بلديات ماي 2018: صراع المترشّحين ونباهة النّاخبين

تنطلق اليوم 15 فيفري وتمتدّ إلى غاية إلى 22 منه فترة تقديم قائمات المترشّحين لبلديات ماي 2018. وتعرف كثير من القائمات في اللّمسات الأخيرة من ترتيب أعضائها انسحابات، ويخيّم على الأحزاب شبح الانقسامات. وفي انتظار إقرار القائمات المقبولة من قبل الهيئة العليا للانتخابات، ليبدأ اشتغال المترشحين “رسميا” على الناخبين طلبا لأصواتهم، يكون من المهمّ التوقّف عند أهمّ أسباب الصراع على الترتيب ودلالاته وتداعياته على العملية الانتخابية ومستقبل الحكم المحلّي بتونس، واستخلاصات الناخبين من صراعات المترشّحين.
حمّى الصّراع
ترتفع حمّى الصّراع في الأحزاب والقائمات المستقلّة ذات الرهانات التنافسية خاصّة، مهما كان حجم الرهان. فاعتماد الاقتراع على القائمات دون الأفراد، في دورة واحدة، وتوزيع المقاعد في مستوى الدوائر على أساس التمثيل النسبي مع الأخذ بأكبر البقايا، طبقا للقانون الانتخابي، وكما حصل في الانتخابات التأسيسية والتشريعية الماضيتين، تجعل الصراع محتدّا في ترتيب المترشّحين على القائمة. فالأوائل هم الأكثر حظا ولا يمكن في كل الأحوال التنافسية فوز قائمة مهما كانت، بجميع المقاعد. إذ يتمّ تحديد الحاصل الانتخابي بقسمة عدد الأصوات المصرّح بها على عدد المقاعد المخصّصة للدائرة. ويُسند إلى القائمة عدد مقاعد بقدر عدد المرّات التي تحصّلت فيها على الحاصل الانتخابي. وتُسند المقاعد بحسب الترتيب الوارد بكل قائمة. وإذا بقيت مقاعد أخرى توزّع بحسب أكبر البقايا على جميع القائمات. ويترشح لرئاسة البلدية رؤساء القائمات الفائزة فقط. ويتمّ انتخاب الرئيس من بينهم بالأغلبية المطلقة لأصوات أعضاء المجلس البلدي.
ولهذه الاعتبارات تبدو الأجواء ساخنة جدّا وترتفع حمّى الصّراع بين المترشّحين المفترضين، وتعرف جلّ القائمات انسحابات ويخيّم على الأحزاب شبح الانقسامات. وحتّى اللجوء إلى قواعد الديمقراطية المحلية واعتماد التزكية للقائمات وللترتيب من قبل المنخرطين في كلّ دائرة (محلية)، كما ينصّ على ذلك النظام الأساسي لحزب حركة النهضة على سبيل المثال، لم يهدّئ من تلك الحمّى ولم يمنع الخصومات والاعتراضات والانسحابات.

أيّها الناخبون.. انتبهوا
يبدو مُتفُهّما، ما يصاحب تشكيل القائمات من تنافس وتسابق ومطامع ومطامح ومصالح ونعرات مختلفة وخصومات متنوّعة، في سياق طبيعة الانتخابات وما يرتبط بها، ومناخات العمل السياسي عموما. وقد يكون في تعديل القانون الانتخابي مستقبلا، للتصويت المزدوج على القائمات والأفراد أو على الأفراد فقط أو إلغاء اعتماد أكبر البقايا أو غيرها من الصيغ، ما يخفّف من الصراعات على الترتيب وما يعطي لجميع المترشحين حظوظا في الفوز ويحمّسهم للمشاركة الفعّالة في الحملة الانتخابية. وقد تكون للانتخابات الأوّليّة الشفافة داخل الأحزاب، علاجا لهذه الانسحابات والانقسامات. ولا ننسى دور التربية على الديمقراطية والتجرّد من الذاتية وتقديم المصلحة الوطنية أو الحزبية في معالجة هذه الظاهرة التي استفحلت وباتت تهدّد استقرار الأحزاب ونموّها ونجاحها. إذ لا تخفى على المتابع ضعف الديمقراطية الداخلية وصعوبات التفاهم والتعايش في الهياكل الحزبية، فما بالك داخل المجتمع وبين قائمات متنافسة. لكن الأهمّ واللافت في الانسحابات هو انتقال المنسحبين من حزب إلى آخر ومن قائمة حزبية إلى مستقلّة أو العكس. بل سعي بعض الأطراف إلى تغذية هذه الصراعات أو الاستفادة منها، والاتصال بشخصيات مستقلة على قائمة حزب ما لإغرائها بمرتبة أفضل وربما رئاسة القائمة تحت لافتة أخرى. وهذا ما حصل في جهات عديدة وفي مختلف القائمات التي تعتزم المنافسة تقريبا. وإذا كان المترشحون من المستقلين خاصة بهذا الحال، وباتوا أشبه بلاعبي كرة القدم من المحترفين، وتفتح لهم مختلف القائمات المتنافسة أبوابها، فهل يبقى من معنى ومصداقية بعد ذلك للحديث عن تنافس حول اختيارات وبرامج مختلفة وربما أنماط اجتماعية متعارضة؟
تُنعت البلديات بديمقراطية القُرب، ويضطلع فيها الأشخاص، سيما في الدوائر الصغيرة، بدور حاسم في الترشّحات والنتائج والأداء في حالة الفوز وتحمّل مسؤولية التسيير. فهل سيتركّز اهتمام الناخبين في ماي 2018 على العناوين الحزبية، كما يتوقّع البعض، فتنصرف التجاذبات إلى اللافتات والتاريخ والمناكفات والأكاذيب والتشويهات؟ أم سينصرف الاهتمام إلى مواصفات الأشخاص ومؤهلاتهم وكفاءاتهم ونظافة أيديهم وصدق وعودهم واختبار الناس لهم؟ وهل ستكون للبرامج الوطنية وخلفيات الأحزاب الأولوية أم لبرامجها المحلية والخدماتية المباشرة؟ يصعب الجزم بالجواب في هذه المرحلة، وستعطي الحملة الانتخابية وإعلان النتائج مؤشرات الجواب لاحقا. لكن من الأكيد أنّ نباهة الناخبين ستشمل هذه الفترة من تشكيل القائمات، ولن تغيب عنها معطيات الصراعات والتنقلات في القائمات، ناهيك أنّ بلادنا تخوض انتخابات حرة وتعدّدية للمرة الرابعة، وصارت لها تجربة لا بأس بها بعد انتخابات التأسيسي في 2011 وتشريعية ورئاسية 2014. كما أنّ نباهة الناخبين ستلتقط رسالة التسريبات الأخيرة عن شبكات الفساد والتجسّس ببلادنا، والتي بلغت فيها الرشاوى لبعض المسؤولين عشرات بل مئات ملايين الدينارات ومنازل فارهة بأحياء مرفّهة من العاصمة، وربما ما خفي أعظم، لتكون فراسة الناخبين هذه المرة أوّل الدفاعات في محاربة الفاسدين وحسن اختيار المسؤولين ، أمام هذه الإغراءات منقطعة النظير.

تفاؤل
مهما ارتفعت حرارة الأجواء الانتخابية بسبب صُداع تشكيل القائمات أو الصّراع على ترتيب أعضائها، فإنّ ذلك لا يجب أن ينال من سمعة الانتخابات والآمال المعلّقة على الحكم المحلّي، فالمُؤمّل أن يزيد ذلك في الاهتمام باستحقاق انتخابات حكم محلّي تدشّنه تونس لأوّل مرّة، ولا يحظى إلى حدّ الآن بما يستحق من الاهتمام. وهذا يتطلّب من الأحزاب الكبيرة خاصّة، بعث رسائل إيجابية للناخبين ومقاومة أجواء الإحباط وطمأنة المواطنين على تغيير المجالس المنتخبة لأوضاعهم إيجابيا، وضمان مناخات انتخابية سليمة، يحضر فيها التنافس على خدمة الناس ولا يغيب فيها التوافق على مصلحة الوطن ولا ينجرّ إلصراع فيها إلى العداوة والتنافي بأيّ حال.
محمد القوماني

* نشر بجريدة الرأي العام، العدد 44، تونس في 15 فيفري 2018

مشاركة
    0 Comments

    No Comment.

    %d مدونون معجبون بهذه: