النهضة تتخلّى عن توسيع حكومة الفخفاخ

         كان بيان حركة النهضة عقب اجتماع  مكتبها التنفيذي مساء السبت 4 جويلية 2020 منعرجا حاسما في علاقتها بالسيد إلياس الفخفاخ والائتلاف الحزبي المشكّل لحكومته. فقد جاء واضحا أكثر من أيّ وقت مضى في التعبير عن القلق تجاه وضع الحكومة ومستقبلها بعد التطورات الخطيرة والمتسارعة خلال الأسبوع المنقضي. كما جاء دالاّ على أنّ حزب النهضة غيّر خطابه ومطالبه وأهدافه وتكتيكاته. ويبدو جليّا أنّ هذا البيان زاد في مصاعب الحكومة التي تلاحق رئيسها شبهة تضارب مصالح وفساد، استنادا إلى لجنة التحقيق البرلمانية التي تم تنصيبها للغرض يوم الثلاثاء 07 جويلية 2020 برئاسة النائب عياض اللومي. كما راجت أخبار غير سارة من قرطاج في نفس اليوم، بعد لقاء رئيس الحكومة برئيس الجمهورية. وفي جميع السيناريوهات المتداولة يرجّح أنّنا مقدمون على مشهد سياسي جديد يتزامن فيه حراك تغيير حكومي مُحتمل، مع حراك اجتماعي احتجاجي متصاعد وتحوّلات إقليمية مؤثّرة وتجاذبات حزبية محتدّة.

         فاجأ بيان حركة النهضة الأخير ليوم الأحد 05 جويلية 2020 بعض الأوساط، لأنّه جاء مخالفا لبيان قريب لمجلس الشورى ليوم 29 جوان المنقضي، الذي أكّد على أهمية الاستقرار السياسي وجدّد دعمه للائتلاف الحكومي وذكّر بأهمية توسيع الحزام السياسي لحكومة الفخفاخ وشدّد على متابعة نتائج التحقيقات حول شبهة تضارب المصالح لدى رئيس الحكومة والتصرف وفقها. لكن بالعودة إلى مستجدات ما بعد دورة الشورى، نفهم خلفيات تغيّر الموقف في اجتماع المكتب التنفيذي الذي ارتأى ما “يستوجب إعادة تقدير الموقف من الحكومة والائتلاف المكوّن لها، وعرضه على مجلس الشورى في دورته القادمة  لاتخاذ القرار المناسب”.

        ففي بداية الأسبوع الماضي جاءت مؤشّرات سلبية تتعلق بملف تضارب المصالح لرئيس الحكومة من خلال تصريحات رئيس هيئة مكافحة الفساد شوقي الطبيب أمام لجنة برلمانية، الذي قدّم معلومات عزّزت من فرضية وجود تضارب مصالح وربما شبهة فساد. كما تفاجأت النهضة مرة أخرى من حلفائنا في الحكم، التيار الديمقراطي وتحيا تونس، بتصويتهم نهاية الأسبوع نفسه بمكتب مجلس نواب الشعب،  لصالح تمرير لائحة عبير موسي للجلسة العامة، التي تطلب تصنيف حركة الإخوان تنظيما إرهابيا، وتعديل قانون الإرهاب. وهي محاولة أخرى منها لإرباك البرلمان والإساءة لصورته لدى الرأي العام وجرّه إلى الانخراط في  أجندة خارجة عن الأجندة الوطنية، تمّ الاشتغال عليها في مصر وبعض دول الخليج، وإقحام تونس في محاور ومعارك لا تخدم المصالح التونسية، إضافة إلى اعتبار أغلبية أعضاء المكتب اللائحة مخالفة لمقتضيات الفصل المستندة إليه من النظام الداخلي. إذ تغيير قانون الإرهاب أو غيره، لا يتمّ بمشروع لائحة، بل بمبادرة تشريعية.

        وحين ينحاز حلفاء النهضة في الحكم إلى الحزب الدستوري الحر، المعادي لحركة النهضة والمنخرط في أجندة معادية للمسار الديمقراطي، وأحد أذرع الأجندة الإقليمية المناهضة للثورات العربية، فهذا مؤشّر على حالة تفكّك في الائتلاف الحكومي، واشتراك بعض أطرافه في استهداف النهضة  و”الاصطفاف مع قوى التطرّف السياسي” كما ورد بالبيان.

        ويضاف إلى المستجدات الخطيرة خلال الأيام الأخيرة، ضعف خطاب رئيس الحكومة وعدم الإقناع بامتلاكه لرؤية وبرامج في مواجهة التداعيات الاقتصادية والاجتماعية الخطيرة للحرب على كوفيد 19، أمام تصاعد الاحتجاجات الاجتماعية ومخاوف المؤشّرات الاقتصادية السلبية جدّا.

        لا يبدو بيان حركة النهضة الأخير، كما رأى البعض، مجرّد ضغط  تمارسه لحسابات حزبوية، ولدفع الفخفاخ إلى القبول بمقترحها في توسيع الحزام السياسي للحكومة، الذي كانت تراه من العوامل المساعدة على الاستقرار ومواجهة الأخطار المتعاظمة. فالأرجح أنّ النهضة تخلّت عن مقترحها في توسيع الائتلاف الحكومي، وبدأت تتهيّأ لما بعد حكومة الفخفاخ. فقد سجل البيان عدم تجاوب رئيس الحكومة مع مطلب التوسيع المتكرّر. كما سجل حالة التفكّك في الائتلاف الحكومي وغياب التضامن بين مكوناته،  وإضرار شبهة تضارب المصالح بصورته. وأحال البيان على تقدير جديد للموقف.

         فلا يمكن أن تتحمّل البلاد حكومة متّهمة بالفساد وهي تدّعي محاربته وتتطلع إلى بناء الثقة مع الشعب. ولم يعد بوسع حكومة سقطت أخلاقيا وسياسيا، وتآكلت مصداقيتها مبكّرا، أن تقوى على قرارات حاسمة وإدارة مرحلة صعبة. ولا يمكن التعلّل بمصاعب تشكيل حكومة جديدة إذا سقطت هذه الحكومة، للقبول بالأمر الواقع إذا وجدت دواع مقنعة وحقيقية لتغيير الحكومة.

        وليست ردود أفعال متحدّثين باسم بعض  مكوّنات الائتلاف الحكومي، على غرار قول بعضهم “لن يكون هناك توسيع للحزام السياسي للحكومة…واللّي مش عاجبو ينسحب منها (وهذا الأفضل)، أو يسحب منها الثقة ويتحمل مسؤولية ضرب استقرار البلاد” كما جاء في تدوينة لرئيس الكتلة الديمقراطية هشام العجبوني، ليست سوى صبّا للزيت على النار كما يقال وصياغة لموقف جرى على أكثر من لسان. فهذا الموقف مثال فقط، لتعبيرات عن مواقف يحكمها التشنّج وضعف الخبرة السياسية والعُجب بالنفس، وتغيب عنها الرصانة والحكمة وطول النفس. فما أسهل في العلاقات السياسية خاصة وأكلف، من إدارة الظهر للشريك والمزايدة عليه أو تخويفه بتحميله وحده مسؤولية العواقب السيئة للأوضاع.

        فبعيدا عن أيّة دوافع حزبية، وبصرف النظر عن واقعيّة الفرضيّة،  أدعو كلّ المعنيّين إلى تفكير عميق وحسن تقدير لمستقبل حكومة بلا حركة النهضة في سياق تونس اليوم وظروفها؟ أيّة توازنات داخل البرلمان وخارجه؟ وأيّة رسائل سباسية في الداخل والخارج؟ وأيّ تداعيات لهكذا مغامرة؟

        رحم الله تعالى الرئيس الراحل الباجي قائد السبيي الذي قاد فوز حزبه نداء تونس على غريمه حركة النهضة في انتخابات 2014، ورفض لاحقا إرادة بعض المغامرين وإغراءات المتربّصين في تشكيل حكومة بلا نهضة، أو الدخول في احتراب معها.  وأحسب أنّ خفّة بعض من يتحمّلون مسؤوليات في مواقع مختلفة في الأحزاب أو في الدولة، وضعف خبرتهم السياسية، من أهمّ الأخطار على تجربتنا، ومن أهمّ أسباب تعثّر مسارنا، ليس في هذه المرحلة فقط، بل طوال إدارتنا للانتقال الديمقراطي الصّعب. اللهم أفرغ علينا صبرا وألهمنا رشدنا.

محمد القوماني

*منشور بجريدة الرأي العام، العدد 164، تونس  في 09 جويلية 2020

مشاركة
    0 Comments

    No Comment.

    %d مدونون معجبون بهذه: