بعد عودة “العبودية” إلى ليبيا: هل تُفعّل الهيئة الوطنية لمكافحة الاتّجار بالأشخاص في تونس؟

جريدة الرأي العام، العدد 33، تونس في 30 نوفمبر 2017

تعدّ جريمة الاتّجار بالأشخاص انتهاكا جسيما لحقوق الإنسان وإحدى أبشع مظاهر التعدّي على الكرامة البشرية والتمييز بين الأفراد. وهي للأسف الجريمة الأكثر نموّا في العالم خلال العقود الأخيرة، وتحتلّ المرتبة الثالثة بعد تجارة المخدّرات والأسلحة. وقد أحدثت التقارير الإعلامية التي رصدت بيع مهاجرين أفارقة بالمزاد العلني في ليبيا، وعودة “العبودية” بمعناها التقليدي السافر، صدمة وردود أفعال واسعة عالميا، لتطرح أسئلة حارقة عن قيمة الإنسان في الكثير من المجتمعات والدول “الحديثة”. وتعتبر تونس معنيّة بجريمة الاتجار بالأشخاص، باعتبارها دولة مصدّرة ومورّدة ومركز عبور أيضا بالنسبة للأشخاص المتاجر بهم، خاصة بالنسبة للنساء والأطفال في مجالات العمل المنزلي وممارسة الدعارة والتسوّل والمشاركة القسرية في الإجرام والاستغلال الجنسي وغيرها. ولا تضطلع الجمعيات والنقابات ووسائل الإعلام ببلادنا بأدوارها المطلوبة على أحسن وجه في مكافحة هذه الظاهرة التي تحتاج أن نسلّط عليها الأضواء.
العبودية تعود إلى ليبيا من جديد
نشرت شبكة “سي أن أن” الأميركية تحقيقاً استقصائياً صادماً عن “تجارة الرق” في ليبيا والمعاناة الإنسانية التي يعيشها المهاجرون الأفارقة خاصة العالقون هناك، بعد فشلهم في العبور إلى أوروبا. ويظهر التقرير الذي اعتمد على مقاطع مصوّرة بطريقة سرية، شابين يعرضان للبيع في المزاد للعمل في مزرعة، بيعا بمبلغ 1200 دينار ليبي أي 400 دولار لكل منهما. كما يظهر التقرير أنّ ذلك يتم وسط أجواء طبيعية، وكأن سكان هذه المنطقة اعتادوا هذا المشهد المروّع. وتمّ تداول خبر وصور بيع المهاجرين بالمزاد في ليبيا بشكل واسع على شبكات التواصل الاجتماعي، مما أثار تعاطفاً كبيراً، واستدعى ردود أفعال مستنكرة ومندّدة.
فقد أعلن نائب رئيس حكومة الوفاق الليبية، أحمد معيتيق، أن طرابلس فتحت تحقيقاً في “العبودية”. وأعرب عن “استيائه من التقارير التي نشرتها وسائل الإعلام حول انتعاش تجارة الرقيق في ضواحي مدينة طرابلس”.وأكد أنه “بصدد تكليف لجان مختصة للتحقيق في التقارير المنشورة لضبط المتهمين وتقديمهم للعدالة”. وكان الرئيس الحالي للاتحاد الإفريقي الرئيس الغيني ألفا كوندي قد ندّد بأعمال بيع المهاجرين الذين يتم استعبادهم. و”أعرب عن سخطه على الاتجار الحقير بالمهاجرين السائد في هذه اللحظة في ليبيا “. ومن جهته طلب الرئيس النيجري محمد يوسوفو إدراج الموضوع على جدول أعمال قمة الاتحاد الإفريقي التي تنعقد في أبيدجان في 29 و30 نوفمبر2017. وفي داكار، أفاد بيان رسمي أن الحكومة السنغالية “علمت بالصفقة التي أغضبتها كثيرا لبيع مهاجرين من أفريقيا جنوب الصحراء على الأراضي الليبية”.

كما أعربت الأمم المتحدة عن صدمته مما يجري، وانتقد المفوّض السامي لحقوق الإنسان زيد رعد الحسين، تدهور ظروف احتجاز المهاجرين في ليبيا، واصفا تعاون الاتحاد الأوروبي مع ليبيا بأنه “لا إنساني”. وأثار الفيديو غضب الكثير من المنظمات الدولية المعنية بحقوق الإنسان، واستياء الكثير من نجوم الأدب والفن والرياضة الأفارقة. وتظاهر نحو 1000 شخص، السبت 18 نوفمبر2017، في باريس ضد حالات من “العبودية” في ليبيا. ولبّى المتظاهرون نداء العديد من الجمعيات لاسيما “تجمّع ضدّ الاستعباد ومعسكرات الاعتقال في ليبيا”، الذي تمّ تأسيسه بعد بث تقرير شبكة “سي أن أن”.

وفي محاولة تفسير هذه الظاهرة رأى متابعون أنّه في بلد يشهد حالة من الاضطراب الكلّي في غياب القوانين الرادعة والسلطة المركزية القوية، وتسيطر فيه مليشيات منفلتة في معظمها، وأصبح فيه القتل بأبشع الطرق على الملأ، ليس مستغربا أن تنهض فيه ظاهرة “العبودية” بالصورة السافرة التي أظهرها التقرير. وضرب بعضهم مثلا بأسواق النخاسة والسبايا التي فتحتها داعش في سوريا والعراق. فليبيا تعاني الاحتراب الداخلي والانقسامات والانهيار الأمني ويستعصي فيها الحلّ السياسي. وفي هذا السياق اعتبر موفد الأمم المتحدة الخاص إلى ليبيا غسان سلامة “أن الأمر لا يتصل دائما بنية سيئة، بل بعدم قدرة حكومة لا تملك الأدوات الضرورية للحكم وفرض الأمن”. ويذهب البعض الآخر إلى اتّهام جهات دولية غربية بتغذية ما يحصل من خلال تعاونها مع “ميليشيات” وعدم مساعدتها جديّا على حلّ سياسي بليبيا. كم يرى آخرون أنّ وراء تضخيم “الخبر” أجندات سياسية تستهدف ليبيا.

مكافحة الاتّجار بالأشخاص في تونس
التزمت الحكومة التونسية بمكافحة الاتّجار بالأشخاص وذلك بالمصادقة على “بروتوكول بالارمو” منذ سنة 2003، الذي يمنع هذه الجريمة ويعاقب عليها. والملحق باتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة، الذي صادقت عليه من قبل. وبعد الثورة صادق مجلس نواب الشعب في 12جويلية 2016 على قانون أساسي عدد 61 لسنة 2016 يتعلق بمنع الاتجار بالأشخاص ومكافحته. والذي نشر بالرائد الرسمي في 12 أوت 2016. وجاء في الفصل 2 منه أنّه “يعدّ اتجارا بالأشخاص استقطاب أو تجنيد أشخاص أو نقلهم أو تنقيلهم أو تحويل وجهتهم أو ترحيلهم أو إيواءهم أو استقبالهم باستعمال القوة أو السلاح أو التهديد بهما أو غير ذلك من أشكال الإكراه أو الاختطاف أو الاحتيال أو الخداع أو استغلال حالة استضعاف أو استغلال نفوذ أو تسليم أو قبول مبالغ مالية أو مزايا أو عطايا أو وعود بعطايا لنيل موافقة شخص له سيطرة على شخص آخر وذلك بقصد الاستغلال أيا كانت صوره سواء من طرف مرتكب تلك الأفعال أو بوضعه على ذمة الغير لاستغلاله. ويشمل الاستغلال استغلال بغاء الغير أو دعارته أو غيرها من أشكال الاستغلال الجنسي أو السخرة أو الخدمة قسرا أو الاسترقاق أو الممارسات الشبيهة بالرق أو الاستعباد أو التسول أو نزع الأعضاء أو الأنسجة أو الخلايا أو الأمشاج أو الأجنة أو جزء منها أو غيرها من أشكال الاستغلال الأخرى”. وهذا تعريف مستوحى من “بروتوكول بالارمو” وقريب منه.
وباعتماد هذا التعريف واستنادا إلى دراسات، على ندرتها، نتبيّن دون أمثلة لا يتسع لها المجال، أنّ الظاهرة منتشرة بتونس وتحتاج إلى اهتمام ومكافحة جديّة. لذلك نصّ الفصل 44 على أنّه “تُحدث لدى وزارة العدل هيئة تسم “الهيئة الوطنية لمكافحة الاتجار بالأشخاص”. ودقّق الفصل 45 تركيبتها وبيّن الفصل 46 مهامها. وجاء في الفصل 49 على أنّ الهيئة تعدّ “تقريرا سنويا عن نشاطها يتضمن وجوبا اقتراحاتها لتطوير الآليات الوطنية لمكافحة الاتجار بالأشخاص تحيله إلى رئيس الحكومة ويتم نشره للعموم. كما يمكن للهيئة إصدار بلاغات حول نشاطاتها وبرامجها”.

تترأس القاضية روضة العبيدي هذه الهيئة منذ تشكيلها. وهي إلى اليوم تعمل في ظروف صعبة وليس لها مقرّ ويجهلها أغلب التونسيين، بما يرجّح أنّ إحداثها، يبدو أقرب إلى “دعم التعاون الدولي في مجال مكافحة الاتجار بالأشخاص في إطار الاتفاقيات الدولية والإقليمية والثنائية المصادق عليها من قبل الجمهورية التونسية”. وهي على غرار “الهيئة العليا لحقوق الإنسان” و”الهيئة الوطنية لمكافحة التعذيب” أقرب إلى الاستجابة إلى طلبات أممية وليس قناعة أو تلبية لاستحقاقات وطنية . وهذا أحد أسباب المردود المحدود لتلك الهيئات وعدم مواكبة عموم التونسيين لأنشطتها.
محمد القوماني

مشاركة
    0 Comments

    No Comment.

    %d مدونون معجبون بهذه: