حركة النهضة تحسم خيارها في رئاسية 2019
ينعقد مجلس شورى حركة النهضة في دورته العادية الثامنة والعشرين منتصف شهر جوان القادم، وسيكون الحسم في خيار الحركة لرئاسية 2019 في مقدمة أشغال الدورة. فبعد التأكيد خلال الفترة السابقة على أنّها معنية بالانتخابات الرئاسية، ولن تقف على الحياد بين المترشحين، على غرار 2014، سيكون على أعضاء شورى النهضة، بعد الحوار الداخلي الدائر منذ مدة، تدقيق الخيار، بالترشيح من داخل الحركة، وهو الخيار الذي تكون فيه الأولوية لرئيس الحزب راشد الغنوشي، أو بدعم مرشح من خارج الحزب، وما يستدعيه ذلك من مواصفات وتحالفات. فما هي السيناريوهات العملية المرجّحة كخيار لحزب النهضة في رئاسية نوفمبر 2019؟
حزب النهضة معنيّ بالرئاسية
وزّع دستور الجمهورية الثانية السلطة بين قرطاج والقصبة وباردو، لكنه حافظ على رمزية رئيس الجمهورية وموقعه، وجعله منتخبا مباشرة من الشعب. فهو رمز الدولة دستوريا وعنوانها سياسيا. ومهامه الأساسية في الإشراف على شؤون الدفاع والعلاقات الخارجية، ليست هينة. لذلك لا عجب أن يحتفظ التنافس على رئاسة الجمهورية بهذا الزخم السياسي والإعلامي والشعبي، والذي يفوق الاهتمام بالتشريعية أحيانا. كما لا تخفى العلاقة بين الاستحقاقين والتأثير المتبادل بينهما.
وإنّ حركة النهضة التي تحتفل بالذكرى الثامنة والثلاثين لتأسيسها يوم 6 جوان، والتي يمضي هذا العام نصف قرن على نشأة نواتها الأولى، والتي اضطلعت بأدوار هامة في مراحل النضال الديمقرطي، وفي إنجاح مسار الثورة وبناء الجمهورية الثانية، والتي تعدّ أهمّ حزب في المشهد السياسي التونسي الحالي، من حقّها، بل محمول عليها الترشّح لمختلف المناصب السياسية في الدولة وفي مقدمتها رئاسة الجمهورية. والأصل في الأمر أن ترشّح حركة النهضة رئيسها، أو من يراه مناسبا لذلك بدلا عنه، بعد تزكية هذا المترشّح من مجلس الشورى، كما ينصّ على ذلك الفصل 32 من النظام الأساسي للحزب.
لماذا تفضّل النهضة رئيسا توافقيا؟
ليس خافيا على المتابعين أنّ مرحلة الانتقال الديمقراطي التي تعرفها بلادنا، والأوضاع الوطنية والإقليمية والدولية عناصر مؤثّرة في التعاطي مع الاستحقاق الرئاسي، ممّا قد تجعل الأمور تجري على خلاف الأصل في الأمر. وإنّ حركة النهضة التي اعتمدت خيار التوافق ودعت إلى المصالحة الوطنية الشاملة، يؤكّد قادتها أنها تترفّق بالتجربة الديمقراطية في تونس، و لذلك على سبيل المثال رضيت بمشاركة في الحكومة أقلّ من حجمها السياسي ولم تراجع رئاسة البرلمان بعد أن حصلت انشقاقات في الحزب الفائز في الانتخابات، وصارت كتلتها الأولى.
وإنّ إنهاء مرحلة الانتقال بعد 2019، وإرساء قواعد حكم مستقرّ، يقتضيان رئيسا يخدم هذا الغرض. وإنّ ممّا يساعد على هذا الخيار، أنّ مهامّ رئيس الجمهورية الأساسية في الدفاع والعلاقات الخارجية تقتضي أوسع توافق، وليست في الغالب مجالا للتنافس الحزبي في البرامج، على خلاف الانتخابات التشريعية. كما أنّ التطلّع إلى رئيس للجمهورية مُجمّع للتونسيات والتونسيين وحام لوحدة المجتمع والدولة، وضامن لعلوية الدستور ومحترم لمؤسسات الدولة، وداعم للمسار الديمقراطي، وقادر على تطوير علاقات تونس الخارجية، يتحقّق أفضل بمرشح توافقي بين الأحزاب المؤهّلة للمراتب الأولى في البرلمان، والمرشحة لحكم ائتلافي. فالمرشح التوافقي ليس مرشح الإجماع، لكنه المرشح الذي يتوفّر على أكبر فرص للفوز بنسبة عالية، بما يعزّز موقعه ويعزّز التحالفات السياسية بعد الانتخابات، بين الأطراف الداعمة له.
لهذه الأسباب تفضّل حركة مرشّحا توافقيا، كما صرّح بذلك رئيسها في حواره الأخير لقناة فرنسا 24. واعتبارا لضيق الوقت المتبقّي عن موعد الانتخابات، ونظرا لما تعرفه الساحة السياسية من مناكفات وانقسامات، وُصف هذا المرشّح ب”العصفور النادر”. وهو تعبير شائع تمّ استعماله في مناسبات سابقة، على غرار البحث عن رئيس حكومة محايدة في 2014، في إطار الحوار الوطني، والذي أفضى إلى التوافق على المهدي جمعة. فالنُدرة لا تعني الاستحالة ولا أحادية الاحتمال. و”عصفور تونس النادر”، لإنهاء الانتقال وضمان الاستقرار، ليس الظفر به عزيزا على المعنيين. فإذا تعذّر التوافق في سقف زمني محدّد، يكون خيار ترشيح حركة النهضة من داخلها مرجّحا.
الغنوشى أولى وسيكون أبرز المترشّحين
يبدو رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي أولى بأن يكون مرشّح الحركة لرئاسية نوفمبر 2019، بمقتضى القانون الأساسي للحزب كما أسلفنا، ولكن أيضا بسبب المواصفات القيادية الذاتية التي يتوفّر عليها والمكانة التي يحظى بها وطنيا ودوليا.
فالغنوش زعيم سياسي تمرّس في قيادة حزبه لعقود، خاصّة في المراحل الصعبة التي واجهته، وانتهى به إلى حزب رئيسي في المشهد السياسي وشريك في الحكم. وقد صار عنوانا لنهج التوافق والدعوة إلى المصالحة الوطنية الشاملة وأحد صانعي الاستثناء التونسي في النجاح الديمقراطي. وهو إلى ذلك سياسي ومفكر، نشر عددا هاما من المؤلفات ويحظى بإشعاع عربي وإسلامي، وكان موضوع بحوث علمية عديدة في جامعات مختلفة من العالم. وهو شخصية عامة معروفة لدى التونسيات والتونسيين ولا بحتاج إلى جهود كبيرة لتعرّف الناخبين عليه.
والغنوشي أيضا يتمتع بعلاقات خارجية تعزّزت بعد الثورة، وصارت جسورا للترويج للتجربة التونسية في الانتقال الديمقراطي، وحشد الدعم للدولة التونسية من خلال ما يعرف بالدبلوماسية الشعبية. وليست الملتقيات التي يحضرها الغنوشي على غرار منتدى دافوس، والمحاضرات التي يلقيها، والزيارات التي يؤديها لعديد الدول، والاستقبالات التي تحصل بمكتبه لدبلوماسيين وشخصيات مرموقة تزور تونس، ليست تلك الأمثلة عن أنشطته سوى مؤشرات على ما يحظى به من مقبولية مطلوبة في موقع رئاسة الجمهورية.
سبق للغنوشي أن عبّر منذ عودته إلى تونس عن عدم رغبته في تقلّد أيّ مسؤولية في الدولة، وصرح منذ أشهر أنه لا يرغب في الترشح لرئاسية 2019، وأنه يكتفي بما أكرمته به الثورة، وربما كان التعبير عن هذه الرغبة وراء عدم حضوره بقوة في استطلاعات الرأي حول نوايا التصويت. لكن مؤسسات النهضة لم تحسم خيارها بعد. وإذا تعذّر التوافق على مرشح مع الشركاء، فالأرجح أن تدفع مؤسسة الشورى بترشيح رئيس الحزب راشد الغنوشي. فهذا الخيار الأفضل لضمان وحدة قاعدتها الانتخابية، وحسن تعبئتها في التشريعية والرئاسية. وعندها سيكون الغنوشي أبرز المترشّحين، وتكون صناديق الاقتراع وحدها الحكم على نسبة الشعبية والمقبولية.
في تراثنا قال المعتزلة وآخرون بحكم “المفضول مع وجود الأفضل”، وتبقى هذه القاعدة صالحة مع اختلاف السياقات. وسواء اختارت النهضة تفضيل مرشّح التوافق على رئيسها، أو رشّحت زعيمها، فإنّ من تصوّت له الاغلبية يظلّ صاحب الشرعية، في انتظار انتخابات دورية أخرى تتيح التداول وتعزّز الديمقراطية.
محمد القوماني
*منشور بجريدة الرأي العام، العدد 110، تونس في 30 ماي 2019
https://scontent.ftun11-1.fna.fbcdn.net/v/t1.0-9/61901742_537363050128177_3899448735578456064_n.jpg?_nc_cat=103&_nc_ht=scontent.ftun11-1.fna&oh=ae7a52ad432147abb2fb173ba30d05b1&oe=5D51F1F2