البرنامج والتركيبة في تزكية حكومة الفخفاخ؟
يتبيّن في الواقع، كما في كل مرّة، خلافا للمصرّح به، أنّ
الخلاف حول الحقائب والأشخاص أهمّ من مناقشة البرنامج والأولويات، وأنّ
الاتفاق على التركيبة العامل المحدّد في تزكية حكومة الفخفاخ من عدمها. فرغم حرص رئيس الحكومة المكلّف إلياس
الفخفاخ منذ البداية على وضع خطّة متدرّجة في تشكيل حكومته بدءا بأسبوع المشاورات ومرورا
بأسبوع البرنامج وانتهاء بأسبوع الحقائب، لم تجر الأمور كما تمّ التخطيط لها. إذ
امتنعت أهمّ الأحزاب على توقيع مذكّرة التعاقد الحكومي قبل الاتّفاق على التشكيلة
الحكومية. ويوشك الفخفاخ أن يدخل الأسبوع الأخير من المدّة الدستورية الممنوحة له،
دون أن يتأكّد من الحزام الحزبي الكافي لنيل حكومته الثقة بالبرلمان. وتبدو
الخلافات حادّة في الساعات الأخيرة، حول تركيبة الحكومة، وتستمرّ مختلف
السيناريوهات قائمة.
فبعد اللقاء الثلاثي الذي جمع إلياس الفخفاخ بنبيل القروي
بمنزل راشد الغنوشي صباح الخميس 6 فيفري 2020، والذي رأى فيه أغلب المتابعين حلحلة
للخلاف ومؤشرات انفراج في تسريع تشكيل الحكومة وضمان أغلبية لمنحها الثقة، عادت
الأمور إلى الغموض بعد لقاء الفخفاخ يوم غد الجمعة بوفد قلب تونس بدار الضيافة وما
تلاه من تصريحات من أوساط عديدة دلّت على أنّ إشراك قلب تونس في الحكومة ظلّ
مستبعدا. ومن جهة
أخرى يجري الفخفاخ مفاوضات صعبة مع حركة النهضة والتيار الديمقراطي وحركة الشعب
وائتلاف الكرامة وحركة تحيا تونس حول توزيع الحقائب. وتتابع التسريبات والتعديلات
والاعتراضات والترضيات. ولا شيء يبدو محسوما.
فالأحزاب مشغولة بعدد مقاعدها في الحكومة وإقناع الفخفاخ
بالأسماء المقترحة من قياداتها لهذه المناصب، وهي مشغولة أيضا بالاعتراض على بعض
الأسماء المقترحة من الأحزاب الأخرى المشاركة في الحكومة، أو الأسماء
المقترحة من رئيس الحكومة المكلٌف نفسه. وفي كلّ الأحوال لم يعد أيّ طرف مهتمّا
بالبرنامج والأولويات والمقترحات والإجراءات. ويرتهن موقف مختلف الأحزاب من
حكومة الفخفاخ بالمشاركة فيها من دعمها، إلى حصّتها في الحكومة ورضاها عن تشكيلتها.
فقد ألمح التيار الديمقراطي وحركة الشعب وائتلاف الكرامة إلى إمكانية عدم
المشاركة، وألمحت حركة النهضة إلى إمكانية التصويت للحكومة دون المشاركة فيها.
تذكّرنا علاقة البرنامج بالتركيبة في حكومة الفخفاخ، بالخلاف الحاصل في قرطاج2 سنة 2018 زمن الرئيس الباجي رحمه الله تعالى. فقد اتفق ممثلو الأحزاب والمنظمات يومها على برنامج من 63 نقطة، واختلفوا حول النقطة 64 المتعلّقة بمن ينفّذ البرنامج، هل هي حكومة الشاهد القائمة أم حكومة جديدة؟ وكان الفراق الذي قاد البلاد إلى الأزمة السياسية المعلومة. فقد ذهبت نقطة التركيبة الوحيدة أو الأشخاصن بالنقاط الثلاثة والستين حول المضامين. والحديث قياس في موضوع الحال. وهنا أيضا تهتزّ مقولة الحكومة المنسجمة حول خيار ينتصر للثورة وأهدافها، في مقابل خيار آخر مُجبر على التموقع في المعارضة.
فالتنافي غير خاف بين حركة تحيا تونس وائتلاف الكرامة. والاتّهامات المتبادلة، المعلنة والخفية، تقطع بأنّ الانسجام متعذّر بين الطرفين وإن جمعتهما حكومة واحدة. والتجاذبات والاتّهامات وأزمة الثقة بين التيار والشعب من جهة، والنهضة من جهة أخرى، تجعل الانسجام متعذّرا أيضا في الحكومة المنتظرة، إلاّ أن يحصل ما يعالج الأمر. كما أنّ استبعاد قلب تونس من الحكومة، على قاعدة تصنيف سياسي، وإشراك تحيا تونس ونداء تونس ومشروع تونس وآفاق تونس والبديل التونسي، المنتمين لنفس العائلة تقريبا، يجعل القرار مسترابا والخيار غير مقنع.
إنّ تفسير بعض المقرّبين من رئيس الحكومة المكلّف للقائه بوفد حزب قلب تونس، على أنّه توسيع للمشاورات لتشمل “المعارضة”، يعدّ ضربا من المراوغة واللعب بالكلمات إرضاء للرغبات وبحثا عن الانسجام في المقولات، دون بحث عن حلول فعلية للمشكلات. فلا معنى لمصطلح المعارضة، قبل أن يجري التصويت على الحكومة في البرلمان. ولا جدوى من المشاورات إذا لم تحتمل إمكانية الاتفاق والمشاركة في الحكومة ودعمها، أو إمكانية الاختلاف مع رئيس الحكومة والتعبير عن عدم المشاركة. ولذلك ظلّ موقع حزب قلب تونس وموقفه غائما رغم لقاء الجمعة. وظلّت مواقف مختلف الأحزاب غائمة أيضا. ومع استمرار الغموض واقتراب نهاية المهلة الدستورية، تزداد حيرة التونسيين ومخاوفهم من فشل البرلمان مجدّدا في منح الثقة للحكومة للمرّة الثانية، بما يعني ضرورة عدم قدرته على الاستمرار وضمان حكم مستقرّ، واستدعاء قرار حلّه، بمقتضى النتيجة والدستور، والدعوة إلى انتخابات سابقة لأوانها.
أخطأ السيد إلياس الفخفاخ بداية حين ضيّق على نفسه، واستبعد الحزب الثاني بالبرلمان، وهو المكلّف على اعتباره الأقدر على جمع أكبر حزام سياسي يدعمه في نيل ثقة مجلس نواب الشعب، بعد أن فشل سلفه السيد الحبيب الجملي في ذلك وفق الصيغة الدستورية الأولى. ويتردّد الفخفاخ في مراجعة خياره والذهاب بجرأة إلى حكومة وحدة وطنية لا تسبعد إلاّ من رفض المشاركة فيها، بما يضمن لحكومته أغلبية مريحة بالبرلمان ودعما سياسا كافيا خارجه.
وإن ظلّ عامل الرغبة المتأكّدة في إنهاء حكومة الشاهد لتصريف الأعمال يخدم فرصة منح الثقة لحكومة إلياس الفخفاخ، ويجعلها أقرب إلى المرور، فإنّ مرورها قد يكون بأغلبية بسيطة، لا تمنحها القوة السياسية الكافية للحكم وإنفاذ الإصلاحات المستوجبة وضمان الاستقرار. والأخطر من ذلك أن تكون حكومة “الضرورة” و”الترضيات” التي ينفصل فيها البرنامج عن التركيبة، عاجزة عن رفع التحديات الاقتصادية والاجتماعية ومواجهة الأولويات الوطنية والمخاطر الإقليمية. فالمرور الذي يعقبه فشل مرجّح في ضمان أغلبية مطلوبة مستقرّة، أو حلول مقنعة لمشاكل التونسيين، يجعل حكومة الفخفاخ انتقالية بالضرورة.
وفي انتظار الإعلان الرسمي عن تشكيلة الحكومة المرتقبة وخطاب الفخفاخ في جلسة منح الثقة بمجلس نواب الشعب، وفي ضوء تجارب مع رؤساء حكومات سابقة، يبدو من مفاجآت الساعات الأخيرة غير المستبعدة، أن تطالب بعض الأطراف المشاركة رئيس الحكومة المكلف التعهد في المذكرة التعاقدية للحكم أو في خطابه أمام البرلمان بعدم تكوين حزب أو إنشاء كتلة برلمانية تابعة له أو الترشح لرئاسة الجمهورية مادام على رأس الحكومة.
محمد القوماني
*منشور بجريدة الرأي العام، العدد 144، تونس في 13 فيفري 2020
مقالات ذات صلة
25 جويلية: جمهورية مغدورة.. وذكرى حزينة..
2023-07-25