الغضب الاجتماعي بالوسط التونسي: هل يكون البداية؟

الغضب الاجتماعي بالوسط التونسي

هل يكون البداية؟

 

وجهت تحرّكات الغضب الاجتماعي بولاية سيدي بوزيد بالوسط التونسي التي امتدت على مدى الأسبوعين الأخيرين من سنة 2010، ضربة مُوجعة للخطاب السياسي الرسمي القائم على جُمل دعائية مفادها :”نجحنا ..ورضي المواطنون.. وشهد لنا العالم ..وسنواصل“. كما شكلت تلك التحركات بتلقائيتها وخلفياتها الاجتماعية وما لاقته من تجاوب في بقية جهات البلاد وما حظيت به من دعم سياسي وتغطية إعلامية واسعة، فرصة استثنائية للوقوف على قضايا وطنية في غاية الأهمية، طالما تمت الإشارة إليها في السابق ولم تجد الاهتمام المناسب ولا المعالجة الناجعة من طرف السلطة أساسا ومن الفاعلين السياسيين بتونس عموما. وفي مقدمة هذه القضايا نعدّد أولا تلك المتصلة بالتنمية والتشغيل والتوازن بين الجهات، وثانيا بالأداء الإعلامي وحرية التعبير وثالثا بالتلازم ين مطالب الحريات والمطالب الاجتماعية ورابعا بمنظومة المشاركة السياسية والحوار الوطني .

التنمية والتشغيل والتوازن بين الجهات

لم تكن محاولة انتحار الشاب محمد البوعزيزي بإضرام النار في جسده على مرأى من الناس وأمام مقر ولاية سيدي بوزيد، رمز السلطة بالجهة، إثر تعرضه للإهانة وتهديده في رزقه وصد أبواب التظلّم في وجهه وانسداد الأفق أمامه، في ظل انعدام مؤسسات اجتماعية تدافع عنه وتبلغ صوته، لم تكن تلك الحادثة سوى شرارة لاشتعال تحركات الغضب الاجتماعي الذي عكس احتقانا كبيرا غير خاف. وما كان ذلك ليحدث على سبيل المثال لو كانت ثقافة التنمية وقاعدة التعامل بين السلطة والمواطنين قائمة على ثقافة الحقوق وليس ثقافة القانون فقط، الذي تحوّل إلى سيف على الناس وليس ضمانة للكرامة والعدل. وصار أداة تهديد كما يُفصح عن ذلك القول المُتداول على ألسنة أعوان السّلطة التنفيذية : “توّ نطبّق عليك القانون“. كان ويمكن أن تُقدح مثل تلك الشرارة، في أي وقت وأي جهة أخرى من البلاد. فخطاب الدعاية الرسمية الذي يتغنى بالانجازات وينقل الإشادات الداخلية والخارجية بها، ويدّّعي أن تونس بمنأى عن الهزات العالمية في الاقتصاد والتأثيرات السلبية للعولمة بحكم السياسات الرشيدة والإجراءات الاستباقية، تعرّى في هذه المناسبة.

وجدت السلطة نفسها تحت ضغط الأحداث تعترف لأوّل مرة بوجود مشاكل وصعوبات وتتفهم بعض ردود الأفعال. وهو اعتراف يحيل أساسا على قضية التنمية التي لم تقدر نسبها الايجابية في السنوات السابقة فضلا عن تراجعها في الظروف الحالية، على امتصاص معدل البطالة المرتفع والمتزايد خاصة في صفوف الشباب وحاملي الشهادات العليا منهم خصوصا. إضافة إلى ما يحجبه الاكتفاء بإبراز المؤشرات العامة للتنمية من اختلالات وفوارق جهوية لا تظهر إلاّ من خلال المؤشرات التفصيلية. كما تبين أن منوال التنمية المعتمد والمتجدّّد في نهاية الثمانينات، كشف محدوديته ولم يقلص الفوارق بين الجهات الموروثة عن الحقبة السابقة.

لا نشكّك في أن الحكومة بذلت جهودا على هذه الأصعدة وكانت حذرة جدا في سياساتها الاجتماعية وكانت تستحضر مخاطر الاختلال الجهوي واستفحال البطالة ببعض الجهات بنسب مرتفعة عن غيرها. ولا ننكر أثر التحولات الديمغرافية وطفرة الشباب والارتفاع الكبير في نسب المتخرجين من الجامعات في صعوبات التشغيل. كما لا نتوهّم أن المشاكل التنموية المعقدة تُحلّ بعصا سحرية. لكن إذا كانت العبرة بالنتائج كم يقال، فإن تحركات الغضب الاجتماعي بولاية سيدي بوزيد خاصة، وما سبقها من أحداث بالحوض المنجمي وبجهات أخرى تؤشر على أن الانجازات دون المطلوب، وأن ثمار التنمية تحتاج إلى عدل أكبر في التوزيع، وأن الرضا عن النفس مضرّ، وأن صبر المواطنين محدود، وأن استحسان الأجانب لا يصمد أمام مظاهر الغضب الشعبي. وأن مراجعات جوهرية باتت متأكدة لمنوال التنمية في الثقافة التي يستند إليها وفي الأهداف التي يضعها وفي قاعدته الاقتصادية بالداخل والخارج وفي الخيارات التي ينتهجها والسياسات التي يعتمدها.

الأداء الإعلامي وحرية التعبير

لا نطيل كثيرا في تشريح المشهد الإعلامي العمومي خاصة، الذي كرّرت تحركات الغضب الاجتماعي بولاية سيدي بوزيد مرة أخرى فشله الذريع في تغطية الأحداث وإخفاقه في تأطيرها وتوجيهها والتفاعل معها، ممّا جعل الانتقادات الرسمية، على وجاهتها، لبعض الجهات الإعلامية الخارجية التي تعمدت المبالغات والتحريض، فاقدة للتأثير والإقناع.

فحين يتخلى الإعلام عن وظيفته في نقل المعطيات الصحيحة والتنبيه إلى شبهات الفساد أو استغلال النفوذ ولا يمارس دوره في النقد والمراقبة ولا يفسح المجال للتعبير عن الآراء المختلفة، لا يساعد أصحاب القرار على مراقبة المسؤولين الراجعين إليهم بالنظر ولا على حسن تقدير الأمور، بل يُضللهم و يُوقعهم في الخطأ. وكم كانت الأمور مختلفة في سيدي بوزيد على سبيل المثال لو اضطلع الإعلام الوطني بدوره.

لا يبدو عزل وزير الاتصال على خلفية الأحداث الأخيرة كافيا لتحسين الأداء وتغيير المشهد الإعلامي، بل لا بد من إجراءات جريئة تطلق حرية التعبير وتتفاعل مع مقترحات أصحاب المهنة ومطالب السياسيين والحقوقيين، وقد بينت تجربة الجرأة المتاحة في الملفات الرياضية والاجتماعية بالمحطات الإذاعية والتلفزية الخاصة، أن الجمهور التونسي ينشدّ إلى الإعلام المحلي إذا لمس فيه درجة من النقد والتنوع والمنافسة والحرفية والمصداقية. لكنّ ذلك للأسف ما يزال بطيئا ولم يمتدّ إلى الفضاء السياسي والإعلام العمومي. فالحصص التلفزية والإذاعية الحوارية التي تقررت مؤخرا، ظلت مقتصرة على وجوه رسمية أو موالية وأفقدت الحوار معناه بسبب عدم الاقتناع بحرية التعبير. المشهد الإعلامي بحاجة إلى قرارات جريئة في إعطاء رخص لمنابر جديدة وأقلام جديدة ومؤسسات إعلامية خارج مقياس الولاء.

التلازم ين مطالب الحريات والمطالب الاجتماعية

لم تخل احتجاجات الغضب الشعبي بسيدي بوزيد والتحركات المساندة لها بالجهات، من دلالات سياسية واضحة رغم طابعها الاجتماعي، ومع ذلك لم تدّع أيّة جهة سياسية معارضة، ولا يمكنها أن تقول، أنها كانت وراء التحركات أو أنها تمثل الرمزية السياسية لها.

تبدو السلطة أكثر استحضارا للجانب الاجتماعي في سياساتها وخطابها، لأنها تدرك جيدا أن الناس حين يضيق بهم العيش ينتفضون ويطعنون في شرعية حكمها. فالشرعية الدنيا لأي حاكم إنما يستمدها من الخدمات التي يقدمها للناس لتسهيل عيشهم. وقد أظهرت بعض شعارات المحتجين بعدا سياسيا من خلال استهدافها للفساد المالي والإداري وسوء تصريف شؤون الناس.

أما المعارضة بجميع أطيافها، بأحزابها وجمعياتها، وبنشطائها السياسيين والحقوقيين، فهي أقل استحضارا للمطالب الاجتماعية في خطابها وتحركاتها. ولم تُوفق في الصياغة المناسبة للتلازم بين الحقوق المدنية والسياسية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية، وبين مطالب الحريات الفردية والعامة ومطالب تحسين ظروف عيش المواطنين. ولذلك تُربك الاحتجاجات الاجتماعية في كل مرة المعارضة في خطابها وأجندتها.

لا يتفهم الناس خطاب الصعوبات المختلفة وخاصة الخارجية منها الذي تعتمده الحكومة ولا يتعاطفون معها، لأنهم لم يُشاركوا في القرار ورسم الخيارات الوطنية. ولا ينضم الناس للمعارضة، ما دامت مشاغلها نخبوية ولا تفصح عن برامج أو مقترحات عملية تحسّن ظروف عيشهم.

لهذه الاعتبارات نرى أن تحركات الغضب الاجتماعي بسيدي بوزيد سيكون لها أثر في مستقبل أداء السلطة وأداء المعارضة في آن، من خلال مراجعة علاقة الاجتماعي بالسياسي في رسم المشهد القادم وتحديد موازين القوى وكسب الشرعية والمصداقية.

منظومة المشاركة السياسية والحوار الوطني

حذّرت عديد الأطراف من سلبيات منظومة المشاركة السياسية المعتمدة منذ عقدين، والمستندة أساسا على هيمنة الحزب الحاكم على المؤسسات التمثيلية وتداخله مع الإدارة من جهة، ومحاولة فرض خريطة سياسية لتعددية حزبية لا تعكس حقيقة الحراك الاجتماعي في الواقع وتُقدم الولاء للسلطة على الكفاءة والفاعلية وخدمة المصلحة الوطنية من جهة أخرى. وقد أثبتت الأحداث الأخيرة عمق الأزمة السياسية وغياب أيّة أطر قادرة على التأطير واستيعاب الغضب والإنصات للناس وبلورة مطالبهم وتبليغها، باستثناء الدور الايجابي، على حدوده، الذي قام به الاتحاد العام التونسي للشغل. كما اتضحت عدم فاعلية المؤسسات الجهوية والمحلية التي يهيمن عليها الحزب الحاكم وتغيب فيها التعددية الحقيقية وتكتنفها شبهات الفساد واستغلال النفوذ. وكان من اللافت أن تحصل التحركات بمنطقة يُعتقد أنها من أكبر معاقل الحزب الحاكم، ومع ذلك لم تظهر إطارات الحزب الحاكم وسط جموع الغاضبين ولم يظهر دورهم في توجيه الاحتجاجات.

لم يعد بالإمكان تجاهل دعوات مختلف الأطراف السياسية والاجتماعية وجمعيات المجتمع المدني إلى حوار وطني ينهي القطيعة بين الدولة والمجتمع ويعيد بناء الثقة ويجدد مؤسسات الجمهورية ويؤسس لعقد سياسي جديد. فهذا الحوار يتيح الفرصة لبلورة مشروع وطني في الإصلاح والتنمية مُعبئ للطاقات، بجعل التحديات التي تواجهها بلادنا محل توافق وطني، ويؤسس لمنظومة مشاركة سياسية تستند إلى البناء على المشترك والتنافس النزيه على خدمة المصلحة العامة، قوامها الشفافية والمساءلة والإرادة الحرة التي تضفي الشرعية والمصداقية على الهياكل والمؤسسات الممثلة.

يبدو أن الاحتجاجات الاجتماعية بتونس التي بلغت مرحلة متقدمة مع أحداث الضب بسيدي بوزيد، ستؤرخ لمرحلة جديدة، لذلك نعدّها بداية. نأمل أن تكون بداية المراجعات والإصلاح المتأكد، والأفضل لتونس أن يعمل الجميع على ذلك ما بالوسع. وقد تكون بداية انحدار البلاد إلى أوضاع لا نتمناها ومن الأفضل أن يعمل الجميع على ألاّ تحصل. وإذا كان التعاطف والدعم لمطالب الغاضبين آنيا مطلوبين، فإن المسافة الذهنية للتفكير في المستقبل مطلوبة أيضا. وإذا كانت متابعة الأحداث وتغطيتها مهمة، فإن تحليل ما حصل واستخلاص الدروس أهم. ومهما تعقدت المشكلات يظل الحوار أقوم المسالك لحلها، إذ لا مصلحة لأحد في انزلاق الأوضاع نحو العنف.

تونس في غرة جانفي 2011

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* مقال منشور بجريدة القدس العربي (لندن) وبجريدة مواطنون (تونس) في مطلع جانفي 2011

مشاركة
    0 Comments

    No Comment.

    %d مدونون معجبون بهذه: