الحكم المحلّي بالجمهورية الثانية بين إغواء المركزية وجاذبية اللاّمركزية
جريدة الرأي العام، العدد 41، تونس في 25 جانفي 2018
تبدو تونس مُقبلة على تغييرات جوهرية في تنظيمها السياسي والإداري بإنجاز الانتخابات البلدية في 06 ماي 2018 كبداية لتفعيل الباب السابع من الدستور المتعلّق بالحكم المحلّي، المتكوّن من بلديات وجهات وأقاليم. ومن اللاّفت عشيّة تقديم قائمات المترشحين بعد أسبوعين تقريبا، أنّ الاهتمام ينصرف جزئيا إلى الانتخابات ومتطلباتها ورهاناتها الحزبية، ولا تتناول الحوارات بوسائل الإعلام أو فضاءات الحوار الأخرى، أهميّة تطوير نظامنا السياسي والإداري، وانتظاراتنا من مجلة الجماعات المحليّة التي يعكف البرلمان على مناقشتها باللجنة قبل عرضها للمصادقة بالجلسة العامة قريبا. ولا تخفى على المتابع ما تثيره بعض التصريحات أحيانا من تباينات كبيرة بهذا الخصوص وما يواجهه إرساء الحكم المحلي من صعوبات التأرجح بين جاذبية المركزية وجاذبية اللامركزية في أوساط النخب التونسية. وإنّ توعية لا غنى عنها ومساهمة إيجابية في استكمال المسار وإنجاحه، تتطلب تدقيقا للمفاهيم وتعريفا بتطوّر القانون الإداري ببلادنا وتجلية للإضافة النوعية في إرساء حوكمة مختلفة، وتحقيق أحد أهداف الثورة من خلال إرساء الحكم المحلي بمقتضى دستور الجمهورية الثانية.
في المركزية واللامركزية
تنقسم طرق التنظيم الإداري إلى أسلوبين رئيسيين هما المركزية الإدارية واللامركزية الإدارية. فالمركزية يقوم على تركيز السلط الإدارية ومختلف وظائفها في هياكل الإدارة المركزية المستقرة في عاصمة الدولة، المجسدة أساسا في الوزارات، إضافة إلى رئاسة الدولة ورئاسة الحكومة. ولا تتمتّع المصالح المتفرّعة عن الإدارة المركزية والتي يقع إرساؤها جهويا أو محليا، بأيّة سلطة للبتّ حتى في المسائل والشؤون التي تكتسي صبغة محلية، بل إن عليها أن ترفع هذه المسائل إلى الإدارة المركزية، التي تحتكر بمفردها سلطات البت واّتخاذ القرار. فالسلطات الجهوية والمحلية تنشط تحت رئاسة الوزير وكل القرارات تصدر باسمه، وهي تعمل وفق سلّم يكون فيه كل موظف خاضعا للذي هو أعلى منه درجة في الهرم. وتتخذ المركزية الإدارية شكلين رئيسيين هما المركزية المطلقة كما أسلفنا، والمركزية النسبية التي تسمّى اللاّمحورية، والتي تمكّن ممّثلي السلطة المركزية في الجهات والمحليات من اتخاذ القرار في بعض الشؤون والمسائل عن طريق الّتفويض في الإمضاء أو في الاختصاص.
أمّا اللاّمركزية الإدارية فتقوم على توزيع الوظائف الإدارية في الدولة بين الهياكل الإدارية المركزية وبين ذوات معنوية أخرى مستقّلة بذاتها ومتمتعة بسلطة اّتخاذ القرار وباختصاصات ذاتية يقرّها لها القانون، وتمارسها مع الخضوع لرقابة سلطة إشراف. وتكون القرارات صادرة باسم الجماعة المحلية كالولاية أو البلدية وليس باسم الدولة. كما ينتج عن إضفاء الشخصية المعنوية للإدارات اللامركزية، تمتّعها بذاتية التصرف الإداري والمالي في إطار وحدة الدولة. فقد نصّ القانون الأساسي عدد 11 لسنة 1989 المؤرخ في 04 فيفري 1989 في فصله الأول على أنّ “الولاية دائرة ترابية للدولة، وهي علاوة على ذلك جماعة عمومية تتمّتع بهذه الصفة بالشخصية المعنوية والاستقلال المالي ويدير شؤونها مجلس جهوي وتخضع إلى إشراف وزير الداخلية”. ويعرّف الفصل الأول من القانون الأساسي للبلديات البلدية بأّنها “جماعة محّلية تتمّتع بالشخصية المدنية والاستقلال المالي وهي مكّلفة بالتصرف في الشؤون البلدية”. وهكذا تبدو المركزية واللامركزية مختلفين في التنظيم الإداري لكنهما يتعايشان ويتكاملان في بلادنا.
الحكم المحلّي في دستور 2014
كان التنظيم الإداري للجمهورية التونسية الأولى المحتكم لدستور 1959، امتدادا ومواءمة وتطويرا للتنظيم الإداري الفرنسي، وتجسيدا لفكرة “الدولة القوية والنظام السياسي المستقرّ” الحاضرة بقوة في نقاشات المجلس القومي التأسيسي، وكان في نفس الوقت تكريسا لهيمنة نخب العاصمة من خرّيجي الصادقية أساسا والزيتونة بدرجة ثانية. ولا نبالغ إذا حمّلنا ذلك النظام الإداري المركزي، رغم تعديلات اللامحورية وجرعة اللامركزية، جانبا مهمّا من مسؤولية التفاوت الجهوي وتهميش المناطق الداخلية للبلاد. فقد كانت السلطة والإدارة تحت هيمنة العاصمة والساحل أساسا، وكان حظّ أغلب الجهات من التنمية بقدر حظها في الحكم ومراكز القرار في الإدارات المركزية. وكان التنكّر واضحا لخصوصيات الجهات ولحاجياتها التنموية، بل تمّ حرمانها من معطياتها الطبيعية وانتهاج التمييز بينها سواء في توزيع الثروات أو في مجهود التنمية والبنى التحتية. ومن هذه الزاوية نرى في ثورة 17 دسسمبر 2010/ 14 جانفي 2011 ثورة ضدّ الاستبداد والفساد لحكم بن علي أوّلا، ولكن ثورة ضدّ مركزية السلطة والثروة والتنمية وتهميش الجهات والفئات، وبالتالي ثورة ضدّ منظومة حكم الجمهورية الأولى ثانيا.
فقد بدت النخب السياسية التونسية المؤثّرة في مسار تونس ما بعد الثورة، كارهة إلى حدّ الحساسيّة، لكلّ ما كان يُنظر إليه على أنّه من ركائز منظومة الاستبداد والفساد والظلم. وحرصت من خلال المجلس الوطني التأسيسي على إقرار خيارات جديدة تدلّ على تغيّر نمط الحكم. فقد جاء دستور الثورة ليرسي نظاما سياسيا يوّزع السلطة المركزية بين ثلاثة مراكز (باردو والقصبة وقرطاج) ويجعل للمعارضة موقعا في القرار داخل البرلمان، لإنهاء النظام الرئاسي والاستبداد. ومن جهة أخرى أقرّ الدستور أيضا سلطات محليّة وجهويّة تحدّ من المركزيّة وتؤشّر على خيار جديد في الحكم، لإنهاء هيمنة المركز على الجهات وما سبّبه من تهميش ولا توازن. لذلك لا نبالغ إذا قلنا أنّ الباب السّابع من دستور تونس ما بعد الثورة كان من أهمّ الإضافات والمكاسب.
ويتّضح من مجمل فصول الباب السابع أنّنا إزاء حكم محليّ لأوّل مرّة في تونس بعد الاستقلال. وأنّ توزيع السلطة للحدّ من الاستبداد تم مركزيا ويتدعّم محليا. وأنّ الديمقراطية تضمنها مؤسسات وتجسّدها انتخابات حرّة وتعدديّة وشفافة ومشاركة مواطنيّة واسعة. وأنّ أمام المواطنين فرصا جديّة لخدمة مناطقهم وتحسين الخدمات وظروف العيش. فقد أقرّ الفصل 141من الدستور أنّ “المجلس الأعلى للجماعات المحلية هيكل تمثيلي لمجالس الجماعات المحلية مقرّه خارج العاصمة.” وهو ينظر “في المسائل المتعلقة بالتنمية والتوازن بين الجهات، ويبدي الرأي في مشاريع القوانين المتعلقة بالتخطيط والميزانية والمالية المحلية، ويمكن دعوة رئيسه لحضور مداولات مجلس الشعب.” وهذا المجلس يمكن أن يتحوّل فعليّا إلى غرفة برلمانية ثانية، يكون فيها تمثيل الجهات متساويا مهما كان عدد السكان، يناقش قضايا التنمية العادلة ويكون صوت الجهات ويعبّر عن مشاغلها فعليا، لأنّ الممثلين هنا ناطقون باسم الجهات وليس باسم الشعب كما في البرلمان. فالشراكة في التنمية لا تتحقّق إلاّ عبر الشراكة في السلطة والقرار. وهذا سيكون جوهر الصراع بين القوى القديمة والجديدة، الذي بدت مؤشراته في أفق انتخابات ماي 2018.
فالحكم المحليّ الذي سيدشّن بانتخابات بلدية صارت تغطّي كامل تراب الجمهورية والتي ستفرز 350 مجلسا لسبعة آلاف مستشار بلدي، لن ينهي النظام المركزي وآثاره بمجرّد حصول الانتخابات البلدية أو حتى الجهوية لاحقا، بل ستكون تلك الانتخابات بداية لمشوار جديد لن يكون مفروشا بالورود. فالنظام الإداري المركزي مازال مستحكما في التشريع والممارسة، وهو نظام يعكس مصالح ورؤى للحكم والمجتمع، وستكون له جاذبية محافظة لن يكون من اليسير التغلب عليها، رغم الجاذبية النظرية للحكم المحلي اللامركزي في الدستور الجديد.
محمد القوماني
https://scontent.ftun3-1.fna.fbcdn.net/v/t1.0-9/26229813_1804765762880533_915974261448100946_n.jpg?oh=63c74eca80477e7dabb31090633ad905&oe=5AEC2ED4