اليسار التونسي حاكما ومعارضا في آن.. “داخل في الربح..خارج من الخسارة”

 

جريدة الرأي العام، العدد 29، تونس في   02 نوفمبر 2017

كم تبدو مراجعة “مُسلّمات” في الفكر أو في السياسة ضروريّة للتخلّص من معوّقات ذهنية في فهم الواقع المعيش كما هو ، وليس بصفته أبنية ذهنية في الخطاب السائد. فبعض المقولات في السياسة تتّخذ صفة “المسلّمات” ويتمّ البناء عليها، ليس بسبب وضوحها وقوّة منطقها الداخلي الذي يجعل منها قاسما مشتركا لا يحتاج إلى استدلال، بل تتّخذ صفة “المسلّمات” من كثرة تكرارها والترويج لها، وسكوت المتقبلين لها وعدم فحص مضمونها ومناقشة صدقيّتها. ومن المقولات التي نروم مراجعتها في هذا السياق الإدّعاء بأنّ الحكم في تونس بعد الثورة يعبّر عن “تحالف يميني”، وأنّ “اليسار” عموما يتموقع في المعارضة ويشكّل بديلا مُحتملا عن الحكم القائم؟

يسار ثلثه باللّسان وثلثاه عند اليمين..

لا أخفي ما أجده من حرج في تناول هذا الموضوع لعدّة  أسباب. أوّلها أنّي أدافع عن حقّ الاختلاف وحرية الفكر وأنبذ الاستقطاب الأيديولوجي وأراه مضرّا بالساحة الفكرية والسياسية. وثانيها أنّي أكره أن يُحمل كلامي على الانخراط في التهجّم الاعتباطي على “اليسار”، الذي لا ينكر فضائله إلاّ جاحد، وقد تشرّفت في مرحلة ما بالانتساب إليه أو العمل المشترك مع بعض مكوّناته في الساحات النقابية أو الحقوقية أو السياسية. وثالثها وأهمّها أنّ مصطلح “اليسار” مثل سائر مصطلحات التصنيفات الأيديولوجية، لمرحلة ما قبل سقوط جدار برلين، استنفذ أغراضه وصار مُلتبسا وتمطّط في الواقع حتى صار يجمع المتناقضات فكرا وممارسة. فانقسم اليسار و”كفّر” بعضه البعض، وصار قسم في الحكم والآخر في معارضته، وحصلت مواجهات بين فصائله، وبات البعض يتحدّث عن  “يسار ليبرالي”، وجمعت المواجهات مع الخصوم “أحزاب العمّال” و”الاشتراكيين” مع “أحزاب رأس المال” و”البورجوازية”، على غرار اعتصام باردو ضدّ “الترويكا” واجتماع قبة المنزه الشهير سنة 2013.  ومن قبل عبّر شاعر اليسار مظفّر النواب عن هذه التناقضات  ببلاغته النادرة حين قال: “يسار ثُلثه باللّسان وثُلثاه عند اليمين”…

يسار حاكما ومعارضا في آن..

لا يتّسع المجال لتفصيل الأمثلة والاستدلال على ما ندّعيه من حضور لافت لليسار في الحكم بتونس ومسكه بمواقع هامّة في الدولة والمجتمع وتأثيره المباشر في مواقع القرار، بما لا يلائم تمثيليّته الشعبية وحجمه الانتخابي. لذلك نقتصر على مرحلة ما بعد الثورة، لوضوح الصورة ولما عرفه المشهد السياسي من نقلة نوعية في ممارسة الحريات العامة والاحتكام للآليات الديمقراطية في الحكم. ويكفي أن تعودوا، كما فعلتُ، إلى مواقع “النات” لتستعرضوا خاصّة  تشكيلة الحكومة الأولى للسيد محمد الغنوشي المُعلنة يوم 17 جانفي 2011، أو حكومة السيد الباجي قائد السبسي المُعلنة في 7 مارس 2011، أو القائمة الأولى  لأعضاء “الهيئة العليا للانتقال الديمقراطي والإصلاح السياسي وتحقيق أهداف الثورة” برئاسة السيد عياض بن عاشور، لتتبيّنوا بوضوح، حجم مشاركة شخصيات يسارية، لا يُشقّ لها غبار كما يقال،  في إدارة المرحلة المؤقتة الأولى قبل انتخابات 23 أ كتوبر 2011، بصرف النظر عمّن اعتذروا أو استقالوا لاحقا أو انضموا في التعديلات الحاصلة.

وحتّى خلال حكم “الترويكا” بقيادة حركة النهضة، كان لليسار حضور ومشاركة من خلال بعض قيادات حزبي “التكتل” و”المؤِتمر”، ومن خلال الأصوات العالية “لليساريين” في المجلس الوطني التأسيسي وفي الاتحاد العام التونسي للشغل وفي جمعيات فاعلة بالمجتمع المدني وفي وسائل الإعلام، لا تخفى تأثيراتها جميعا، في القرار السياسي.، خاصّة من خلال الحوار الوطني. وبعد انتخابات 2014 كان حضور اليساريين أكبر في الحكم سواء باسم حزب نداء تونس الذي شاركوا في التحالف المؤسّس له تحت عناوين مختلفة، أو من خلال صفة “المستقلين” التي تكاد تُقصر على شخصيات يسارية أيضا. ويكفي مرّة أخرى استحضار تشكيلة حكومة السيد الحبيب الصيد سواء الأولى المجهضة لغلبة المسحة اليسارية عليها، أو المعتمدة في 05 فيفري 2015، وكذلك حكومة الوحدة الوطنية برئاسة السيد يوسف الشاهد، لتأكيد الحضور اللافت للشخصيات اليسارية نساء ورجالا في الحكم.

وإنّنا لا نجافي الحقيقة حين نؤكد أنّ “اليساريين” أمسكوا طيلة المرحلة المنقضية بمختلف الوزارات بما فيها وزارات السيادة. كما استمرّ تأثيرهم قويّا من خلال وجودهم بمؤسسات هامّة في الدولة أو التحكّم في  المجتمع المدني ووسائل الإعلام المختلفة. فكيف يستمرّ مع ذلك كلّه القول بأنّ الحكم “تحالف يميني بين النداء والنهضة”؟ وأنّ المعارضة اليسارية ممثّلة في الجبهة الشعبية التي تضمّ أطرافا من اليسار الماركسي والقومي، تظلّ البديل المحتمل عن الحكم المتّهم مسبقا بالفشل؟ فبهذا الزعم يدّعي اليسار أنّه “المنقذ”، في الحكم وفي المعارضة وفي مؤسسات الدولة وفي المجتمع المدني، ولا مسؤولية له في “الفشل”. ويصدق عليه المثل التونسي “داخل في الربح ..خارج في الخسارة”.

كفى استقطابا واحترابا

لا نمنّ على أحد حين نقرّ أنّ “اليسار” مكوّن وطني وأحد العائلات الفكرية التي لا يمكن طمس حضورها وإسهامها في البناء الوطني. لكن متى تكفّ بعض فصائل اليسار التونسي عن احتكار اليسارية والتقدّمية، ولا تزايد في “التونسة”، وهي التي ما تزال ترفع “رايات” لم تنشأ في البيئة التونسية، وتمثل صدى للاتحاد السوفياتي المنهار أو لتجارب في الشرق أو الغرب؟ ومتى  يغادر “اليسار” عموما مربّعات التنافي  والاحتراب،  ليعترف بالمختلفين من شركاء الوطن، وإن  كان التناقض معهم “جوهريا” كم يعدّونه؟ ومتى يقرّ اليسار بالتنوّع داخله وبمشاركة بعض فصائله في الحكم واختيار أخرى المعارضة؟ ولا يحمّل أعباء المرحلة لخصومه فقط؟

والأهمّ من كل ما سبق متي يعي رفاقنا في اليسار أنّ مرحلة “ما بعد الحرب الباردة” و”ما بعد العلمنة والأسلمة” و”ما بعد ثورات الربيع العربي” وما بعد.. وبعد..تستوجب معجما جديدا وآليات مختلفة في الفهم والتحليل وتعاطيا آخر مع الشأن الوطني والدولي؟

محمد القوماني

L’image contient peut-être : 1 personne

مشاركة
    0 Comments

    No Comment.

    %d مدونون معجبون بهذه: