بعد  تعديلات جوهريّة  لقانون المصالحة.. هل يمرّ ؟

 

جريدة الرأي العام، العدد15، تونس في  20 جويلية 2017.

عادت لجنة التشريع العام بمجلس نواب الشعب مجدّدا للنظر في مشروع قانون المصالحة الاقتصادية المعروض على المجلس  من قبل رئيس الجمهورية منذ جويلية 2015. فرغم الأولويّة التي تتمتع بها مشاريع الرئيس كما ينصّ على ذلك الدستور، قد مرّت على هذا المشروع  بالبرلمان ثلاث سنوات بالتمام والكمال، في مفارقة عجيبة تعكس حجم المناكفة والصعوبات في هذا الموضوع. ويبدو من خلال ما رشح من معلومات من تحت قبة البرلمان أنّ تعديلات جوهرية تمّ اقتراح إدخالها على المشروع هذه المرّة، لرفع الالتباسات التي أثيرت حوله، لا سيما ما يتّصل بمدى ملاءمته للدستور وعدم تعارضه مع مسار العدالة الانتقالية الذي تتولاه هيئة الحقيقة والكرامة. وفي مفارقة أخرى يبدو أنّ هذا المشروع الذي ملأ الدنيا وشغل الناس كما يُقال، يكاد المتابعون وعموم المواطنين لا يتبيّنون مضمونه بوضوح، من قبل المدافعين عنه أو الرافضين له، بسبب حدّة المناكفات أيضا وسوق المزايدات وتضارب الأجندات. فما هي الصيغة التي قد يستقرّ علها المشروع بعد ثلاث سنوات من المدّ والجزر؟ وما هي حظوظ تمريره في جلسة عامّة بالبرلمان قريبا؟

يرمي مشروع القانون المتعلق بإجراءات خاصة بالمصالحة في المجال الاقتصادي والمالي في صيغته الأصلية لسنة 2015، إلى وضع نظام فعّال لمعالجة انتهاكات تتعلق بالفساد المالي وبالاعتداء على المال العام، يفضي إلى غلق الملفات المتعلقة بها نهائيا وطيّ صفحة الماضي تحقيقا للمصالحة باعتبارها الغاية السامية للعدالة لانتقالية. وذلك بإيقاف التتبّعات أو المحاكمات أو تنفيذ العقوبات في حق الموظفين العموميين وأشباههم المتهمين، باستثناء تلك المتعلقة بالرشوة وبالاستيلاء على الأموال العمومية” كما ورد بالفصل2. وأضاف الفصل3  أنّه “يمكن لكل شخص حصلت له منفعة من أفعال تتعلق بالفساد المالي أو بالاعتداء على المال العام تقديم مطلب صلح إلى لجنة مصالحة تحدث برئاسة الحكومة” وتتركب من ممثّل عن رئاسة الحكومة (رئيس) وممثّل عن الوزارة المكلفة بالعدل، وممثّل عن الوزارة المكلّفة بالمالية، وعضوان عن هيئة الحقيقة والكرامة، والمكلّف العام بنزاعات الدولة أو من يمثله (أعضاء). وتتولّى اللجنة الحسم في الملفات المعروضة عليها وعقد صلح  نهائي مع المعنيين. ونصّ الفصل6 على أنّه “يترتّب عن تنفيذ بنود الصلح انقراض الدعوى العمومية أو إيقاف المحاكمة أو إيقاف تنفيذ العقوبة. ويسلّم الوكلاء العامّون لمحاكم الاستئناف للمعني بالأمر شهادة في إيقاف تنفيذ العقوبة بعد إدلائه بوصل الخلاص”. وأقرّ الفصل7 عفوا عن  أنواع حدّدها من “مخالفات الصرف المرتكبة قبل تاريخ دخول هذا القانون حيّز التنفيذ”. وجاء في الفصل12 والأخير أنّه “تلغى جميع الأحكام المتعلقة بالفساد المالي والاعتداء على المال العام الواردة بالقانون الأساسي عدد 53 لسنة 2013 المؤرخ في 24 ديسمبر 2013 المتعلق بإرساء العدالة الانتقالية وتنظيمها”.

ويتبيّن من هذا العرض المكثّف والضروريّ  لمعرفة حقيقة مشروع القانون، أنّ الصّلح المعروض يشمل ثلاثة أصناف وهم موظفين عموميين وأشباههم ورجال أعمال من أجل أفعال تتعلق بالفساد المالي وبالاعتداء على المال العام، ومرتكبين لمخالفات صرف. وكانت أهمّ الاعتراضات على المشروع قد تركّزت على أنّه مخالف للدستور ويكرّس الإفلات من العقاب ويستولي على جزء من مهام هيئة الحقيقة والكرامة ويجعل للجنة تتحكم فيها السلطة التنفيذية قرارات ترقى عن أحكام القضاء ولا تقبل الطعن. وأنّ الصّلح المقترح لا يضمن حقّ استرجاع الأموال العمومية المنهوبة ولا يفرض اعتذارا على المتّهمين ولا يكرّس المساءلة والمحاسبة والشفافية وحفظ الذاكرة وغيرها من مقاييس العدالة الانتقالية. ولم يجد المشروع طريقه إلى الجلسة العامة أمام اعتراض مختلف الكتل بما فيها كتلة حركة النهضة حليف رئيس الجمهورية وحركة نداء تونس، فضلا عن الاعتراضات والاحتجاجات خارج البرلمان.

وحين عادت لجنة التشريع العام خلال أفريل الماضي إلى مناقشة المشروع بعد أن أبدت  رئاسة الجمهورية مرونة كبيرة في التعاطي الايجابي مع مختلف الاقتراحات لتعديله ، بل تسرّبت مقترحات مهمّة من دوائر الرئاسة في هذا الاتجاه خاصّة في التنصيص على المساءلة والمحاسبة والاعتذار وتعديل تركيبة لجنة المصالحة وضمان استقلاليتها وشفافية عملها، لم يساعد المناخ الاجتماعي المتوتر جدّا آنذاك على حسن التفاعل مع المقترحات المسرّبة، ولم تجد القبول المطلوب لا داخل البرلمان ولا خارجه. وتجدّدت الاحتجاجات عليه والانتقادات  كما جدّد مجلس شورى حركة النهضة عدم قبول القانون في صيغته الحالية وطالب بإجراء تعديلات جوهرية عليه. وقد أشار رئيس الجمهورية السيد الباجي قائد السبسي في خطابه الأخير إلى الشعب بقصر المؤتمرات يوم 10 ماي 2017 إلى أنّ دافعه الأساسي إلى تقديم مشروع قانون المصالحة هو ما لمسه من تعطّل في الإدارة وتمنّع كبار الموظفين عن الإمضاء واتخاذ القرارات بسبب ما لحق بعضهم من قضايا متصلة بمنظومة الحكم السابق. وبدا متمسّكا بمشروعه في تحقيق مقصده، معربا عن أكبر قدر من المرونة في التفاعل مع مقترحات تعديله مهما كان مصدرها. وتفيد معطيات داخل البرلمان أنّ كتلة نداء تونس، بالتفاعل مع كتلة حركة النهضة أساسا، وكتل أخرى، تقدّت إلى لجنة التشريع العام بمقترح اقتصار  المشروع على قانون عفو عامّ يوقف التتبّعات والأحكام في شأن الموظفين العموميين وأشباههم على معنى الفصلين 82 و96 من المجلة الجزائية بالنسبة للأفعال المتصلة بمخالفة التراتيب والإضرار بالإدارة لتحقيق فائدة لا وجه لها للغير، شريطة عدم الحصول على فائدة لا وجه لها لأنفسهم. ويستثنى من ذلك من كانت الأفعال المنسوبة إليهم تتعلق بقبول رشاوى أو بالاستيلاء على أموال عمومية. وأن تتولى هيئة تتألف من الرئيس الأول لمحكمة التعقيب وعضوين من أقدم رؤساء الدوائر بها وبحضور ممثل النيابة العمومية لديها، البتّ في كل خلاف يتّصل بأحكام هذا القانون. وتبتّ الهيئة المذكورة في الموضوع خلال أجل لا يتعدّى الشهر، ولا يقبل قرارها الطعن بأيّ وجه من الوجوه.

ويبدو أنّ هذا المقترح إذا تبلور في مشروع قانون يستوفي جميع ضمانات الشفافيّة  وينصّ على الاعتذار، سيكون تعديلا جوهريا للمشروع الأصلي،   يوائمه مع الدستور ولا يجعله بديلا عن لجنة المصالحة بهيئة الحقيقة والكرامة ولا  يقترح تعديل قانون العدالة الانتقالية عدد 53 لسنة 2013، بل إنّه يباشر ملفات لا تندرج ضمن الانتهاكات الجسيمة  التي نصّ عليها الفصل 8 من ذلك القانون. وبذلك ترفع أغلب التحفّظات وتكون للاعتراضات صداها. وفي نفس الوقت يحقّق المشروع مقصده الرئيسي الذي أعلنه رئيس الجمهورية ويحافظ على استثناء المورّطين في الرشاوي ونهب المال العام المضمّن في النسخة الأصلية. وإذا نال التعديل موافقة لجنة التشريع العام، سيكون القانون في طريق مفتوح إلى المصادقة عليه بالجلسة العامة، لنطوي صفحة أخرى على طريق مصالحة وطنية شاملة متأكدة . والمهمّ أن لا تتحوّل التقديرات المختلفة للمصلحة الوطنية إلى أجندات شخصية أو حزبية أو فئوية أو ربما خارجية، لإرباك الساحة الوطنية وتعطيل مسار نجاح التجربة التونسية في الانتقال الديمقراطي.

محمد القوماني

L’image contient peut-être : 2 personnes, personnes souriantes, texte

مشاركة
    0 Comments

    No Comment.

    %d مدونون معجبون بهذه: