انطلقت الحملة الانتخابية..ولم يتوقّف الإرباك..

دخلت الانتخابات البلدية المقرّرة ليوم 6 ماي 2018 مرحلتها الحاسمة بانطلاق حملتها الانتخابية، التي بدأت يوم 14 أفريل وتستمرّ ثلاثة أسابيع إلى غاية الجمعة 04 ماي. تبدو الخطوات الأولى مُحتشمة، لكن العين لا تخطئ في الواقع أو في الفضاء الافتراضي، مظاهر عُرس يجوب طول البلاد وعرضها، ستتسارع وتيرته بالتأكيد مع مرور الأيام. لكن الذي لا يخطئه المراقب للوضع أيضا، أنّه بالتوازي مع العرس الانتخابي، تستمرّ مؤشّرات إرباك سياسي، لئن لم تؤثر على إنجاز الانتخابات في موعدها، فإنّها تساهم في تعكير المزاج السياسي العام، ولا تساعد على مواجهة خطر العزوف عن المشاركة، الذي يظلّ تحدّيا رئيسيا، بعد التقدّم على بقية المستويات. فنسبة المشاركة ستكون حاسمة في مصير الانتخابات ومستقبل المسار السياسي عموما.
عاشت تونس بعد الثورة حالات استعصاء عن الحكم، كان بعضها تلقائيا ومُتفهّما في سياق مرحلة انتقالية لا تخفي مصاعبها، وكان بعضها مصطنعا ومستهدفا للثورة من جهات داخلية وخارجية. أضرّت تلك الحالات التي بلغت حدّ النيل من رموز الدولة والاستهتار بالقانون، بمسار الانتقال الديمقراطي ورفعت منسوب الشك في نجاح التجربة التونسية، بعد تهاوي التجارب المماثلة والموازية، في بلدان عربية أخرى. واجتازت بلادنا مصاعب جمّة لتصنّف اليوم على أنّها الديمقراطية الاستثنائية في المنطقة. وفي الوقت الذي ينظر فيه البعض إلى الانتخابات البلدية على أنّها خطوة نوعية في تثبيت الديمقراطية بانتخاب أكثر من سبعة آلاف حاكم محليّ، يرى آخرون فيما وصلت إليه البلاد من أزمة اقتصادية واجتماعية حادّة، وما تمرّ به أوضاع التعليم العمومي بمختلف مستوياته من أزمة غير مسبوقة، وما نعاينه من حالات استهتار وتمرّد يومي على الدولة، وما تعيشه بعض مؤسسات الحكم، وما يعرفه المجتمع من تنامي مظاهر الجريمة، مؤشرات بالغة السلبية على تعثّر التجربة الديمقراطية وتضييق الخناق عليها.
فالمؤشرات الاقتصادية في تراجع الإنتاج وانخفاض الدينار وسلبية التصنيفات الاقتصادية الدولية والارتفاع القياسي للمديونية والصعود الصاروخي لنسبة التضخم واستمرار الاختلال في المالية العمومية وصعوبات الاقتراض الداخلي والخارجي، وتأخّر الإصلاحات المتأكدة وتعطيلها والإخلالات بالجملة في مجالات التصرف العمومي ومزيد انهيار المؤسسات العمومية وتدهور القدرة الشرائية وغيرها من المؤشرات التي يتداولها المحلّلون والإعلاميّون صباحا مساء، باتت كافية وحدها لبثّ الإحباط واحتمال انهيار الوضع وإعلان إفلاس الدولة.
تضاف إلى ذلك أزمة حادّة بين نقابات التعليم الثانوي والعالي ووزارتي الإشراف، استعملت فيها صيغ احتجاجية ووسائل لليّ الذراع غير مسبوقة، على غرار حجب الأعداد وعدم إجراء الامتحانات والإضراب المفتوح، بما صار يهدّد جدّيا بفشل سنة دراسية وجامعية لم يتحصل فيها التلاميذ والطلبة على نتائج السداسية الأولى وهم يوشكون على إنهاء العام الدراسي، بما يزيد يوميا في حيرة الأولياء وبلبلة الرأي العام.
كما يشهد قطاع الصحة العمومية، ذو الحساسية المميزة إلى جانب التعليم، حالة من الاضطراب والإضرابات وسوء الخدمات وانتشار الإشاعات. فملفّات الفساد مُذهلة بالصيدلية المركزية ومختلف مؤسسات الصحة العمومية، والأدوية مفقودة بالمستشفيات، والإقامة والعيادات الخارجية صارت قصصا يومية في المعاناة، والعجز في الصناديق الاجتماعية والصندوق الوطني للتعويض عن المرض، تلقي بضلالها السلبية على خدمات الأطبّاء والصيدليات الخاصة.
وفي الوقت الذي يُشيد فيه الجميع بالمجهودات الجبارة والنتائج الحسنة التي تسجّلها قوّات الجيش والأمن الوطنيين في محاربة الإرهاب الأيديولوجي بالأسلحة النارية، الذي روّع المواطنين واستهدف استقرار الدولة وكيانها أصلا، ويثمّن الجميع الانتصار المُحرز على هذه الجبهة، التي لازالت تحتاج إلى مزيد اليقظة والبذل، في ذات الوقت تتواتر الأحداث والمؤشرات على أنّ الجريمة الاجتماعية الفردية والمنظمة، وخاصة تلك المرتبطة بترويع المواطنين، والاعتداء على ممتلكاتهم وما بحوزتهم، تكاد تفوق الخطر الإرهابي المشار إليه. فالإرهاب الاجتماعي بالأسلحة البيضاء، من خلال عمليات السرقة للمواشي والمنازل والسطو والنشل و”البراكاجات” بالطريق العام ووسائل النقل، بات رعبا حقيقيا للتونسيات والتونسيين، وخطرا يتهدّدهم بجميع شرائحهم العمرية والاجتماعية.
في ظلّ هذه الأوضاع التي لم نبالغ في توصيفها باختصار، تتداول وسائل الإعلام أخبار الاعتداء بالعنف اللفظي والمادي على فريق رقابي أثناء إنجازه مهمّة رقابية بالوكالة العقارية للسكنى، وافتكاك ملفات التدقيق في شبهات فساد بحوزته، من قبل موظفين بالوكالة من بينهم نقابيين، ومن قبلُ تتواتر الأخبار عن تعنيف مراقبي وزارة التجارة أو مراقبي البلديات أو غيرهم.
وتنقل التلفزة الوطنية صورا ومداخلات مباشرة بالبرلمان لحالات هستيرية في قذف المسؤولين التنفيذيين بالدولة أو التلاسن بين نواب الشعب أنفسهم أو الاعتداء على الأخلاق الحميدة أو الإسفاف في الكلام أو التنكّر لمبادئ الدستور وقيم الديمقراطية. يتمّ ذلك من مختلف الأطراف، ولا أستثني أحدا، ويتكرّر في أكثر من جلسة أو موضوع. كما يشاهد التونسيات والتونسيون حالة التسيّب بالبرلمان، رمز سيادة الشعب، ويعاينون الحضور الضعيف بالجلسات والتأخر في موعد انطلاقها بسبب تعذّر النصاب. وقد صارت الأزمة بالبرلمان مفتوحة أيضا، بعد ملابسات جلسة التصويت الشهيرة على التمديد لهيئة الحقيقة والكرامة، وصار استجداء حضور النواب متكرّرا للتصويت على فصول مجلة الجماعات المحلية، التي تمّ الوعد بالمصادقة عليها قبل الانتخابات البلدية، وصار الأمر محلّ شكّ ومناورة في الفترة الأخيرة.
وبالتوازي مع الأزمة المفتوحة بالبرلمان، يستمرّ موضوع تغيير الحكومة مفتوحا أيضا. فالتسريبات تفيد أنّ لجنة الخبراء لوثيقة قرطاج 2 تتردّد بين مقتضيات استيفاء الحوار لوضع برنامج تفصيلي للإصلاحات المتأكدة تتفق عليه الأطراف وتلتزم بدعمه، قبل التداول في موضوع التغيير الحكومي المطلوب، وبين المُستعجلين لتغيير حكومة الشاهد، مكتفين بعناوين عامّة ومتكرّرة في الإصلاح، لن تختلف كثيرا عن عموميات وثيقة قرطاج الأولى.
نكتفي بهذا القدر في رسم المشهد العام ببلادنا في هذه المرحلة، من خلال ما أـسلفنا من مؤشرات عامة في مجالات حيوية، لنضع الجميع أمام مسؤولياتهم. ولنخلص إلى أنّ المطلوب الآن هو تفكيك هذه الملفات المتداخلة، وحسن ترتيب أولويات تناولها، وبناء الثقة التي لا غنى عنها بين الفاعلين السياسيبن والاجتماعيين لمواجهتها. ومصارحة الشعب بالتضحيات العاجلة المستوجبة من أجل أوضاع أفضل آجلة. وقبل ذلك كلّه، صرف الاهتمام والجهد حاليا لإنجاح البلديات، بالتعاون على مناخ إيجابي للتنافس بين القائمات، وتحفيز الهمم للحدّ من العزوف وتعبئة الناخبين والناخبات، والعمل على إرساء دعائم حكم محلي يبدأ بهذه البلديات، ولا يعدم فوائد ونجاعة في تقاسم الأعباء والمسؤوليات في كسب مختلف التحديات. فتونسنا التي طالما تفاخرنا بعراقة فكرة الدولة في نخبها وشعبها ونظامها، وحصانتها من أيّة انقسامات دينية أو طائفية أو إثنيّة أو غيرها، تبدو الدولة فيها مهدّدة حقيقة لا مجازا، بأخطار جمّة تعدّ الفوضى أهمّ عناوينها. يحضرني قول الشاعر: مَتى يَبلُغ البُنيانُ يَوماً تَمامَه ** اِذا كُنت تَبنيهِ وَغَيرك يَهدِم.
محمد القوماني

*منشور بجريدة الرأي العام، العدد 53، تونس في 19 أفريل 2018.

مشاركة
    0 Comments

    No Comment.

    %d مدونون معجبون بهذه: