الدّرس الوطني في التوازن والتوافق لإنجاح انتخابات 2019
انضاف نهاية الأسبوع المنقضي حزب “حركة تحيا تونس” إلى عدد الأحزاب التونسية البالغ رسميا رقم 217. وهو عدد ضخم لم يعدد مقبولا بعد ثماني سنوات من الثورة. وتستعدّ بعض الأحزاب من بينها الحزب الجديد ونداء تونس والتيار الديمقراطي لعقد مؤتمراتها خلال الأشهر القليلة القادمة. ولئن مرّ بعض المتنافسين في التشريعية أو الرئاسية إلى سرعة قصوى في مطلع السنة الانتخابية، فإنّ السباق لا يستبعد مفاجآت محتملة ودخول منافسين غير معلنين إلى حدّ الآن. ويخطئ في الغالب من يصادر المستقبل ويستعجل النتائج النهائية ويجزم بالحتميّات. فكيف نقرأ الخارطة الحزبية والمشهد السياسي العام في أفق الاستحقاق الانتخابي نهاية العام؟ وما هو الدّرس الوطني المستخلص لإنجاح انتخابات 2019؟
بدت النخب السياسية التونسية المؤثّرة في مسار تونس ما بعد الثورة حريصة إلى حدّ الحساسيّة على استبعاد أمرين اثنين، كان يُنظر إليهما باعتبارهما ركيزتين للاستبداد، وهما هيمنة الحزب الواحد على المشهد السياسي وهيمنة الشخص الواحد على الدولة. وهذا ما لا يصعب على أيّ متابع التقاطه من مجمل الإجراءات والخيارات الأساسية. إذ تشكّلت عشرات الأحزاب في ظرف وجيز. وأُقرّ نظام انتخابي يمنع عمليّا هيمنة حزب واحد على البرلمان ويفرض حدّا أدنى من التعديّة داخله. وجاء دستور الثورة ليضع نظاما سياسيا يوّزع السلطة المركزية بين ثلاثة رئاسات ويقرّ سلطات محلية وجهوية تحدّ من المركزية ويجعل للمعارضة موقعا في القرار.
فترسيخ الديمقراطية والتداول على الحكم يقتضيان توازنا في المشهد الحزبي، حتّى يكون للتنافس معناه وحتى لا تكون الهيمنة مغذّية للاستبداد مجدّدا. وكان هذا أحد أهمّ أسباب تشكّل حزب حركة نداء تونس الذي سوّق نفسه بهدف إحداث التوازن في المشهد الحزبي بعد التقدّم الملحوظ لحزب حركة النهضة في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي، وبوادر هيمنته على الحكم رغم الشراكة المعتمدة في صيغة الائتلاف الثلاثي الحاكم المعروف ب”الترويكا”. وقد لاقت فكرة خلق التوازن تجاوبا في تجميع كثير من خصوم النهضة في نداء تونس بزعامة الباجي قائد السيسي. وساهم ذلك مع عوامل أخرى معقّدة في تقدّم النداء على النهضة في تشريعية 2014. لكن المفاجأة حصلت باضطرار الأوّل إلى التحالف مع غريمه الذي حلّ ثانيا في الترتيب مع فارق بسيط، لتشكيل أغلبية برلمانية حاكمة يحتاجها استكمال الانتقال الديمقراطي. وقد وجد التحالف الحكومي والبرلماني، في التوافق المسجّل بين الباجي قايد السبسي وراشد الغنوشي منذ ما يعرف بلقاء باريسسنة 2013، السند والضامن.
ومع اقتراب استحقاق الانتخابات التشريعية والرئاسية نهابة 2019، تشهد الساحة السياسية حراكا ملحوظا بتشكيل أحزاب جديدة أو الدعوة إلى تحالفات حزبية تشتغل مجدّدا على نفس الفكرة الأساسية التي ظهرت بعد انتخابات 2011، في ملء الوسط وإحداث التوازن المفقود. وهذا حراك محمود وواعد في ظاهره لكن تحفّه أسئلة هامة وتتعلّق به شكوك حول مستقبله وقدرته على رفع التحدّي. فأصحابه يعيدون نفس التكتيكات ويكرّرون نفس الخطابات تقريبا في “الضديّةّ للنهضة أو ادّعاء “الوسطيّة” أو “التوازن” أو “الإنقاذ” أو “البعد الاجتماعي” أو “الخيارات البديلة”… ويتناسون أنّ ما نجح مرّة يفقد جدّته وجاذبيّته، ولا ينجح في كلّ مرّة. وأنّ ادّعاء أمر ما لا يعني تمثّله. كما أنّ كثرة الأحزاب وعدم فعالية أغلبها وغياب أيّ اثر لها في القرار، يفرغ التعدّدية الحزبية من محتواها ويحرم الساحة السياسية من شروط تشكّلها السلبم.
وربّما بسبب الاعتبارات الأخيرة لم يلق حزب “تحيا تونس” استقبالا إيجابيا بإعلان تأسيسه يوم الأحد 27 جانفي 2019. فقد نظر إليه كثير من المتابعين على أنّه رقم جديد لا غير، وأنّ البلاد ليست بحاجة إلى رفع عدد الأحزاب. وهو “حزب الشاهد” و”حزب الحكومة” الذي يستعمل أدوات الدولة وإغراءات الحكم لأغراض حزبية، فضلا عن اتّهامه بالسطو على “مشترك وطني” واتخاذه اسما للحزب. وهذه مسائل حسّاسة تذكّر التونسيين بتجارب سابقة تستفزّهم. فضلا عن الشكوك في قدرة حزب على كسب معركة انتخابية تأسّس قبل تسعة أشهر من تنظيمها.
ظهر في صورة التأسيس عدد من النواب والوزراء والمسؤولين في الدولة المنشقين عن نداء تونس أو أحزاب أخرى، واشتغلت “ماكينة” التعبئة من مختلف الولايات للاجتماع بالمنستبر، مسقط رأس بورقيبة ومثواه الأخير، على غرار ميلاد حركة نداء تونس، لكن لم تظهر أفكار جديدة مميّزة، ولم يرشح عن الاجتماع غير مناكفة النداء ودعم يوسف الشاهد وتأكيد التمايز مع النهضة والوعد بعدم التحالف معها في المستقبل، مع أنّها الداعم الرئيسي لحكومة الشاهد والمتّهمة بالانحياز للحزب الجديد ضدّ الباجي والنداء. كما لم يتأكد دعم الدستوريين البورقيبيين إلى حزب الشاهد، كما حصل ذلك في السابق مع حزب الباجي.
وفي انتظار عقد مؤتمرات أحزاب نداء تونس والتيار الديمقراطي وتحيا تونس، المقرّرة خلال شهر مارس 2019، وما قد يحصل من مفاجآت سياسية خلال المدّة القادمة، وفي ظلّ التشنّج الغالب على الخطابات، والتلويح باستعمال “الدوسيات” في توجيه الخصومات، واستهداف الموعد الدستوري للانتخابات بالتهديدات، يبدو من المهمّ التذكير ببعض استخلاصات التجربة التونسية قبل الثورة وبعدها، في تشكّل المشهد السياسي وموجّهات الصراع حول الحكم.
فقد بات مؤكدا أنّ الصّراع على حكم تونس في تاريخها المعاصر تشقه ثلاثة قوى أساسية، تنحدر من عائلات أيديولوجية مختلفة، تتقاطع في مسائل وتختلف في أخرى. وهي العائلة الدستورية الوطنية بأجيالها، والعائلة الاجتماعية اليسارية من ماركسيين وقوميين، والعائلة المحافظة التي يشكل الإسلاميون عنوانها الأبرز. وهذا تقسيم إجرائي واقعي لا ينفي التقارب أو التقاطع بين تلك العائلات المختلفة كما أسلفنا، ولا يجعل صفة من الصفات جميعا حكرا على طرف دون آخر. كما أنّ هذه العائلات قد تتشكل في أحزاب على غرار الحزب الدستوري أو التجمع أو حزب النهضة، وقد تتشكل في جبهات سياسية على غرار الجبهة الشعبية، وقد تستظل بخيمة من منظمات المجتمع المدني أو جمعياته، على غرار الاتحاد العام التونسي للشغل، رغم طابعه المهني التعدّدي والمنفتح.
هذه العائلات إذا انفردت منها واحدة بالحكم وتغوّلت كان الاستبداد وإقصاء الآخرين. وإذا تصادمت كانت الكلفة باهظة على البلاد والعباد. ولا مصلحة للجميع ولا مستقبل أفضل لتونس إلاّ في تعايشها على قاعدة التوازن السياسي والتوافق على الحدّ الأدنى الوطني. وهذا ما أتاحته ثورة الحرية والكرامة، وما عبّرت عنه توجهات ما بعد الثورة المشار إليها طالع المقال، ولم يتمّ الوعي الكافي به والتنظير له وتجسيمه على أرض الواقع. وذلك أحد أسباب تعثّر مسارنا الديمقراطي منذ ثماني سنوات.
ولا أفق لبلوغ الاستحقاق الانتخابي التشربعي والرئاسي في موعده الدستوري، في مناخ من المنافسة النزيهة التي يقبل الجميع بنتائجها، وتؤمّن استقرارا للحكم ما بعد 2019، إلاّ باستحضار استخلاصات هذا الدرس الوطني. ولن يتمّ ذلك إلاّ باستبعاء أيّة آلية لاحتكار البرلمان على غرار شرط العتبة مثالا، وتفعيل هدف المصالحة الوطنية القائمة على التوافق والإدماج، واستبعاد التنافي والاستئصال، واستحضار أولويات التونسيات والتونسيين في حملة انتخابية تستبعد الاستقطاب الثقافي والأيديولوجي، وتعطي الأولوية للبرامج الاقتصادية والاجتماعية والمقترحات والوعود القابلة للتحقيق والقادرة على رفع تحديات المرحلة.
وفي كلّ الأحوال تظلّ الأحزاب، على عيوبها، أفضل الصيغ المعتمدة في إدارة العملية السياسية. وفي تبخيس الأحزاب أو إضعافها مخاطر لا تخفي في ظهور فاعلين سياسيين غير مرئيين، تتحكّم فيهم لوبيات المال والإعلام والجهات المخفية والمشبوهة. ولذلك نرحّب بالحزب الجديد.
محمد القوماني
*منشور بجريدة الرأي العام، العدد93 ، تونس في 31 جانفي2019.
https://scontent.ftun12-1.fna.fbcdn.net/v/t1.0-9/50943305_475326602998489_2967062445727678464_n.jpg?_nc_cat=106&_nc_ht=scontent.ftun12-1.fna&oh=dea378d00290708f21063a16605061a5&oe=5CF127BE