تونس الثورة في مفترق طريق

تونس الثورة في مفترق طريق

جريدة الضمير بتاريخ 24 أوت 2013

 تمرّ تونس في هذه المرحلة بأزمة سياسية غير مسبوقة، بل بمحنة لا أحد يمكنه الجزم بنتائجها، يحتدم فيها الصراع العاري حول الحكم ويضرب فيها الإرهاب بقوة وتدخل أجهزة الدولة سرعة قصوى في مواجهته، ويُلقي الزلزال السياسي بمصر بظلاله على الساحة الوطنية وتخترق الاختلافات حوله الأحزاب والمنظمات والجمعيات وجلسات المقاهي وحتى الأسرة الواحدة، حتى تكاد تفرّق بين المرء وزوجه، وينشغل الناس بالشأن السياسي كما لم يحصل من قبل وتكاد تنحبس أنفاسهم وهم يتابعون أخبار المناكفات السياسية بين الأحزاب والاتجاهات المتباينة ولقاءات الحوار. فكيف تبدو ملامح هذه الأزمة؟ وكيف نقرأ أهم أسبابها؟ وكيف نرى اتجاهات حلولها؟ وما هي أهم استخلاصاتها؟

أزمة سياسية غير مسبوقة

عملا بقول من تقدمنا أن «حسن فهم المشكل فرع من حلّه» نؤكد أن الإقرار بحجم الأزمة التي تمر بها  بلادنا في هذه المرحلة والانتباه إلى مؤشراتها والوعي بتداعياتها مقدمة لا غنى عنها في التقدم في البحث عن حلول مناسبة  لها في علاقة بالزمن السياسي الذي يجب أخذه بعين الاعتبار خاصة في مثل هذه الظروف التي قد يصبح فيها ما هو ممكن اليوم مستحيلا غدا. ولا نتردّد في وصف الأزمة الحالية بأنها حادّة وغير مسبوقة باستحضار أهم علاماتها.

من ذلك انسحاب جماعي لعدد من نواب المجلس الوطني التأسيسي واعتصامهم قبالته والمطالبة بحلّه. وقرار رئيس المجلس بصفة أحادية تعليق أشغاله إلى أجل غير مسمى، في تناقض واضح مع الحاجة إلى السرعة القصوى في أعماله للوفاء بالروزنامة المعلنة من الرئيس نفسه ولتنظيم الانتخابات قبل موفى العام الحالي، ولما في ذلك من مخاطر تعطيل أعمال الحكومة ومصالح الدولة الداخلية والخارجية. ومنها تعطّل الحوار المباشر بين الحكومة والمعارضة وتكريس القطيعة الفعلية بين الطرفين واشتراط المعارضة حلّ الحكومة لبدء الحوار واتهام الحكومة لأطراف في المعارضة بتدبير انقلاب ضد الحكم. بل يمكن الحديث دون مبالغة عن انقسام حقيقي للمجتمع على نفسه، وكأننا لا ننتمي لنفس المجتمع ولا نعيش نفس الواقع. فقد بات لكل فريق حقائقه وإعلامه وخطابه ومفاهيمه التي تتباين وتتباعد كل يوم مع الفريق الآخر، بصرف النظر عن القلّة والكثرة. وليست الحملات الإعلامية المتبادلة، خاصة على شبكة التواصل الاجتماعي، والتحشيد الميداني، سوى عناوين لذلك الانقسام.

ولعل أخطر ما في تلك الحملات المتبادلة تزييف المعلومات واختلاق الوقائع واعتماد معجم ينضح بالاستئصال والعنف،  واختصاص أقلام مسمومة وألسن خبيثة وأنفس مريضة ومواقع إعلامية مشبوهة في ترويج  خطاب ينشر الكراهية وينفخ في نار الفتنة ويستعجل الإيقاع بين التونسيين والتصادم بينهم. وقد شهدنا دعوات تحريضية فجّة ضد الحكم  ومحاولات غير مسبوقة في تحدّي الدولة والعمل على استبدال الهيئات القائمة والانقضاض على السلطة. يتزامن ذلك مع تصعيد في الأعمال الإرهابية من اغتيال سياسي واستهداف للقوات المسلحة من جيش وأمن ومحاولات ترويع في مدن وأحياء متفرقة من جهة، ومع مخاوف جدية من تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وبلوغ حالة خطيرة تمسّ بالاستقرار من جهة أخرى، مما يضاعف من انشغال عموم المواطنين ومخاوفهم.

أسباب أساسية للأزمة الحالية

تعكس الأزمة الحالية في العمق، مأزق مسار تأسيسي خاطئ نبّهنا إليه مبكرا حين قلنا بعد انتخابات 23 أكتوبر أن «استقطاب المشهد السياسي بين حكومة ومعارضة نراه غير صحّي في سياق تأسيسي، يقتضي شراكة لا تطمس التعددية وحق الاختلاف.  فالأطرف الحاكمة مهما كانت شرعيّتها، لا يمكن أن تستأثر بالمرحلة لوحدها. والشرعية الانتخابية غير كافية لممارسة السلطة. إذ لا يمكن الحكم بمنطق الأغلبية في غياب دستور وعقد اجتماعي وسياسي واتفاق بين جميع الأطراف على قواعد إدارة الحكم.  كما أن الأطراف السياسية التي اختارت المعارضة مبكّرا وصنعت حاجزا بينها وبين الحكومة، تتحمل المسؤولية في المشهد الاستقطابي السلبي ومخاطره. فمن كان شريكا في الثورة، عليه أن يدافع عن حظوظه في المشاركة السياسية ويواصل إسهامه في إنجاح المرحلة وتحقيق أهداف الثورة. فالديمقراطية تكليف ومراقبة وليس تفويضا مطلقا لأي طرف. والتوازن ضروري للمجتمع في كل الأحوال. وليس بإمكان طرف، ولا من المصلحة في شيء، أن يعمل على إلغاء غيره».(1) كما تعكس إضافة إلى ذلك الأخطاء المنهجية في تمشي المجلس الوطني التأسيسي وخاصة عدم تقيده بفترة زمنية، وضعف أداء رئيسه وأعضائه. كما لا نغفل ما شهدته الساحة  من مناكفات سياسية داخل المجلس وخارجه، دلّت على أزمة ثقة حادة بين الأطراف  وسوء تقدير للمرحلة وضعف في الثقافة الديمقراطية وعدم قبول بنتائج الانتخابات وبمقتضيات شرعية صناديق الاقتراع.

كما تعبّر الأزمة الحالية عن مخاوف تبدو مشروعة في ربع الساعة الأخير من المرحلة الانتقالية. إذ يريد كل طرف أن يضمن حظوظه في المرحلة الدائمة التي لا يجب ترك الأمور فيها، حسب البعض على الأقل،  إلى أسرار صناديق الاقتراع. ومن هنا نفهم التشكيك المسبق في الانتخابات القادمة والعمل على تأجيلها فعليا رغم المطالبة بها قوليا، والحرص على التوافق على قانون للانتخابات يضمن التوازنات المفترضة. إضافة إلى تأخّر مسار العدالة الانتقالية والمحاسبة وغياب أية رؤية أو مبادرة جريئة للمصارحة والمصالحة، والاكتفاء بالتلويح بقانون تحصين الثورة الذي صار موضوع مزايدات وابتزاز وتجاذبات أفرغته من أهدافه.

هذا ولا نغفل تداعيات الزلزال السياسي في مصر وما عرفه بعد الانقلاب العسكري من مجازر ومخاطر حرب أهلية وما كشفه من أجندات إقليمية ودولية تستهدف ثورات الربيع العربي. وما أثاره هذا الزلزال من تباينات حادة في المواقف التونسية ومن أزمة أخلاقية طالت المفاهيم والقناعات المبدئية وشملت الأحزاب والمنظمات والجمعيات والشخصيات وأكاد أقول كل متدخل في الشأن العام وخائض في الأحداث السياسية. وبات من المؤكد أن مراجعات ستحصل وقناعات تتصل بالحداثة السياسية وبمدى القناعة بالديمقراطية والمواطنة وحقوق الإنسان وبمنظومة قيمية كبرى اهتزت في هذا الزلزال، وسيكون لاهتزازها ارتدادات كبرى في قادم السنوات.

كيف نتجاوز الأزمة وندعم المسار الديمقراطي؟

يُفترض أن لكلّ أزمة حلّ ولكل ضيق مخرج، غير أن أزمة سياسية بالحدّة والعمق الذين كشفنا عن بعض مستوياتهما تفترض أحد احتمالين لا ثالث لهما.

الاحتمال الأوّل: وهو أن يتم العمل على الخروج من الأزمة  بالدفع نحو حسم الصراع عبر المواجهة العنيفة،  بكل ما تعنيه من تكلفة باهظة ومن مآسي غير خافية، ليكون الانتصار لأحد الفريقين بنفي الفريق الآخر أو إذعانه، وهذا ما نرفضه كخيار ولا نرتضيه ولكن لا نستبعده في الممكن الذهني والفعلي. وقد أشرت منذ مدة غير بعيدة إلى أنّ مخاطر العنف السياسي، اللفظي والمادي، على خلفية التجاذبات بين جهات متقابلة وآراء متشدّدة  حول سؤال الإسلام والحداثة في مجتمعنا، والذي نعتقد أن  التوفّق في أجوبة صائبة عنه، لا يقلّ أهمية وأثرا ايجابيا عن التوفّق في أجوبة مناسبة عن الأسئلة الاقتصادية والاجتماعية، ذلك العنف الذي نلمسه ونسمعه يوميا عبر وسائط الإعلام المختلفة، لا يقل إزعاجا وخطورة عن ذلك العنف المسجل في المواجهات المسلّحة التي نرقبها في الجبال، إن لم يكن أحد عناصر تغذيتها وتجدّدها. وليس على ما يبدو من أفق إلاّ المواجهة والحسم الميداني، بين خطاب الدعوة إلى تطبق «الشريعة» وتكفير من لا يحكمون بما أنزل الله تعالى، الذي تعتمده القاعدة الواسعة لتيار «الأسلمة»، وبين خطاب «المدنية» واستبعاد الإسلام من الحياة العامة للأفراد وللمجتمع، واتهام كل مقاربة لا تقوم على الفصل الكامل بين الدين بالسياسة، الذي تعتمده الأغلبية في تيار «العلمنة». وإذا لم يتحرّك عقلاء قبل فوات الأوان، وترتفع أصوات غير موتورة حول الإسلام والحداثة، لتبسط رؤى مغايرة خارج ثنائية «الأسلمة» و«العلمنة» والصراع المحموم على هذا الصعيد، فإن القادم على ما يبدو أخطر.  وعندئذ سنتبيّن أن الثورة التي حصلت وهلّلنا لها جميعا، لن تكون طريقا للحرية والكرامة وبناء غد أفضل، بل ستكون قادحا لتفجير المكبوت العدواني وتهديدا لقواعد التعايش السلمي بيننا وتدميرا لحاضرنا ومستقبلنا بأيدينا. وإذا سارت الأمور لا قدّر الله بهذا الاتجاه، وتغيّرت اهتماماتنا وأولوياتنا في المجتمع، ودخلنا النفق المظلم، فماذا ننتظر بعد ذلك من انتخابات تعدّدية ومن تغير في الحُكّام في أحسن أو أسوإ سيناريوهات المستقبل؟ (2)

الاحتمال الثاني: ويكون بالبحث عن مخرج للأزمة بالجنوح إلى السلم واختيار الحوار سبيلا والتماس قواسم العيش المشترك، وإبقاء الصراع في دائرة التنافس وليس العداوة والتنافي. وهذا ما نبتغيه ونعمل من أجله. والذي نرى تجسيمه مرحليا وعمليا في الخطوات التالية:

ـ تغيير الخطاب السياسي للأطراف المختلفة، باستبعاد معجم العنف والإقصاء والاتهام المتبادل وخفض التشنّج والتخلي عن منطق التعالي أو الوصاية والإقرار بوجود أزمة سياسية حادة تتطلب إرادة قوية وصادقة من الجميع لاستبعاد مسار العنف والمحافظة على مقومات الدولة ولضمان الوحدة الوطنية ولتغليب المصلحة العليا المشتركة على المصالح الحزبية والذاتية الضيّقة.

ـ التعهد باعتماد الانتخابات الحرة والتعددية والشفافة أساسا وحيدا للشرعية السياسية للحكم الديمقراطي. والقبول بالدخول في حوار وطني لا شروط مسبقة فيه ولا وصاية ولا إقصاء. والتزام جميع الأطراف بالعمل على ضمان هدنة اجتماعية وتأمين مناخ لانتخابات يقبل الجميع بنتائجها.

ـ اعتماد مرجعية المجلس الوطني التأسيسي المعبّر عن الإرادة العامة للشعب في المرحلة التأسيسية والقانون المؤقت المنظم للسّلط العمومية باعتباره الدستور الصغير للمرحلة الانتقالية، إطارا عاما للحوار الوطني. والقبول في الخوض في جميع المسائل الأخرى الكفيلة بتجاوز الأزمة، بما في ذلك روزنامة المجلس وتاريخ إنهاء أعماله التأسيسية وطبيعة الحكومة وضمانات الشراكة والمراقبة في المرحلة المتبقية وموعد الانتخابات.

ـ الاتفاق على إطار الحوار الوطني بضبط مكوّناته الممثلة والأطراف المشرفة عليه والتي يُفترض فيها الحياد.

ـ استئناف المجلس الوطني لأشغاله  فورا وعودة كافة أعضائه والالتزام بالوفاء بالروزنامة التي بتم الاتفاق عليها في الحوار الوطني، وكذلك استمرار الحكومة الحالية التي جاءت نتيجة اتفاق سياسي سابق في أداء مهامها حتى لا يحصل تراخ في الوزارات وفي تأمين المرفق العمومي، وأن تكون على ذمة أي اتفاق جديد ينتهي إليه الحوار الوطني.

نكتفي بهذه العناوين الكبرى لحلّ ممكن دون الخوض في تفاصيل الروزنامة ومهام المجلس وطبيعة الحكومة المفضلة في هذه المرحلة، وذلك باعتبار تعدّد المقترحات في هذا الشأن، التي أغرقت الأزمة في التفاصيل في غير وقتها وشتّتت الجهود والأذهان. ثم لاعتقادنا أن الحلول تُعرض عل طاولة الحوار الوطني للتفاعل وليست شروطا مسبقة تٌفرض على الأطراف المقابلة.

استخلاصات الزلزال السياسي

لم يعد خافيا أن الانقلاب العسكري بمصر، خلافا لما تم إعلانه، إنما يستهدف إنهاء حكم الإخوان المسلمين وإخراجهم نهائيا من المشهد السياسي بغير طريق الانتخاب الذي قدّمهم على خصومهم إلى حدّ الآن، ولا أمل للانقلابيين في الإطاحة بهم من خلالها في المدى المنظور.  وفي تونس ترفع المعارضة قبل الزلزال المصري وبعده شعارات استئصالية لحركة النهضة، أهم الأحزاب الحاكمة، وتكثّف من أنشطتها للإطاحة بالحكم قبل الانتخابات المنتظر تنظيمها نهاية العام الحالي. وللوقوف على خلفيات هذه المعركة الأيديولوجية والسياسية غير المعلنة أحيانا وتداعياتها المحتملة، أجدني مضطرا، شهادة على العصر وتواصلا في التحليل والمواقف، أن أذكّر ببعض ما كتبته منذ نحو سنة قبل هذا المفترق الذي نجتازه اليوم، في سياق هذه الاستخلاصات الموجزة التي نحرص على إبرازها.

1ـ إنّ  الثورات العربية الأخيرة التي أطاحت بكثير من رؤوس الدكتاتورية وأدخلتنا مرحلة ما بعد الاستبداد، توّجت نضالات شرسة تكثّفت خلال العقود الأخيرة واتخذت من مقاومة الدكتاتورية عنوانا وأولوية. ولا يبدو تقدّم الإسلاميين عن باقي التيارات الفكرية والسياسية التي ساهمت بدورها في تلك النضالات مُصادفة، في أول انتخابات حرة وتعددية بعد تلك الثورات، بل يأتي منطقيا ويتوج مسارا مخصوصا لهذا التيار.

فالإسلاميون عموما شكلوا كبرى الحركات الشعبية خلال العقود الأخيرة وكانوا مُطاردين في الداخل والخارج وعُرضة للإقصاء والسجن والتصفية الجسدية والهجرة القسرية. كما تصدّروا المشهد السياسي الوطني والعالمي. وكانوا عنوان مواجهات للحكام بالداخل وعنوان مواجهات لقوى الاستعمار والهيمنة الخارجية. فهم التيار الأبرز الذي يقدم نفسه بديلا عن التجارب «الفاشلة» في نظرهم، من ليبرالية وماركسية وقومية. وهم التيار الأبرز في الدفاع عن الهوية العربية الإسلامية وفي قيادة المقاومة ضد العدو الصهيوني وضد جميع محاولات الهيمنة الخارجية وخاصة الأمريكية منها. وقد حققوا بطولات وانتصارات هامة على جميع الأصعدة رغم الأخطاء الفادحة  وتورطهم في العنف والإرهاب أحيانا، وكسبوا تأييدا شعبيا متعاظما رغم حملات الدعاية المضادة لهم. فكان انتخابهم اعترافا لهم، وجنيا لحضور لافت لهم، وتعاطفا مع مِحنهم من جهة، وكان أيضا انتصارا واضحا لتيار الهوية العربية الإسلامية في مواجهة نزعات العلمنة القسرية واضطهاد «المتدينين» والتضييق عليهم في الحياة العامة  من جهة ثانية. ويمكن اعتبار هذا التقدّم أيضا إنهاء لمرحلة من الإقصاء وإتاحة الفرصة لتجربة الإسلام السياسي لاختبارها في الحكم، بعد أن جُربت بقية الأيديولوجيات. ولن يكون حكم الإسلاميين بهذا المعنى سوى مرحلة مثل المراحل السابقة.(3)

وعليه فإن أية محاولة لاستبعاد «الإسلاميين» من الحكم بغير سبيل الانتخابات، تعبّر عن قراءة سطحية للمشهد ولا تأخذ بعين الاعتبار تاريخ هذا التيار الفكري والسياسي العريق الذي جاوز الثمانية عقود، فضلا عن تعريضها التجربة الديمقراطية الناشئة بعد الثورات للخطر وللمنطقة التي تجري فيها لسيناريوهات العنف وعدم الاستقرار.

2ـ إن من أهم تداعيات هذه الأزمة أن يكون فشل نهج المشاركة السياسية للإسلاميين، بعد أكثر من تجربة، والانقلاب على حكمهم في أكثر من بلد، استمرارا لإقصائهم، وتشجيعا على خيارات أخرى في صفوفهم. فأن يتمّ استهداف حكم الإخوان المسلمين في مصر والإسلاميين عموما غاية في حدّ ذاته، أي أن يتم رفض وجودهم في أعلى مؤسسات الدولة لأنهم إسلاميون، بدعوى عدم قبول المزاج العام لهم أو لخطورة مشروعهم أو لأي سبب آخر، فإن ذلك بلا شكّ  مناقض لمقتضيات الديمقراطية التي تكون فيها الانتخابات الحرة أساسا وحيدا لشرعية الحكم، كما أن ذلك استمرار في سياسة جُرّبت منذ عقود ولم تجد نفعا ولم تجلب سوى المآسي، ولأن ذلك أيضا، وهو الأهم، سيشجع نزعات العنف في صفوف الحركات الإسلامية التي بُذلت جهود ضخمة ومضنية من داخلهم ومن خارجهم من أجل إقناع بعضهم بنهج المشاركة السياسية القانونية.(4)

3ـ لئن بدا تقدّم الإسلاميبن على بقية الأحزاب في أول انتخابات حرة وتعددية وشفافة بعد الثورات مستحقا كما أسلفنا، فإن صعودهم إلى الحكم في أكثر من عاصمة عربية، أتي وسط مخاوف قطاعات واسعة من النخب المخالفة لهم وفي سياق أزمة ثقة حادة ومُخلفات عقود من الصراع والمواجهات الدامية أحيانا، ربما لم يحسن الإسلاميون تقديرها ولا التعامل معها. لذلك نقول أن مرحلة ما بعد الاستبداد التي دشنتها ثورات الربيع العربي، لا تعني تأسيس عصر الديمقراطية. فكسب رهان الديمقراطية الناجزة ما زال يواجه تحديات جمّة على أكثر من صعيد. فالربيع العربي لم تكتمل حلقاته ولم تُثبّت أركانه، وما زال في إطار الممكن الذهني وليس في الواقع المتحقق.

4  ـ لئن تعدّدت دوافع الثورات وامتزج فيها الاجتماعي والاقتصادي بالسياسي، ولئن تصدّرتها مطالبُ التشغيل والكرامة والعدالة في التنمية وتحسين مستوى العيش وحماية الحريات الفردية والعامة وتأمين حياة الناس وممتلكاتهم، فإننا في ظل صعوبات الانتقال وتعقيدات الواقع الداخلي والخارجي  وإزاء ما يُحاك من مؤامرات ضدّ الثورات وأمام المخلفات المدمّرة للعهد البائد والتنازع حول الشرعية الجديدة، في ظل هذه التحديات جميعا، نحتاج إلى ترتيب للأولويات نتوافق عليه ويكون بوصلة لرفع مختلف التحديات وتأسيس عصر جديد. ولا أتردّد في هذا السياق في التأكيد على أن المحافظة على مكسب الانتخابات الحرة والقبول بمقتضياتها وتثبيت المسار الديمقراطي هو البوابة لتحقيق بقية الأهداف ورفع سائر التحديات تدريجا.

فالديمقراطية التي دشّنّاها بانتخابات حرة وتعددية وشفافة تشكّل مبدئيا ضمانة أساسية لتكريس سلطة الشعب وجعله المرجع لأيّة شرعية سياسية والحكم في تقييم الأفكار والمقترحات والبدائل. فطالما استمرت تلك الانتخابات قائمة، ظل التداول على الحكم مضمونا وظل المتنافسون على الحكم يستحضرون كلمة الناخبين ويعملون تحت مراقبتهم ويجتهدون في التفاعل مع مطالبهم وتطلعاتهم. وبذلك تكون الديمقراطية بوّابة لولوج بقية القضايا الاجتماعية والاقتصادية وغيرها ومعالجتها. والخطر كل الخطر في مرحلة ما بعد الاستبداد، أن يتنكر بعض الفاعلين لآلية الانتخابات الحرة والتعددية والشفافة، وبذلك تكون الثورات قد غيّرت الحاكمين ولم تغيّر الحكم.(5)

5 ـ في ظل حكم خائف من محيطه الداخلي والإقليمي والدولي، وحريص على تمسكه بالحكم بما يقتضيه ذلك من تنازلات أو ترضيات أو تردّد في القرار أو تنكّر لاستحقاقات الثورة، وفي ظل معارضة يائسة من قلب موازين القوى شعبيا وغير واثقة من تغيير الحكم عبر الانتخابات، تضيق الآفاق، وقد لا يتحمّل الطرفان المسؤولية الوطنية في الإنقاذ وتغليب المصلحة العامة، فتزداد المخاوف من سيناريوهات حسم الصراع المفتوح والعاري من أجل الحكم، بطرق غير ديمقراطية وعلى حساب الشعب والوطن، فيبحث كل طرف عن سند قوي  له في الداخل أو في الخارج، بما يفسح المجال واسعا لصفقات غير نظيفة في الداخل، أو لحشر أنوف أطراف خارجية في المعارك المحلية.(6) وهذا ما سيزيد في تعقيد الوضع وجدية في المخاوف.

6 ـ انهزم «الحداثيون» في منافسة «الإسلاميين» في الانتخابات التي تلت الثورات، لكن  الحداثة انتصرت. فقيم الحداثة السياسية من مدنية ومواطنة وديمقراطية وحقوق إنسان وغيرها اخترقت التيار الإسلامي المنتصر، على مستوى الخطاب على الأقل. بما يعني أن الأغلبية صوتت للتمسك بالهوية وللوعي بمتطلبات الحداثة أيضا. بما يجعل المصالحة التاريخية على هذا الصعيد ممكنة جدا. مصالحة لا تستند إلى مقاربات  وتصنيفات منتهية الصلوحية، بل  تستند إلى معجم جديد في الانتقال الديمقراطي. معجم يؤسس لمرحلة ما بعد الصراع المحموم بين محاولات «العَلمنة» و «الأَسلمة».(7)

7ـ إن التحالفات المعلنة والمخفية التي حصلت بين قوى ثورية يسارية وليبرالية وقومية، متحزّبة  أو مستقلة، وبين قوى من النظام القديم، من كوادر الأحزاب الحاكمة التي قامت ضدها الثورات أو من فلول المنظومة السابقة في الإدارة وفي الإعلام وفي القضاء وفي عالم الأعمال وغيرها، في إطار ما سُمّي بجبهة الإنقاذ في مصر أو في تونس، تلك التحالفات فوّتت عن الشعب فٌرص تشكل قوى تعديلية مع القوى الحاكمة بعد الثورة، وفرص أن تشكل تلك القوى بدائل محتملة لتصحيح مسارات الثورات. كما لم تستفد تلك القوى من التجارب الفاشلة من دعم الاستبداد في مواجهة الخصوم الأيديولوجيين. فعنوان استئصال الإسلاميين كان دوما مظلة لاستئصال الديمقراطية. بل إن تلك التحالفات فسحت المجال لبروز القوى المضادة للثورة وأعطت الغطاء السياسي لعودة النظام القديم باسم الثورة التصحيحية. ويبدو المثال المصري إلى حد الآن عنوان هذا السيناريو الذي سبق أيضا التحذير منه.(8)

هذه قراءتنا لوضع مُعقّد ببلادنا خاصة وبمنطقتنا عامة، وهذه رؤيتنا واقتراحاتنا لاجتياز مفترق خطير تصله ثورتنا المجيدة. نحسبها مساهمة في الانتصار للثورة والاجتهاد في تحقيق أهدافها، بما يقتضيه خيار الحوار والتعايش السلمي الذي ننخرط فيه، من مراجعات وتسويات وتصحيح للمسار، من أجل إنجاح المرحلة الانتقالية وتأمين البناء الجديد لتونس في القطع مع منظومة الاستبداد والفساد، وإرساء مؤسسات الحكم الديمقراطي وضمان القرار الوطني المستقل ووضع ثروة البلاد بيد الشعب على قاعدة العدل وتكافؤ الفرص والتضامن بين الفئات والجهات. والله نسأل أن يحفظ تونس وشعبها.

الهوامش

1 ـ راجع على سبيل المثال مقالنا  بعنوان «على هامش التجاذبات حول أحداث 9 أفريل 2012:  مبادرة سياسية لخفض التشنّج وبناء الشرعية» منشور بجريدة المغرب (اليومية التونسية) بتاريخ 13 أفريل 2012. وكذلك مقالنا بعنوان «23 أكتوبر: شرعية ضرورية لكن ليست فوق النقد» منشور بالعدد 14 من مجلة «الإصلاح» الالكترونية  بتاريخ 05 أكتوبر 2012. ومقالنا»بين حكم خائف ومعارضة يائسة: متى يأذن صبح العرب بالبلج؟» منشور بالعدد 29 من نفس المجلة بتاريخ 03 ماي 2013. (www.alislahmag.com).

2 ـ  راجع مقالنا بعنوان «التهديدات الإرهابية والمعالجات القاصرة» منشور بالعدد 30 من مجلة «الإصلاح» الالكترونية بتاريخ  17 ماي 2013. ( ن.م).

3 ـ راجع مقالنا بعنوان «هل تؤسس الثورات العربية ديمقراطية ما بعد العَلمنة والأَسلمة؟» منشور بالعدد 11 من مجلة «الإصلاح» الالكترونية بتاريخ  24 أوت 2012. (ن.م).

4 ـ راجع مقالنا بعنوان « يوميات الزلزال السياسي بمصر: ولا بدّ للثورة أن تنتصر» منشور بالعدد 34 من مجلة «الإصلاح» الالكترونية  بتاريخ 12 جويلية 2013. (ن.م).

5 ـ راجع مقالنا بعنوان «هل تؤسس الثورات العربية ديمقراطية ما بعد العَلمنة والأَسلمة؟» منشور بالعدد 29 من مجلة «الإصلاح» الالكترونية بتاريخ  24 أوت 2012. (ن.م).

6 ـ راجع مقالنا بعنوان «بين حكم خائف ومعارضة يائسة: متى ينبلج صبح العرب؟» منشور بالعدد 11 من مجلة «الإصلاح» الالكترونية بتاريخ  03 ماي 2013. (ن.م).

7 ـ راجع مقالنا بعنوان «هل تؤسس الثورات العربية ديمقراطية ما بعد العَلمنة والأَسلمة؟» منشور بالعدد 29 من مجلة «الإصلاح» الالكترونية بتاريخ  24 أوت 2012. (ن.م).

8 ـ راجع مقالنا بعنوان «بين حكم خائف ومعارضة يائسة: متى ينبلج صبح العرب؟» منشور بالعدد 11 من مجلة «الإصلاح» الالكترونية بتاريخ  03 ماي 2013. (ن.م).

—————

 * مقال منشور بجريدة الضمير (يومية تونسية) بتاريخ 24 أوت 2013 وبمجلة الإصلاح،الالكترونية،  العدد 37، بتاريخ  23/08/2013

مشاركة
    0 Comments

    No Comment.

    %d مدونون معجبون بهذه: