تجربتي مع كورونا.. حقائق وأوهام
تقول الحكمة “الوقاية خير من العلاج”، فما بالنا أنّ العلاج اليوم متعذّر مع فيروس كورونا المستجدّ. ولا أدري هل هي من أخطائنا أم من بشريّتنا أصلا، أنّنا في أغلب الأحيان لا نُحسن تقدير الخطر حتّى يصيبنا أو يصيب من نحبّ. وهذا لسان حالي وأفراد أسرتي حين حلّ بمنزلنا خلال الأيام الأخيرة الضيف الثقيل، الذي كنا نتحدّث عنه على أنّه وضع يدور حولنا ونتابع أخباره، فإذا بنا فجأة نصبح أحد مكوّنات العدد المعلن عن المصابين ببلادنا، بعدما أعلمتنا مصالح وزارة الصحة أنّ تحاليلنا حول كوفيد 19 جاءت إيجابية. ولم أجد في مقالي لهذا الأسبوع ما هو أولى من أن أضع بين أيديكم بعض استنتاجاتي وملاحظاتي حول تجربتي الذاتية مع الفيروس البغيض.
1 ـ أوّل ما حضرني حين علمت بإصابتي بفيروس كورونا الأثر القائل “لا يُغني حذر من قدر”. فقد كنت منذ مدة متحوّطا وملتزما بإجراءات السلامة بشيء من المبالغة أحيانا في علاقة بالأهل خاصة. وإثر تحليل احتياطي أجريته، تزامن تأكّد إصابتي مع شيوع خبر إصابة الرئيس الأمريكي، ممّا هوّن عليّ الأمر. إذ قلت أنّ الفيروس الذي طال ترامب في “برجه العاجي” من الطبيعي أن يتسلّل إلى جسمي وقد عزمت على أن أستمرّ في الميادين بين أهلي. ثمّ استحضرت العدد الهام من الأطباء والإطار الطبي في تونس والعالم، الذين قضوا نحبهم أو أصيبوا وتعافوا، وهم المحمولون على التزام أقصى درجات التوقّي وحسن التعامل مع الخطر الفيروسي. فلله الأمر من قبل ومن بعد.
وإذ شعرت شخصيا بتحرّر نفسي حين تأكدت من إصابتي، فإنّ من غرائب ما استوقفني من خلال اتصالات مع أشخاص في الداخل والخارج، هو أنّ الكثيرين يصابون ولا يعلنون ذلك، وبعضهم يرفضون إجراء التحليل حول كوفيد19، مع تقديرهم أنهم مصابون أو يشتبهون في ذلك، من خلال الأعراض البسيطة التي لا تُقعدهم عن الحركة. فهم يفضّلون مواصلة أنشطتهم مع بعض الاحتياطات الزائدة، على أن يعلموا بالنتيجة الإيجابية ويصبحون مُجبرين على الحجر الذاتي بمنازلهم. إذ يخشى بعضهم إضاعة فرصة عمل أو مشوار دراسي أو مكاسب مادية أو غير ذلك. وهذه أوجه من تعدّد صيغ مواجهة جائحة لم تستقرّ أقوال العلماء حول حقيقتها وصيغ انتشارها ومدى خطورتها.
2 ـ أسبغ الله تعالى على أفراد أسرتي سكينة لم أتوقّعها فتلقّوا خبر إصابتنا جميعا دون جزع. أخذنا الأمر منذ البداية بروح مرحة فقلنا “نحن أسرة إيجابية ولذلك جاعت نتائج تحاليلنا إيجابية”. وبعد نشرنا للخبر تهاطلت علينا الاتصالات بالوسائل المختلفة. فكانت المكالمات الهاتفية تملأ أوقاتنا والرسائل ترفع معنوياتنا والأدعية بظهر الغيب تصلنا لطفا وشفاء من المولى.
استطعنا أنا وزوجتي وابني الأصغر وابن خالته الذي كان في ضيافتنا، أن نحوّل “الحجر” إلى “خلاعة”، بفضل معنوياتنا المرتفعة وتضامن الأهل والأصدقاء القريبون. وساعدنا فضاء منزلنا الداخلي والخارجي على مزيد توفير أسباب الراحة وظروف العلاج، كالتزام كل واحد بغرفة وحسن تهوئة الفضاء والقيام ببعض الحركات الرياضية وأن نظلّ قريبين من خضرة الطبيعة. تناولنا الأدوية التي وصفها الطبيب، واستعنا بالأعشاب المختلفة التي كانت بحوزتنا باعتبارها موضوع اهتمام ربّة بيتنا، في علاج الجسد، وكانت الصحة النفسية أهمّ على ما يبدو. والحمد لله أوّلا وآخرا.
3 ـ ربّما جزع الجيران أو بعضهم مع انشار خبر إصابتنا، لكنهم سرعان ما تداركوا فطرقوا بابنا وتتالت اتصالاتهم الهاتفية لعرض المساعدة. اتصلت بنا جهات صحية مركزية وجهوية للمتابعة والإرشاد. وزارنا رئيس مركز الحرس الوطني الذي نرجع إليه بالنظر وبعض زملائه للاطمئنان وعرض المساعدة أيضا. واتصلت معتمدية المكان للاستفسار واستكمال المعطيات. فشكرا لهم جميعا على ما أشعرونا به من رعاية طمأنتنا، رغم المزاج الشعبي السلبي حول الخدمات الذي نتابعه عبر وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام عامة.
حضرتني خلال هذه الأجواء الإيجابية للفترة الحالية الصورة السلبية جدّا في التعاطي مع المصابين بكورونا في الفترة الأولى من اكتشاف الفيروس. إذ بقدر ما تستدعي الأزمات مشاعر التضامن وتُعلي من الروحانية وتكثّف جوانب الخير في الناس، بقدر ما تعرّي الأزمات أيضا الشرّ والأنانية والسيئ في الإنسان وفي الوعي الذاتي والثقافة المجتمعية. فقد كانت الإصابة بكورونا مصدرا لحملات وممارسات عنصرية في البداية، شملت صينيين وذوي ملامح آسيوية في بقاع مختلفة من العالم. وانتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي فيديوهات وصور توثّق ذلك. وشهدت تونس للأسف أمثلة في هذا الاتجاه. وسرعان ما انتقل الوصف العنصري ليشمل القادمين من مناطق موبوءة، من أوروبيين وغيرهم، بل توسّع الأمر ليمتدّ إلى مهاجرين في بلدانهم الأصلية.
وكثيرا ما تجسّدت العنصرية في سلوكات مفرطة في الأنانية، كشفت هشاشة التضامن بين الإنسانية وبين الدول، وهيمنة الفردية في مقاومة خطر لا يمكن درؤه إلا بسلوك جماعي وتضامن لا غنى عنه. وقد بلغت الأنانية المشبعة بالجهل والجزع المبالغ فيه ذروتها في تونس وبعض الدول العربية، في رفض دفن موتى جائحة كورونا بالمقابر التي يختارها أهلهم بدواعي مختلفة، بما في ذلك أطباء قضوا في معالجة مرضاهم. هذا علاوة على انتعاشة السلوكات السلبية والإجرامية من غشّ في البيع واحتكار ورفع للأسعار ونشل وسرقة ومخالفة القانون.
4 ـ لم يفارقني خلال أيام الحجر التفكير في المستضعفين من الناس الذين يفترسهم الفيروس البغيض ويتسلل إلى عائلاتهم ولا يجدون القوة المادية الدنيا في مواجهته. فمساكنهم لا تسمح لهم بالعزل الفردي، وقدرتهم الشرائية لا تتيح لهم إجراء التحاليل، ولا شراء الأدوية باهظة الثمن، ولا الاستعانة بالآلات الطبية التي يمكن اقتناؤها لمراقبة بعض الأمراض المزمنة، على غرار السكري وضغط الدم أو قيس نسبة الأوكسيجين في الدم أو غيرها مما هو متوفر بالصيدليات. وقد أخبرني أطباء أنّ العديد من المصابين ممن يتوفّون بالمستشفيات العمومية يصلون في وضعيات حرجة لا يمكن تداركها في الأغلب، وكان بالإمكان علاجهم لو تفطنوا للتداعيات في الوقت المناسب. فلعنة الله على الفقر الذي كاد أن يكون كفرا، والذي يظلّ أشرس فيروس يتهدّد كرامة الإنسان وحياته.
5 ـ بين الموجة الأولى والموجة الثانية من جائحة كورونا، وبصرف النظر عن الجدال حول أصل الفيروس وفرص توفير اللقاح، والرهانات السياسية والاقتصادية التي قد تكون وراء حالة الرعب التي تستأثر بالإعلام العالمي وتهزّ حياة الناس في مختلف القارات، يبدو من المفيد التوقّف عند بعض الحقائق والأوهام في ثلاث مسائل نراها هامة.
أوّلهما انّ الثقة المبالغ فيها في قدرات الإنسان الحديث والدول عامة، مهما كانت الفتوحات العلمية على أهميتها ونوعيتها، تحتاج إلى تنسيب أكثر مما مضى. فالكائن المجهري وضع الإنسانية المعاصرة في مواجهة العجز والخوف وكشف ضعف الإمكانيات المتاحة للصحة العمومية، على تفاوتها بين الدول والجهات. وفي بلادنا تعرّت “مكاسب الصحة العمومية” المزعومة خاصة في الجهات الداخلية المحرومة. وقد كانت الآثار المحدودة للجائحة في موجتها الأولى لأسباب متعدّدة، مصدر سوء تقدير لقدراتنا وخططنا في المواجهة التي تهاوت في الموجة الثانية.
وثانيهما أنّ التخويف المبالغ فيه من الجائحة في الموجة الأولى خلق أوهاما بل “أساطير” حول طرق العدوى، في مفارقة مع العدد المحدود من المصابين والموتى، حتى شكّك البعض في الجائحة أصلا التي لم تصل إلى أماكن عديدة من بلادنا. وجاءت النتائج عكسية في الموجة الثانية حيث أدّت بعض القرارات الرسمية الخاطئة واستخفاف الناس بالجائحة إلى انتشار سريع للوباء وارتفاع مهول لعدد المصابين والموتى. وحين طال الوباء الأهل والأصدقاء صار الناس أكثر تمثّل للخطر، لكن في وقت متأخّر على ما يبدو. وأمام ضعف إمكانيات الدولة واستخفاف الأفراد صار خيار “التعايش مع الفيروس” يعني عمليا أن يظلّ المرضى إلى جانب الأصحاء الذين عليهم أن يحتاطوا لأنفسهم قبل أن يمرض الجميع.
وثالثهما أنّ حديثنا عن مرحلة ما بعد كورونا المختلفة عما قبلها جوهريا، مجرّد كلام لا يتناسب فيه الوعي والفعل مع القول. فهو قول لا يستند إلى متابعة ما تنشره كبرى مراكز البحث والدراسات والصحف العالمية في الغرض، بما يجعله دون الوعي بحقيقة التحوّلات على أكثر من صعيد. وهو قول لا يطابق الممارسة، إذ على سبيل الذكر لا الحصر نطالب بالزيادات في الأجور والتشغيل وننظر للشأن الاقتصادي والاجتماعي كما لو كنا في ظروف عادية، ونتجاهل حقيقة الآثار الاقتصادية المدمّرة للجائحة عالميا ومحليا.
6 ـ زمن الجوائح هو زمن الثقافة الدينية الأصيلة والروحانية الإيمانية التي تقوّي العزم وترفع من المعنويات والمناعة. فمع جائحة كورونا نعيش لحظات غير مسبوقة، يكاد تستوي فيها فرص الحياة أو الموت. و حريّ بكل منّا أن يتفكّر في أفق أرحب، حيث يحاصرنا فيروس كورنا القاتل، فتُحبس أجسادنا بين جدران منازلنا، وتحبس أنفسنا التائقة إلى المطلق في أجسادنا المشدودة للشهوات، ويبدو ليس أسوأ من الموت ينتظرنا أو يتربّص بأحبّتنا.
وكلّما شعرت يأنّ الموت يقترب منّي، تحضرني قناعة بأنّ الحياة ليست في نهايتها سوى معركة خاسرة ضدّ الموت. فنحن نعمل ونكسب لكي نأكل ونشرب ونتداوى ونعيش بكرامة ودون أوجاع، لكننا سنموت في النهاية. و قد يكون كسب المعركة الفردية ضدّ الموت بالتحرّر الذاتي من الخوف من الموت، بحسن الاستعداد له وحسن العاقبة. وكم يبدو الإيمان بالأجل والقدر والتسليم لرب العالمين مفيدا في هذا الصدد. أمّا أن ينشغل الأهل والأصدقاء عن صحّتنا بما لمسنا، ونخرج من إصابة كورونا مُعافين غير فاقدين ولا مفقودين، فتلك فسحة عمر جديدة، تحتاج إلى ترتيب مختلف، نسأل الله العون عليه.
وردت علينا عبر وسائل التواصل معلومات ونصائح حول الوباء وسبل مواجهته، أختم مقالي بذكر أطرفها. فقد نصح أحدهم بأنّك إذا تأكدت من إصابتك بفيروس كورونا، فتناول صباح اليوم الأول خليطا من زبت الزتون والعسل والقارص. وتناول في اليوم الثاني مثله. أما في الثالث قتناول فقط الزيت والقارص. فإذا خرجت كورونا تسألك أين العسل؟ فتلك فرصة لتصفّي حسابك معها بما تراه.
محمد القوماني
*منشور بجريدة الرأي العام، العدد 177، تونس في 15 أكتوبر 2020
2020
مقالات ذات صلة
25 جويلية: جمهورية مغدورة.. وذكرى حزينة..
2023-07-25