“الحرقة” الحارقة.. حرق الأكباد والمراكب واحتراق النمط

 

 

جريدة الرأي العام، العدد 27، تونس في   19 أكتوبر 2017

لا تزال كارثة اصطدام قارب لمهاجرين سريين تونسيين  ببارجة عسكرية قبالة سواحل جزيرة قرقنة يوم الأحد 8 أكتوبر 2017، والتي وصفها رئيس الحكومة يوسف الشاهد بالكارثة الوطنية، لا تزال تثير جدالا وتسيل حبرا  وتؤجّج مشاعر الأهالي مع انتشال جثث جديدة لعشرات الضحايا رحمهم الله تعالى  ورزق أهلهم جميل الصبر. وقد أعادت هذه الحادثة الأليمة غير المسبوقة، الحوار حول ظاهرة الهجرة السرية المعروفة ب”الحرقة” التي تعود إلى ما قبل الثورة، والسجال حول الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية السيئة التي تُفسر بها في الغالب الأسباب الرئيسية للظاهرة. ونروم في هذا المقال غير المختصّ في الموضوع سالف الذكر، الحفر بعيدا في الدلالات السياسية للهجرة المتعاظمة بين التونسيين في المرحلة الأخيرة.

حرق الأكباد والآمال.

لا خلاف على أنّ أكباد أمّهات الضحايا وآبائهم وهي تفقد فلذاتها تحترق حقيقة لا مجازا، كما تشي بذلك مشاهد استقبال الجثث أو تشييع الجنازات أو البحث عن المفقودين أو شهادات بعضهم لوسائل الإعلام المختلفة. فهم أوّل المُكتوين بنار الكارثة ولا أحد في الحقيقة يشاركهم آلامهم مهما كانت درجة التضامن معهم. وما تؤكّده بعض المعلومات من إسهام الأهالي في توفير المبالغ المالية الهامة المطلوبة من شبكات التسفير لتأمين هجرة أبنائهم، تضاعف من حرقة هؤلاء. فبوفاة الغالين عليهم ممّن ضحّوا من أجلهم محبّة فيهم وحرصا على حياة أفضل لهم ولعائلاتهم من ورائهم، تكون الخسارة مضاعفة وتحترق الأكباد والآمال أيضا.

حرق المراكب والأوراق.

إنّ مقاطع الفيديو المنشورة على شبكات التواصل الاجتماعي لبعض المهاجرين السريين وتصريحات آخرين منهم لوسائل الإعلام المختلفة، سواء ممّن نجحوا في اجتياز الحدود نحو الشواطئ الأخرى أو ممّن نجوا من كارثة أو تم صدّهم، تعكس دون عناء بحث، درجة الاحتقان لدى هؤلاء ونسبة الإحباط العالية التي استبدّت بهم وما باتوا يشعرون به من حرمان اجتماعي وكبت جنسي وانسداد الأفق  واستبطان للتهميش ويأس من المستقبل وكره للمشهد العام بالبلاد. وفي تدوينة لافتة كتب الباحث المهدي مبروك ” أتذكر تماما أنّ الشبان الذين “حرقوا” في الأسابيع الأولى للثورة كانوا يردّدون في قواربهم عرض البحر النشيد الوطني التونسي فضلا على بعض الشعارات المرفوعة أثناء أحداث الثورة. والآن يرفع هؤلاء الشباب شعارات معادية للنخب الحاكمة والطبقة السياسية وحتى البلاد برمتها. تحوّلات خطيرة لن تقف عند هذا الحد، وربي يستر بلادنا”. فبعد ارتفاع نسبة التشاؤم بين الشباب إلى أرقام مفزعة كما تفيد استطلاعات الرأي، نتفهّم جيّدا عزم الشباب على المخاطرة بحياتهم بعد سبع سنوات من الثورة والتطلعات العالية  والوعود غير المتحقّقة، ليحرقوا جميع أوراقهم ببلدهم  وليحرقوا مراكبهم به على طريقة طارق بن زياد، وليركبوا البحر من أجل واقع أفضل. فإمّا هجرة وحياة كريمة وإمّا موت ونهاية درامية. ومن فشل مرّة لا يتردّد في التكرار.

احتراق النمط وانسداد الأفق

ليست الهجرة السرية بين التونسيين وليدة مرحلة ما بعد الثورة، وهي أيضا ليست خاصة بهم. فقد تدفّق على أوروبا عشرات آلاف المهاجرين السريين عبر البحر منذ ثمانينات القرن الماضي. كما غدر المتوسط بعشرات آلاف الضحايا من الأفارقة والعرب خاصة خلال نفس الفترة وقضى بعضهم في عمليات مشبوهة لم تكشف حقائقها بعد. وليست عمليات هجرة السوريين أو تهجيرهم ومآسي بعضهم في المتوسط عنا ببعيدة. إذ تتعدّد الأسباب وتختلف والمكروه واحد. لكن حين نستحضر في الحالة التونسية أنّه مع ارتفاع عدد المقبلين على الهجرة السرية في الفترة الأخيرة وتنوّع شرائحهم وانضمام نساء وعائلات أحيانا إلى هذه الظاهرة،  وتزامنها أيضا مع ارتفاع لافت لعدد المشاركين في الهجرة المنظمة، من جامعيين وأطباء وطلبة علم من النخبة خاصة، وحرص العائلات وتضحياتها من اجل تدريس أبنائها بالخارج، وآلاف مطالب الإقامة، والهرولة إلى المشاركة في البعثات والتعاون الفني والعمل بالخارج، حتى ذُكر مؤخرا أنّ قطر طلبت انتداب ستّة قضاة تونسيين فتقدّم المئات بملفاتهم، حين نستحضر هذه المعطيات وغيرها، نكتشف أنّ دوافع الهجرة ليست اجتماعية فقط، وأنّ انسداد الأفق السياسي وضبابيّة المستقبل وغياب المشروع الوطني المحفّز عوامل لا تقل أهمية في تفسير ظاهرة الهجرة المنظّمة أو غير المنظّمة. فنحن إزاء نمط اجتماعي بأكمله يحترق، وصار طاردا للتونسيين بعد أن كان جاذبا لهم  في مراحل سابقة، وربما بالغ البعض في تمجيده ولم يتفطنوا بعدُ لعيوبه وقصوره واحتراقه أصلا في أذهان الشباب الصاعد خاصة.

لولا فسحة الأمل..

ينقطع  نحو مئة ألف تلميذ عن الدراسة كل عام، فينقطع أغلبهم عن الدولة تماما، حتى صار بعض الباحثين يتحدّثون عن مليون تونسي خارج دولاب الدولة بالكامل. وهذا مؤشر بالغ الخطورة بالنسبة لبلد صغير. وتزداد مصاعب الحياة على عموم الناس مع تراجع المقدرة الشرائية رغم الزيادات المتتالية في الأجور، بسبب الارتفاع المشطّ للأسعار وضعف رقابة الدولة وانزلاق الدينار واستفحال الأزمة الاقتصادية والاجتماعية، التي لم تتبلور بعد حلول مقنعة لها ولم توضع برامج عملية للخروج منها. وفي ظلّ هذه الأوضاع يستمرّ التجاذب السياسي وتتقدّم المصالح الشخصية على المصلحة العامة ويتمّ تبخيس الأحزاب والسياسيين ويستثمر البعض للأسف في خطاب الفشل والتشاؤم والتأييس. وبالتوازي مع الوضع الداخلي الصعب، يستمرّ  خارجيا التآمر الإقليمي على ثورات الربيع العربي التي فتحت آفاق ما بعد الاستبداد وتعلّقت بها آمال عريضة، وسط سلبية أو تواطئ أطراف دولية طالما ردّدت الحاجة إلى دعم الديمقراطية وتشجيع الاستثمار والتنمية ببلدان الجنوب حماية لبلدان الشمال من مخاطر الهجرة غير الشرعية. لذلك نخلص إلى أنّ الأزمة سياسية في الجوهر وفي البداية والمآل. والأرجح أن تستخلص مختلف الأطراف الدرس وتعي مسؤوليتها وتتضافر جهودها للمعالجة السريعة للأسباب المعقّدة. إذ يوشك المركب لا قدّر الله أن يغرق بالجميع.

محمد القوماني

L’image contient peut-être : 1 personne

مشاركة
    0 Comments

    No Comment.

    %d مدونون معجبون بهذه: