنبّه إلى أنّ الأزمة السياسية المفتوحة التي طالت وتعقّدت، صارت تمسّ من أعمدة سقف البيت الوطني، الذي إذا وقع فلن ينجو من تحت أنقاضه طرف. وأي معنى للخلاص الفردي أو الحزبي إذا انهدمت أركان الدولة. وليست الحرب المعلنة بين رأسي السلطة التنفيذية في قرطاج والقصبة بعد التعديل الوزاري المزمع، وحرب البيانات والتصريحات الحزبية الأخيرة، والمناكفات حول مسار العدالة الانتقالية في آخر أطوارها، سوى صفارات إنذار.
فهل تتحرك قوى العقل والخير، التي لا يخلو منها فضاء ولا موقع، قبل فوات الأوان، لجمع الفرقاء على كلمة سواء. فحين يشتدّ الخطب لا يبقى للحياد من معنى. وحين لا يكون التحرّك في الوقت المناسب لإنقاذ الوضع لن ينفع ندم ولا تلاوم بعد حصول الكارثة لا قدّر الله. وفي كلّ الأحوال يضلّ الأهمّ قبل المهمّ.
محمد القوماني
*منشور بجريدة الرأي العام، العدد 81، تونس في 08 نوفمبر 2018.
https://scontent.ftun3-1.fna.fbcdn.net/v/t1.0-9/45647438_2180598188630620_4621282594569322496_n.jpg?_nc_cat=104&_nc_ht=scontent.ftun3-1.fna&oh=a9235641f0dfcc06a737c3e34c617bb9&oe=5C7BE6DC