البوصلة السياسية للحكومة القادمة: رسالة مفتوحة إلى السيد الحبيب الجملي
جدّد مجلس شورى حركة النهضة في دورته الأخيرة يوم الأحد الماضي دعمه لرئيس الحكومة المكلّف الحبيب الجملي، الذي يبدو أنه استوفى مشاوراته مع الأحزاب والأطراف الاجتماعية والشخصيات الوطنية. فبعد ما يزيد عن الأسبوعين من تاريخ التكليف بتشكيل الحكومة، وقبل الخوض في الحقائب الوزارية التي ستكون موضوع المفاوضات في الأيام القادمة، بات مطلوبا أن يفصح السيد الجملي عن وجهة حكومته في الأولويات ومواصفات من سيختارهم لتنفيذ البرنامج وأهمّ الأهداف العاجلة والمتوسطة والبعيدة التي يعد بها التونسيات والتونسيين، لتكون مرجعية في تقويم الأداء ومحاسبة الفريق. فوثيقة الحكم، التي ستنبثق عن حوار الأحزاب والأطراف المشكلة للحكم والداعمة له، قد لا تكون العنصر الحاسم في نيل ثقة البرلمان في ظل المناكفات الحزبية المعلومة، لكنها ستكون المرجع في رؤية الحكومة لأوضاع البلاد وأولوياتها وبرنامجها للمرحلة الجديدة. وهي وثيقة ملزمة لجميع أطراف الحكم ومرجع تقييم أداء مختلف أعضاء الحكومة ومراقبة مجلس نواب الشعب لهم. وفي هذا السياق نورد الموجهات التالية التي نراها مساعدة في ضبط البوصلة السياسية لحكومة الجملي، وأردناها رسالة مفتوحة، تساوق الحوار شبه العلني حول تشكيل الحكومة.
1 ـ لم يحسن الحكم التوافقي السابق (2014 ـ 2019)، على أهمية مكاسبه في تأمين استمرار المسار الديمقراطي ودحر الإرهاب وخلق الاستثناء التونسي، تقدير مخاطر تأخّر المنجز الاقتصادي والاجتماعي. إذ استمرّت البطالة وخاصّة بطالة أصحاب الشّهادات العليا مرتفعة، واستفحلت الفجوات المختلفة الاجتماعيّة والحضريّة والجهويّة والجيليّة والثقافيّة والرّقميّة، وتراجع المرفق العامّ في أكثر من مجال حيوي (الصّحة، التّعليم، النّقل، الأمن…) وصار ضنك العيش واستفحال الفساد والتّهرب الجبائي وغلاء الأسعار وتنامي مظاهر الانفلات وتجاوز القانون وانتشار الجريمة المجتمعية، مؤشرات على عدم النجاح وعلى تأزّم الأوضاع مجدّدا وتهديد المنجز السياسي ﺑﺣدوث اﻧﻔﺟﺎر اﺟﺗﻣﺎﻋﻲ، تدلّ عليه اﻟﺗﺣرﻛﺎت اﻻﺟﺗﻣﺎﻋﯾﺔ المتزاﯾدة، والتي تتغذى بدورها من ﺗﻧﺎﻣﻲ الاحتجاجات ﻓﻲ اﻟﻌﺎﻟم وﻣزﯾد ﺣﺿور المسأﻟﺔ اﻻﺟﺗﻣﺎﻋﯾﺔ.
2 ـ تعيش بلادنا نهاية دورة سياسيّة وإرهاصات دورة سياسيّة جديدة. إذ كان اتجاه التصويت في الانتخابات التشريعية والرئاسية لموفى سنة 2019 ردّ فعل مشروع على تأخّر المُنجز الاقتصادي والاجتماعي على المنجز السياسي، وعلى تغليب مطلب الحرية على مطلب الكرامة في الثورة. وكانت النتائج تعبيرا واضحا عن رغبة جامحة في التغيير. فالتونسيون في غالبيتهم، من خلال تفاعلهم أثناء الحملة الانتخابية أو من خلال اتجاهات التصويت، مجمعون على ما يريدون وما لا يريدون أيضا. وبدت برامج الأحزاب ووعودها متقاربة إلى حدّ التشابه، في تقدير الأولويات وتدارك مخاطر الاستغراق في المسار السياسي على حساب التحديات الاقتصادية والاجتماعية.
3 ـ توجد فرص حقيقية بعد انتهاء المنافسة الانتخابية، ومن خلال ما عبّرت عنه صناديق الاقتراع، ومن خلال مشاوراتكم المنفتحة على مختلف الأطراف، للالتقاء بين فرقاء يجمعهم الحرص على استكمال تحقيق أهداف الثورة بالقطع مع الفساد وإرساد حوكمة رشيدة، وتحقيق التنمية الشاملة والعادلة ومحاربة الفقر، وحفظ أمن التونسيات والتونسيين ودولتهم، بالقضاء على الإرهاب ومحاربة الجريمة، واستكمال إرساء مؤسسات الجمهورية الثانية، وذلك على قاعدة برنامج وطني للإصلاح، وشراكة تعاقدية، تجسدها وثيقة معلنة يكون الشعب شاهدا عليها، وتتعهد بتطبقها حكومة، تُراعى فيها الكفاءة قبل المحاصصة، ولا يتسرّب إلى رموزها شكوك تتعلّق بالنّزاهة أو الكيل بمكيالين أو تضارب المصالح، وتحظى بتزكية أغلبية نيابية ودعم قوى سياسية واجتماعية من داخل البرلمان وخارجه.
4 ـ إنّ الحكومة القادمة التي نتطلع إلى أن يكون ديدنها استحضار أمانة المسؤولية واعتماد الشفافية والتشاركية والحرص على إقامة العدل وإنفاذ القانون دون تردّد أو محاباة، عليها أن تستحضر تشكّيات الناخبين وغضبهم أحيانا، وتطلعاتهم ومطالبهم، وعليها الوفاء بتعهدات الأحزاب السياسية في تحمّل المسؤولية بتحسين عيش الناس. وكل طرف في الحكومة مدعوّ للتّعاون والاختلاف مع غيره من الأطراف، على قاعدة رؤيته للصّالح العامّ ومراعاة له، أكثر من مراعاة صفاء التجاور مع غيره، أو استمراره في الحكم.
5 ـ على الحكومة الجديدة أن تتصدّي للأولويّات سالفة الذكر، وأن توجّه السّياسيات العموميّة للدّولة مركزيا وجهويا إلى معالجة مختلف الفجوات التّرابيّة والحضريّة والرّقميّة والثّقافية. وأن تجعل من استدامة المرفق العام وجودته في مجالات الصّحة والتّعليم والنّقل والأمن رافعة أساسيّة للحفاظ على العلاقة الاجتماعيّة بين المواطنين والجهات. وأن ترصد العناية اللازمة لمنظومة الأمان الاجتماعي وأن تعالج مواطن الهشاشة القديمة والجديدة التي تؤدّي إليها التّحولات المجتمعيّة والدّيمغرافية الكثيفة والسريعة في المجتمع التونسي.
6 ـ رسّخت الانتخابات الرئاسية والتشريعية الأخيرتان مسار الانتقال الديمقراطي بتونس ونالتا تقدير المتابعين في الداخل والخارج. وكان الانتقال السلس للسلطة في الظروف الاستثنائية عقب الوفاة المفاجئة لرئيس الجمهورية، أو في الظروف العادية عقب الإعلان النهائي عن النتائج الانتخابية، رسالة بليغة في مزايا الديمقراطية ودولة المؤسسات. وباتت تونس مثالا إيجابيا وعنوانا جاذبا، في ظلّ مشهد عربي درامي تُقايض فيه الحرية بالأمن ويكون فيه انهيار البلدان ثمن التخلّص من استبداد الحكّام، وتبدو فيه الدولة في تنافر مع الديمقراطية. وعلى حكومتكم اأن تكون أحرص على استكمال تنزيل دستور الجمهورية الثانية وتوفير شروط العمل الناجع لمختلف الهيئات الدستورية ودعم خيار اللامركزية وإرساء الحكم المحلي بمختلف مستوياته وتأمين الشروط المادية والقانونية لنجاحه.
ختاما يمنحكم الدستور سيدي رئيس الحكومة المكلّف مدة شهر قابل للتجديد لتشكيل حكومتكم وعرضها على مجلس نواب الشعب لنيل الثقة. وقد شدّدتم في تصريحاتكم الأخيرة على هذا الحق الدستوري الذي لا يجعلكم تحت ضغط الوقت. ونهمس إليكم أنّ الحكمة تقتضي مراعاة الظرف والتعجيل بإنهاء مهام حكومة الشاهد لتصريف الأعمال. ومهما كانت الأطراف المشاركة في الحكومة، ضمن خياركم في الانفتاح دون إقصاء، فإنّ حصول حكومتكم على تزكية الاغلبية المطلقة لا يبدو عسيرا. لكن على الأرجح أن تكون الأغلبية الحكومية ضعيفة، بما يجعل البوصلة السياسية للحكومة وثيقة الحكم ومواصفات الفريق والأداء الحكومي خلال الأشهر الأولى، عناصر مرجّحة في مدى استمرارية حكومتكم ونجاحها. وكان الله في عونكم.
محمد القوماني
*منشور بجريدة الرأي العام، العدد 135، تونس في 05 ديسمبر 2019