التولي يوم الزحف: من هم القائلون به حاضرا وفي التاريخ السياسي الحديث؟
إن استدعاء مصطلحات من قبيل “التولي يوم الزحف” أو “التساقط على طريق الدعوة” ومحاولة اعتمادها كإطار تفسيري للواقع والمستجدات السياسية، لا يحتاج لقدرات تحليلية خارقة أو لثبات بطولي على المبادئ والقيم.
لا علاقة للأمر بكل ذلك.
إنما هو مجرّد اجترار دوري لقوالب تفسيرية جاهزة، تتصف بها كل الأيديولوجيات المغلقة بدون استثناء.
انها مقولات لا تستمدّ شرعيّتها إلا من كثرة تكرارها وكثرة القائلين بها. ولن تجد لها في أغلب الأحيان أصلا في كتاب الوحي ولا في كتاب العقل.
ومن يردد تلك المقولات صنفان:
1-ضحايا التلقين الأيديولوجي: من الذين تقولبت أفهامهم واجهزتهم المعرفية بقوالب الأيديولوجيا المغلقة، ولم يعد لهم قدرة على قراءة الواقع من خارج تلك الصناديق. وأولئك معظمهم من العوام.
2-حراس معبد المصالح: لقد تحول إيمان العوام بتلك المقولات بالنسبة لبعض النخب الإسلامية، إلى مصدر رئيسي للمصالح المادية والوجاهة الاعتبارية، فمنهم؛
أ- من يحرس شركاته، قنواته أو جمعياته،
ب- ومنهم من يحرس راتبه الشهري من إحدى تلك المؤسسات،
ج- ومنهم من يحرس عدد اللايكات والمتابعين على صفحاته في السوشيال ميديا.
وهذا الصنف الثاني (حراس معبد المصالح) هو الأكثر حرصا على إعدام أي حسّ نقدي ومحاصرة كل محاولات التقييم والمراجعة داخل تياره السياسي. بل إنهم يستميتون في تكميم كل صوت يتوجه لعقول الناس. لأن ذلك يعني بكل بساطة، بداية النهاية لمصالحهم أو بداية إنهيار معبدهم.
وأدواتهم الرئيسية في ذلك:
“لغة الشعراء المنتفخة، وخطاب التعبئة النفسية والتجييش العاطفي لأنصار طائفتهم الأيديولوجية.”
إنها تلك الفئة التي سماها الإمام البنا (رحمه الله) بالنفعيين، واعتبرها أخطر على الدعوة الإسلامية من المترددين وحتى من المتحاملين.
وهي نفس الفئة التي خونت أردوغان والخط الإصلاحي في تركيا حين انشقاقه عن حزب الفضيلة، فوصفته بعميل الصهيونية والأمريكان والبريطانيين. ومن ثمة انبرت تتمسح على أعتابه بعد نجاحه. بل وتجتهد في إقناع العوام بأن مشروعهم ومشروعه واحد، رغم أنه لم يفلح إلا بعد أن خلع قميصهم والكفر بجل ما يمكن اعتباره من الأفكار المؤسسة ل” الإسلام السياسي”.
وهم نفسهم من كانوا يحرضون عوام الإسلاميين على البروفيسور أحمد داوود أوغلو -منذ أيام- خلال الانتخابات التركية الأخيرة. رغم أنه قدم للأمة الإسلامية ما لم يقدمه غيره في مستويات عديدة (الفكر الحضاري، الفلسفة السياسية، الجيوبوليتيك …). وبالرغم أن أغلب المتابعين الجادين للمشهد التركي، قد أقروا بالرجاحة التكتيكية لموقفه وأنه كان “ضربة معلم”.
وهم أنفسهم من قال في الشيخ محفوظ النحناح (رحمه الله) ما لم يقله مالك في الخمرة، فتنصلوا منه ومن حركته حينما انتصر للدولة وللوطن على حساب الفوضوية الراديكالية. وستجدهم بعد ذلك يتحسرون على كل نفس محافظ يظهر في التوجهات الثقافية أو التعليمية للجمهورية الجزائرية. متجاهلين أنها ثمار ما خوّنوا من قرارات استراتيجية.
وهم أنفسهم في تونس، من يحاولون -هذه الأيام- حشر الأستاذ محمد القوماني في صندوق “التولي يوم الزحف”، رغم أنه الى حد الآن لم يقل في حركة النهضة ما يسيء. ورغم ما يحسب له من فضل في ادارة الأزمة في أقسى أيامها. ورغم أن مواقفه الشخصية -كانت ولازالت إلى حد الساعة- على درجة لابأس بها من الانسجام والاتزان والعقلانية.
إنهم أولئك الذين يجترون مقولات أنتجها فتحي يكن، قبل ما يقارب ال 40 سنة في كتاب “المتساقطون على طريق الدعوة” ، ثم كان هو أول ضحاياها. ولم يكن هذا الأخير لينجح في التأصيل لمقولته المتهافتة تلك، لولا إسقاطه لآيات الكفّار على المؤمنين. وتلك المصيبة الكبرى للتيار الإسلامي ما بعد سيد قطب وتأسيسه لنظرية “المجتمع الجاهلي”.
ولذلك فإن كل من يقول ب “التولي يوم الزحف” يتبنى ضمنيا ما هو أخطر؛
فعن أي زحف تتحدثون؟ هل تواجهون قريشا في بدر أم الروم في غزوة تبوك؟ أم أنكم في خلاف سياسي مع اخوانكم في الدين وفي الوطن؟
إن مقولة “التولي يوم الزحف” لا يكون لها من معنى في عصرنا الحديث، إلا في علاقة بمن يخون بلاده ويفشي أسرار دولته. أو في من يتقاعس عن حماية أراضي الوطن والذود عن كيان الدولة في مواجهة عدو خارجي داهم.
وأما الخلافات السياسية بين أبناء الوطن الواحد، مهما بلغت حدتها أو مساحات التناقض فيها؛ فيجب أن تخرج أولا من منطق العداء نحو منطق التنافس، ويجب أن تبقى محلية ثانيا، فلا يتدخل فيها أي طرف خارجي.
أيمن عبيد
بتاريخ، 10 جوان 2023.
*منشور بصفحة الكاتب على الفايس بوك بنفس التاريخ
مقالات ذات صلة
مراجعات تونسية في السياسة والديمقراطية
2023-06-25