التهديدات الإرهابية والمعالجات القاصرة
التهديدات الإرهابية والمعالجات القاصرة*
جريدة “الخبير” في 30 ماي 2013
حين تفشل التربية الدينية في كبح النوازع الحيوانية في الإنسان، ويحصل العكس، فيصبح الفكر الدينــي منبعا للعنف والتحريـــــض على القتل وسفك دمـــاء الأبريــــاء من المخالفيــــن، ويجد فريق من «المتدينين» أنفسهم في مواجهة الدولة وأجهزتها «الطاغوتية»، وحين يرتدّ الفكر الإسلامي إلى دوائر التكفير والاحتراب الطائفي بعد كل جهود المصلحين في القرون الأخيرة، وحين تفشل سياسات التحديث ونشر الفكر المستنير في محاصرة التشدّد والتعصّب، ويتحصّن «الحداثيّون» بقوّة الدّولة وأجهزتها ولا يرون غير منع الآخر من التعبير والتنظّم والوجود، وسيلة لحسم المعركة ضدّه، حين يحصل كل ذلك، أو حتى بعضه، لا نشعر بالارتياح، فضلا عن التفاؤل، بعد الثورة المجيدة التي ظننا أنها حرّرت الجميع وأدخلتنا مرحلة جديدة نؤسس فيها للتعايش السلمي والتنافس الديمقراطي، وتكون فيها المصلحة الوطنية الجامعة ديدننا في وطن حرّ ومجتمع عادل. وهذا ما يجعلنا مُجدّدا نخوض في مقتضيات مواجهة مخاطر إرهابية متعاظمة، نخشى أن تكون معالجــــة أسبابها قاصـرة، وذلك على خلفية الأحداث الأخيرة الحاصلــــة بجبل الشعانبــــي بالقصريـــن، إثر تفجّر مجموعة من الألغام وإصابة عدد من عناصر الجيش والأمن الوطنيين، الذين كانوا يلاحقون مجموعة إرهابية متحصّنة بالفــرار، ووسط مخاوف من وجود معسكرات أخرى للإرهابيين، أو حتى إمكانيــــة وصولهــــم إلى العاصمة على حدّ تعبير رئيس الحكومة. فالأحداث الأخيرة وسياقاتها، مشكلة معقّدة، وهي أكبر من أن تحلّ بمعرفة هوية المجموعة المسلحة أو ادّعاء القضاء عليها أو التسرّع في إدانة هذا الطرف أو ذاك وحمل عبئها عليه.
ومع الإقرار بغياب المعلومات الصحيحة والدقيقة لفهم ما يجري، نحسب أن ما يتسرب منها، على شحّته، وما يسجل من تفاعلات، وما يتوفّر من معطيات سابقة حول المشهد العام ببلادنا، عناصر كفيلة بإتاحة الاستخلاصات والملاحظات والتساؤلات التالية:
1 – إنّ حمل السلاح خارج إطار القانون واستعمال العنف، بهدف إحداث تغيير في المجتمع أو تحقيق أهداف سياسية في بلادنا، أسلوب مرفوض مطلقا وممارسة مُدانة من الناحية المبدئية. ولعل النتائج المدمّرة على مختلف المستويات لمثل هذه الخيارات في بلدان أخرى، عززت ميل عموم التونسيين إلى نبذ مثل هذه الأساليب، فجاءت مُجمل ردود الأفعال الشعبية ومواقف الأحزاب والجمعيات، مستنكرة ومُحذّرة من مغبّة السير في هذا الطريــــق وأبدت حرصا واضحا على حرمة دماء التونسيين وتجنيب مجتمعنا مخاطر هذا الانزلاق. فلم يجد المسلحون تعاطفا يُذكر في أوساط الرأي العام، وحتى من يُفترض فيهم تقاسم الموقف معهم، روّجوا لتأويلات مختلفة للأحداث، وحمّلوا ما يجري لجهات غير التي وجه لها الأمن والرأي العام الاتهام. وهذه النتيجة المبدئية في إدانة الإرهاب ونبذه، مكسب يُثمّن عاليا ويحتاج من مختلف القوى الفاعلة وفي مقدمتها القوى الماسكة بدواليب الدولة، تسجيله وتنزيله المكانة التي يستحق والبناء عليه في رصد التداعيات المستقبلية والمعالجات المطلوبة.
2 – إنّ حجم كميّة الأسلحة غير القانونية المنتشرة ببلادنــــــا، والتي أشّرت عنها عمليات اكتشاف بعض المخابئ وما تم حجزه كما ونوعا، وما حصل من اشتباكات بين مسلّحين وعناصر من الجيش والأمن، سقط فيها شهداء وجرحى، وعملية اغتيال الشهيد شكري بلعيد، وما يحصل بجبل الشعانبي ومناطق أخرى من بلادنا منذ مدّة، مؤشرات بالغة الخطورة، تستدعي إرادة سياسية وحزما ووضوحا في خيار مواجهة الإرهاب والعنف السياسي بأنواعه.
وإن كنا لا نختلف فـــــي الإقـــــرار بأن العنف والإرهــــاب اليوم من الظواهر العالمية التي تتغذى من مناخ دولي وظروف إقليمية إضافة إلى العوامل المحلية، فإننا نشدّد على أن مراجعات كبرى صارت متأكدة، وأن السلطة مدعوة إلى الانتباه إلى ناقوس الأحداث الأخيرة وإلى سائر المؤشرات التي ألمحنا إلى بعضها، كما هي مدعوّة إلى الاستماع إلـــــى الأصــــوات العديــــدة التــــي طالمـــا حذّرت من عواقب التساهل مع حالات المجاهرة بالتنطُع أوالمروق عن القانون أو انتحال صفة الدولة في ردع «المنحرفين»، وإلى المنسوب المرتفع للتشدّد الديني والاحتقان الأيديولوجــــي والسياســـي والاجتماعــي، وإلى حالات التهديد بالقتل المُعلن والمخفيّ. وإن معالجات ناجعة للتحديات وتحصينا حقيقيا للمجتمع ضد العنف والإرهاب مهما كانت دوافعه وأيّا كان الداعون إليه، تحتاج إلى إشراك حقيقي للقوى الحية وفي مقدمتها الأحزاب والجمعيات وفتح حوار وطني حول مختلف القضايا والتحديات، بعيدا عن الاستمرار في أخطاء الماضي ونهج الانفراد بالرأي والقرار والانتقائية السياسية في معاملة الخارجيـــن عن القانون.
3 – لئن كانت المعالجة الأمنية في موضوع الإرهاب من جنس الموضوع، وهي مطلوبة بلا شكّ، فإنّ المخاوف تتّجه إلى احتمالات النتائج العكسية للأهداف المُعلنة. فمن جهة تبدو الصرامة واليقظة مطلوبتين في هذه الحالة، لكن الخشية تظل قائمة في الأوساط الحقوقية والسياسية خاصة، من التذرّع بالظروف الأمنية لتغيير الأولويّات بما يعطّل مسار الانتقال الديمقراطي، أو يُضعف إطلاق الحريات بتشديد القبضة على المجتمع وتكثيف المضايقات على الأشخاص والأنشطة الجماعية، لا سيما السياسية والثقافية، وتبرير الانغلاق في الحياة العامة. ولعلّ بعض التصريحات لمسؤولين في الدولة أو الدعوة إلى التفعيل الآلي لقانون الإرهاب سيئ الصيت، من قبل إعلاميين أو سياسيين أو نوّاب مؤشرات على تلك المخاوف. وقد اكتوى التونسيون من قبل بمثل هذا السيناريو في عهد المخلوع، الذي انتكس بمسار التغيير المُعلن بعد انقلاب 7 نوفمبر 1987، واستأصل التعدّدية بتعلّة استئصال الإرهاب، وروّج لذلك في الداخل والخارج، ووجد مع الأسف آذانا صاغية وأطرافا داعمة. وقد حاول ذلك مجدّدا في مواجهة مطلب الإصلاح السياسي المتأكد، مستفيدا من المناخ الدولي وقانون مكافحة الإرهاب بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 بالولايات المتّحدة الأمريكيّة.
ومن جهة ثانية دلّت تجارب بلادنا وبلدان عديدة على أن مخالفة القانون أو انتهاك حقوق الإنسان بالإساءة للمورطين في العنف والإرهـــاب والمعتقلين المشتبـــه بهم، وانتهـــاك حرمتهم الجسديـــة أو المعنويـــة، أو تسليط عقوبـــات جماعية على عائلاتهم أو جهاتهـــم أو سدّ أبواب الحوار في وجوههم، أو توسيع دائــــرة المطلوبيـــن على خلفية مواجهتهم، وعدم إرفاق المعالجة الأمنية بمعالجات فكرية واجتماعية وسياسية لاحتواء مثل هذه النزعات وإعادة إدماج من اخطأ الطريق منهم، مثل هذه السياسيات تأكد فشلها فـــي استئصال العنف، بل ربما ساهمت في تغذيته.
4 ـ تحتــــاج المجابهــــة الناجعــــة للإرهاب في أي مجتمــــع، إلى وحــــدة وطنية وجهود متضامنـــة، حتى لا يجد الإرهاب سندا له فــــي النسيج الاجتماعـــــي فيكون خطره أكبــــر، وحتى لا يتسلّل بين الخلافـــات السياسيـــة أو المناكفـــات مهما كانت، فيجــــد الحمايـــة أو التشجيــع من هذا الطــــرف أو ذاك، أو يتمّ استخدامــــه في الأجندات المشبوهة لأطراف فـــــي الداخــل أو في الخــــارج. لذلك نشدّد على أهمية الحـــــوار الوطنـــي والتسوية التاريخية لمعارك الماضي وبناء الثقة بين الفرقــــاء والتوحّد على برنامــــج وطني أدنى، يؤمّن الحيــــاة الكريمــــة والتعايش السلمي والتنافس الديمقراطي، ونعتبر ذلك من شروط خوض معركة فاصلة وناجحة ضدّ الإرهاب.
كما ننبّه إلى أن الحق والمصلحة في أن لا نخلط المسائل ولا نقوّي جبهة الإرهاب بتوسيع المعركة وإدخال من هم غير مشمولين بـــه، في دائرة الاستعداء والاستهداف بالمواجهة الأمنية خاصة. فمشكلتنا في تونس في هذه المرحلة تكاد تنحصر مع التشدّد الدينــي العنيف، الذي يعتمد التكفير ويستخدم السلاح ووسائل العنف لمحاولة فرض أفكاره على الناس ويستهدف الدولة وأجهزتها الأمنيـــــة خاصـــة، كما يستهدف الحريات الفردية والعامة. ومن مصلحة تونس أن نحدّد هذا التشدّد الديني التكفيري العنيف ونحصره في الفئة التي تدخل فيه فعلا، لا أن نوسّعه تحت عنوان «السلفيّة»، فنجعل منه تيارا عريضا من الصعب مواجهته. ففي التيار السلفي الفكري توجد مجموعات كثيرة مسالمة، تنبذ العنف. لأن السلفية كما نفهمها، هي منهج لا تاريخيّ ونزعة محافظة في التفكير في الدين والمجتمع والقضايا المطروحة، وهي تضم تيارا عريضا في المجتمع التونسي وفي المجتمع العربي بصفة عامة. لذلك نخطئ عندما نجمع كل هذا التيار في عنوان سياسي أو تنظيمي واحد، والحال أنهم ليسوا كذلك. كما أن «السلفيّة» صارت من العناوين المُضلّلة في هذه المرحلة، ومن اللافتات التي تتخفّى وراءها جهات متباينة الأهداف.
5 – تشيـــر مصادر الأمنييــــن والمحاميــــن والحقوقييـــــــــن إلى أنّ من شملتهم الاعتقالات خلال السنوات القليلة السابقة للثورة، وتمت إحالتهم على القضاء بتهم تتّصل بقانون «مكافحة الإرهاب وغسيل الأمــــوال»، وكذلك المُطاردين مؤخــــرا بجبل الشعانبي وأماكن أخــــرى، والمستهدفين من شبكات التعبئة إلى «الجهاد» بسوريا، والمنتسبين للتيار الديني المتشدّد عموما، هم في الغالـــب من الشباب أساسا، ممن تتراوح أعمارهم بين العشرين والثلاثين. وهذا المعطى العمري يجعلنا أمام أسئلة مُحيّرة تخصّ هذه الشريحة من التونسيين. أسئلة تتصل بمحاولة تفسير أعمق للظاهرة بعيــدا عن التحليلات السطحية الممجوجة والخطابات السياسية والإعلامية المتداولة.
فهل يبدو طبيعيا أن تأخذ شريحة واسعة من الشباب التونسي في هذه المرحلة اتجاها محافظا لم نعرف له سابقة ببلادنا؟ ولماذا يتعاظم في بلادنا عدد الشباب ذوي النزعات السلفية الجهادية؟ وكيف نقيّم نتائج إصلاح التعليم والمنظومة التربوية والأسرية والإعلامية والثقافية والسياسية التي أطلقت في بداية التسعينات تحت شعار «استئصال التطرف» ونشر العقلانية والتسامح والاعتدال والتفتح على الحضارات الإنسانية؟ أليس هذا الشباب حصاد تلك الحقبة من الإصلاحات؟ وما هو المطلوب للتدارك؟
لماذا لم تدفع حكومة ما بعد الثورة، باتجاه إعداد بحوث معمّقة ولم تطلب من أهل الاختصاص البحث في مثل هذا الموضوع وإصدار تقارير شفافة وتقديم إحصائيات ذات مصداقية، عن عدد هؤلاء الشباب ومصادر تكوينهم؟ وعن الدوافع العميقة لإقبالهم على هذا المنحى في التديّن؟ ولماذا لا يستفيد الباحثون والإعلاميون من مكسب حق النفاذ إلى المعلومة في إماطة اللثام عن مناطق بدت غامضة في العهد البائد؟ وهل تتوفر بلادنا في هذه المرحلة على «قامات» أو شخصيات فكرية مؤثرة أو شيوخ دين أو أئمة مساجد أو مُربّين يتمتعون بالمصداقية والإشعاع والقدرة على الإقناع، بما يؤهلهم للتأثير في مثل هؤلاء الشباب ونقد ما يتلقونه عبر الفضائيات ووسائل الإعلام الحديثة المختلفة وإحداث التوازن ؟ وما العمل لسدّ الفراغ؟ أين فضاءات الحوار الحرّ والمتعدّد لمقارعة الأفكار المختلفة بقوة الحجة وليس بحجة القوة، والتصدي لما يبدو لنا غريبا عن بيئتنا أو خطرا على أجيالنا أو تطّرفا في ديننا أو استغلالا في غير محله لحماس شبابنا؟ وهل تضمن مساجدنا مثل هذا الحوار؟ وأيّة سياسة وطنية لإدارة الشأن المسجدي؟
وإذا كان المتّهمون في قضايا العنف من رُوّاد المساجد ومن ذوي النزعات الإسلامية المتشدّدة، أليس من المشروع أن نتساءل عن دور المساجد وعن الخطاب المروّج بها، في تغذية هذه الاتجاهات؟، وأيّ مسؤولية لوزارة الشؤون الدينية المُحدثة في بداية التسعينات، والتي تمّ الاحتفاظ بها بعد الثورة، ولسائر الهياكل الأخرى المختصة في بلادنا، في تأسيس خطاب ديني متميّز ومقنع في مواجهة خطاب التكفير والعنف؟ وإذا كان ذلك من مشاغلها، فما هي خططها وخطواتها في هذا الاتجاه؟ وما هي جهود وزارة الثقافة على سبيل المثال على هذا الصعيد؟ أفليس من شروط السياسة الثقافية الناجحة ومن واجبات الوزارة أن تستجيب في برامجها لتطلعات الشرائح المجتمعية المختلفة وتلبي احتياجاتهم، بما في ذلك الشريحة الهامة من رواد المساجد وذوي الاهتمامات الدينية ؟
6 ـ إذا كان الحديث عن الخطاب الديني قد فرضه السياق في هذا الموضوع فإن أسئلة ذات صلة تمتد إلى سياقات أخرى ومستويات مختلفة متداخلة في الموضوع. من ذلك التساؤل عن دلالة غلبة المستوى الثقافي المحدود والجهل بالفكر الآخر والنزعة الراديكالية في الخطاب، على جمهور الجماعات المتشددة؟ وما هي أسباب ارتفاع نسبة عزوف الشباب عن المشاركة في الانتخابات والانخراط في جمعيات المجتمع المدني والأحزاب السياسية وخوض تجربة العمل العام السلمي من أجل الديمقراطية والتنمية وحقوق الإنسان؟ والإقبال في المقابل على الانخراط في الجماعات «الدينية» والجمعيات «الشرعية» والانجذاب للجهاد المسلّح؟ ولماذا يُقبل الشباب بالآلاف عل خُطب الدعاة في ساحات الملاعب، ويعزّ حضورهم بالعشرات في اجتماعات السياسيين وندوات المثقفين في القاعات المغلقة؟ وبماذا نفسّر العدد الكبير من التونسيين المشاركين في «الجماعات الجهادية» في مناطق مختلفة من العالم، قبل الثورة وبعدها، وتعدّد حالات اتهام تونسيين بالخارج بالضلوع في قضايا إرهابية؟ هل تبدو ظاهرة الشباب «المتشدّد دينيّا» معزولة عن ظاهرة «شباب الحرقة» ممّن يركبون قوارب الموت للهجرة السريّة إلى الخارج أو ممّن ضعفت فيهم بواعث الدراسة ومواصلة المشوار التعليمي وممن استسلموا للاّمبالاة والمخدرات واستهوتهم مسالك الانحراف والجريمة؟ وتبقى الأسئلة الأكثر إحراجا تتصل بقنوات تأطير الشباب في جماعات مسلحة، ومصادر التمويل والدعم اللوجستي لهم، ومدى نضجهم، لرسم أهداف سياسية والعمل على تحقيقها بالقوة المسلحة؟ هذه الأسئلة وغيرها، نعدّ طرحها والإجابة الضافية عنها، من أهم المداخل لفهم ما يجري بجبل الشعانبي مؤخرا، وما يعتمل في مجتمعنا وما كشف عنه الحراك بعد الثورة من خلافات حول سؤال الإسلام وتعدّد أفهامه وصيغ تنزيله في حياتنا المعاصرة.
7 ـ تؤكد الأحداث الأخيرة في علاقة بالجماعات الموصوفة بالسلفية، سواء على خلفية الأعمال الإرهابية أو الخيام الدعوية أو الخطابات المسجدية أو على خلفية السجالات الإعلامية والسياسية بعد الثورة في أحداث عديدة سابقة، تؤكد قناعتنا بأنّ الحوار حول سؤال الإسلام والحداثة في مجتمعنا والتوفّق في أجوبة صائبة عنه، لا يقلّ أهمية وأثرا ايجابيا عن التوفّق في أجوبة مناسبة عن الأسئلة الاقتصادية والاجتماعية. وأن ما يٌروّج أحيانا، في غير سياقه، من أن مشكلة عموم التونسيين هي «الخبز» والمعيشة المادية فقط، ولا شأن لهم بما يُثار في بعض الأوساط من مواضيع ثقافية وفكرية، إنما هو خطاب مضلّل ولم يساعد على فهم حقيقة ما يعتمل في مجتمعنا.
ولعلّ مخاطر العنف السياسي، اللفظي والمادي، على خلفية التجاذبات بين جهات متقابلة وآراء متشدّدة في هذا الموضوع، والتي نسمعها يوميا عبر وسائط الإعلام المختلفة، لا تقل إزعاجا عن تلك المواجهات المسلّحة التي نرقبها في الجبال، إن لم تكن أحد عناصر تغذيتها وتجدّدها. وليس على ما يبدو من أفق إلاّ المواجهة والحسم الميداني، بين خطاب الدعوة إلى تطبق «الشريعة» وتكفير من لا يحكمون بما أنزل الله تعالى، الذي تعتمده القاعدة الواسعة لتيار «الأسلمة»، وبين خطاب «المدنية» واستبعاد الإسلام من الحياة العامة للأفراد وللمجتمع، واتهام كل مقاربة لا تقوم على الفصل الكامل بين الدين بالسياسة، الذي تعتمده الأغلبية في تيار «العلمنة». وإذا لم يتحرّك عقلاء قبل فوات الأوان، وترتفع أصوات غير موتورة حول الإسلام والحداثة، لتبسط رؤى مغايرة خارج ثنائية «الأسلمة» و«العلمنة» والصراع المحموم على هذا الصعيد، فإن القادم على ما يبدو أخطر. وعندئذ سنتبيّن أن الثورة التي حصلت وهلّلنا لها جميعا، لن تكون طريقنا للحرية والكرامة وبناء غد أفضل، بل ستكون قادحا لتفجير المكبوت العدواني وتهديدا لقواعد التعايش السلمي بيننا وتدميرا لحاضرنا ومستقبلنا بأيدينا. وإذا سارت الأمور لا قدّر الله بهذا الاتجاه، وتغيّرت اهتماماتنا وأولوياتنا في المجتمع، ودخلنا النفق المظلم، فماذا ننتظر بعد ذلك من انتخابات تعدّدية ومن تغير في الحُكّام في أحسن أو أسوإ سيناريوهات المستقبل؟
محمد القوماني
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*منشور بجريدة “الخبير” (أسبوعية تونسية) السنة 5 العدد 14 بتاريخ من 30 ماي إلى 5جوان 2013.