الحصاد المدرسي : إرتفاع نسب النجاح وتراجع مستوى التلاميذ

الحصاد المدرسي : إرتفاع نسب النجاح وتراجع مستوى التلاميذ

 

جريدة الموقف (أسبوعية تونسية) العدد 272   بتاريخ 9 جويلية 2004

 

 

 

مع الإعلان عن نتائج دورة المراقبة لإمتحان الباكالوريا يكون الستار قد أسدل على السنة الدراسية( بالتعليم الأساسي والثانوي) 2003/2004.

وفي حين يفرح الأولياء بنجاحات أبنائهم ويباهي المسؤولون بإلإرتفاع المطّرد في نسب النجاح في جميع مستويات التعليم، يبدو المدرسون وحدهم قلقين إلى حد التشاؤم على مستقبل التربية والتعليم ببلادنا و غير مرتاحين تماما للمفارقة المسجلة بين ارتفاع نسب النجاح و تراجع مستوى التلاميذ . و إذا كان تراجع مستوى التكوين ليس المشكلة الوحيدة التي يعاني منها نظامنا التربوي و التعليمي ، فإنها إحدى المشكلات الأساسية التي تحتاج إلى اهتمامنا .

 

ينص الفصل التاسع من القانون التوجيهي للتربية و التعليم المدرسي الجديد المؤرخ في 23 جويلية 2002 على ما يلي :” تعمل المدرسة ، في إطار وظيفتها التعليمية ، على ضمان تعليم جيد للجميع يتيح إكتساب ثقافة عامة و معارف نظرية و عملية ويمكّن من تنمية مواهب المتعلمين و تطوير قدراتهم على التعلم الذاتي و الانخراط في مجتمع المعرفة . و المدرسة مدعوة بالخصوص إلى تمكين المتعلمين من إتقان اللغة العربية ، بصفتها اللغة الوطنية و تمكين المتعلمين من حذق لغتين أجنبيتين على الأقل …” و يضيف الفصل 51 :” تعلم اللغة العربية في كافة المراحل تعلّما يضمن حذقها و إتقانها بما يمكن من التعامل بها و معها بإعتبارها أداة تواصل و تثقيف و من استعمالها ، تحصيلا وإنتاجا في مختلف مجالات المعرفة . و تعلم اللغات الأجنبية منذ المرحلة الأولى للتعليم باعتبارها أدوات تواصل و سبيلا للإطلاع المباشر على إنتاج الفكر العالمي …” وإزاء هذا الهدف غير المختلف عليه ، يقر المدرسون في مختلف مستويات التعليم المدرسي بالتراجع الواضح بل المفزع لمستوى المتعلمين خاصة في امتلاك اللغات بما في ذلك اللغة العربية فضلا عن اللغات الأجنبية ، و في استيعاب العلوم المميزة لكل شعبة من شعب التعليم الثانوي . صحيح أن كل مدرسة أو معهد عموما يضم اليوم نخبة محدودة جدا من التلاميذ الممتازين في مختلف المواد ، لكن أغلب التلاميذ هم في مستوى دون المتوسط بل ضعيف و هزيل . و كم هي نماذج إجابات التلاميذ في الامتحانات و نوادر الفصول من المضحكات المبكيات التي يحتفظ بها المدرسون أو يتداولونها يوميا في مجالسهم، للتدليل على هبوط المستوى التعليمي . ففي ما يتعلق باللغات مثلا لم يعد الأمر متصلا بأخطاء فادحة في الرسم أو التركيب أو التعبير بل صار التلامبذ في مستويات متقدمة من التعليم ـ المرحلة الثانية من التعليم الأساسي  أو التعليم الثانوي ـ  يرصفون حروفا  ـ في اللغة العربية أو غيرها ـ لا تـكوّن كلمة أصلا و لا تعبّر عن أي معنى . أما في الفرنسية أو الأنجليزية أو في المواد المدرّسة بالفرنسية فهم لا يفهمون الأسئلة أصلا و لا يقدرون على قراءتها فضلا على أن يجيبوا عنها . و قد زادت نسب النجاح شبه الآلي في التعليم الإبتدائي و زاد حذف مناظرة ختم التعليم الإبتدائي في تعميق هذه الظاهرة.  ففي كل عام دراسي تصل المدرسة الإعدادية أفواج أكبر من التلاميذ الذين يفتقدون إلى التكوين الأساسي الأدنى مما يسهم في تراجع المستوى العام للأقسام . فالتلميذ الذي يعاني من ضعف أساسي في اللغات أو الرياضيات لا يزيد مع تقدمه في سنوات التعليم إلا مراكمة للضعف و الهزال. مما يجعل عددا كبيرا من تلاميذ القسم غير مؤهلين أصلا لمتابعة البرامج المقررة لذلك المستوى، وهو ما يخلق صعوبات جمة للمدرسين و يدفعهم إلى التوجه إلى بعض التلاميذ فقط و يدفع أغلبية التلاميذ الآخرين إلى اللاّمبالاة و اليأس و العبث أثناء الحصة . و ربما تكون المعاهد النموذجية أيضا قد عمقت السياسة الإنتقائية في التعليم و نالت من ديمقراطيته و زادت في تردي المستوى بالمعاهد العادية .

وفي مقابل تراجع المستوى ، نلاحظ في كل سنة دراسية ارتفاع نسب النجاح التي صارت محكومة على ما يبدو بقرارات سياسية وأغراض دعائية و استجابة لتعليمات مؤسسات دولية مالية في مقدمتها البنك العالمي  وصندوق النقد الدولي . و ليست القرارات المتخذة في طرق وضع الإمتحانات و مقاييس الإصلاح  و توجيهات المتفقدين  الاّ آليّات لتكريس هذا التوجه. و يكفي تشكيكا في علاقة  نسب النجاح بالمستوى التعليمي الرجوع إلى نتائج تلاميذ السنة التاسعة من التعليم الأساسي الذين يجتازون الإمتحان الإختياري و مقارنة نتائجهم أثناء السنة الدراسية بنتائجهم في المناظرة . فأعداد كبيرة من الذين يكونون قد سجّل مجلس الأقسام نجاحهم بناء على معدلهم السنوي بالإستحقاق أو بالإسعاف  يحصلون في المناظرة على معدّلات ضعيفة و هزيلة ( بين 5 و 8 من 20).

وبصرف النظر عن الأمثلة الدقيقة و التفاصيل و الإحصائيات التي لا يتسع لها هذا المجال نعتقد جازمين أن الإجماع حاصل بين المدرسين على الإقرار بتراجع مستوى التكوين سواء بالنسبة للمنقطعين عن التعليم أو الذين مازالوا يواصلون مشوارهم الدراسي . و ربما يكون الأمر أكثر خطورة حين يمتد التقويم إلى تراجع مستوى الخرّيجين الجدد من أجيال المدرسين  والتشكيك في مستوى أدائهم في ظل المتغيرات التي عرفها مجتمعنا و خاصة الوسط المدرسي . و لا شك أن لهذا التراجع في مستوى التكوين و التحصيل أسباب عديدة و معقدة تعود إلى الاختيارات السياسية و التربوية و إلى التحولات الاجتماعية و إلى وظيفة المدرسة في الواقع الجديد و إلى الأوضاع المادية لمؤسسات التعليم و للمدرسين و أسباب أخرى . لكن يبقى السؤال المحيّر حقّا هو ما جدوى الإصلاحات المتكررة التي عرفتها المؤسسة التربوية في العقود الأخيرة و ما جدوى تغيير الطرق البيداغوجية و هذه الأموال الطائلة التي تصرف كل عام للتكوين و الرسكلة و هذه اللخبطة التي بات يشكو منها المدرسون لكثرة التعديلات المتلاحقة، إذا كانت النتيجة هي تراجع مستوى التكوين والتعليم لدى الناشئة و عدم رضا القائمين على تكوين تلك الناشئة في المقام الأول و أعني بهم المدرسين ؟ و متى سيكون مستقبل التربية والتعليم في بلادنا محل إستشارة  وطنية جادة تشرف عليها هيئة وطنية ممثلة تحظى بالمصداقية و تضمن إشراك مختلف الأطراف المعنية و تضع تقريرا يتسم بالشفافية و يعكس الإجماع الوطني في رسم سياسات مدرسة الغد ! ؟

 

محمد القوماني

      

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* جريدة الموقف (أسبوعية تونسية) العدد 272   بتاريخ 9 جويلية 2004

 

 

 

 

 

 

مشاركة
    0 Comments

    No Comment.

    %d مدونون معجبون بهذه: