الباجية الموجوعون يتململون.. وبعد؟
خرج عدد هامّ من النشطاء وأهالي باجة في مسيرة احتجاجية صباح السبت 17 أكتوبر 2020 من أجل التعبير عن غضب الباجية ومطالبهم في تحسين الخدمات الصحية وتوفير الشغل للعاطلين ورفع التهميش عن جهتهم، وذلك بدعوة من المنظمات الوطنية وبعض الجمعيات ونشطاء من المجتمع المدني وبرعاية الاتحاد الجهوي للشغل بباجة. وقد جاء هذا التحرّك عقب ارتفاع عدد الوفيات والإصابات بعد الانتشار المفزع لفيروس كورونا المستجدّ وتصنيف مدينة باجة بمعتمديتيها الشمالية والجنوبية منطقة حمراء، وإثر ارتفاع أصوات عديدة منبّهة لخطورة الأوضاع وضعف الإمكانيات وتردّي الخدمات. فقد فشلت جلسة تفاوض يوم 12 أكتوبر الجاري جمعت وزير الصحة بممثلين عن الاتحاد الجهوري للشغل بباجة والفرع الجامعي للصحة بقيادة الكاتب العام الجهوي عبد الحميد الشريف، تلتها هيئة إدارية جهوية طارئة لوّحت بشنّ إضراب عام جهوي إذا لم يتمّ اتخاذ إجراءات عاجلة لفائدة أبناء الجهة. ويبدو واضحا أنّ عنوان الصحة المتدهورة ليس سوى قادحا لأوجاع مواطني إحدى ولايات الشمال الغربي الذين يعانون من التهميش على مختلف مستويات التنمية، والذين قد لا يطول تململهم ليتحوّل احتقانهم الاجتماعي إلى تحرّكات لا تحمد عقباها، ليلتحقوا بأوضاع ولايات أخرى في فترة خريف وشتاء الغضب في تونس، ممّا يزيد أوضاعنا الوطنية تعقيدا وصعوبة.
كم تبدو المفارقة صادمة بين موقع باجة الجغرافي والإمكانيات الإيجابية المتاحة لأهلها والوضع الاجتماعي المزري لعموم سكانها وتردي الخدمات العامة بها وأوضاعها التنموية المزرية عموما. فولاية باجة بوابة الشمال الغربي المهمّش وأقرب ولاياته إلى العاصمة (100 كلم) والتي تتوسط خمس ولايات (بنزرت، منوبة،زغوان، سليانة، جندوبة) يؤهلها موقعها لتكون مركزا مشعا على الولايات المتاخمة لها. واعتبارا لما حباها به الله تعالى من خصائص طبيعية وثروة زراعية وغابية وحيوانية وموارد مائية قياسية وما تكتنزه من مخزون تاريخي حضاري وثقافي، تستحق باجة بنية تحتية أفضل بكثير في الطرقات والسكة الحديدية ووسائل النقل ودعما مضاعفا لتتحول إلى قطب تنموي ووجهة سياحية، بدل أن تكون جهة طاردة لأهلها خاصة من أصحاب الكفاءات والشهائد العليا. ومن مفارقات الزمان والمكان أن يجوع حوالي نصف سكان “مطمور روما” قديما وأكبر منتج للحبوب حاليا، وأن تعاني من العطش وعدم توفّر الماء الصالح للشراب عائلات كثيرة من معتمديات ولاية السدود الكبرى الثلاثة والمنسوب العالي من نزول الأمطار.
ولمّا كانت الأرقام عنيدة كما يقال، فهي أكبر شاهد على ما أسلفنا. فولاية باجة تحتلّ المرتبة 20 في مؤشر التنمية الجهوية بمعدّل 0,439 سنة 2018. وهي الولاية الرابعة في نسبة الفقر بمعدل 32%. ونسبة البطالة بلغت 18,1% وهي اليوم أعلى بكثير بالتأكيد بعد أزمة كوفيد 19. ونسبة إنجاز الاستثمارات العمومية الجهوية لم تتجاوز 42,7%. وحتّى نبقى قريبين من موضوع الصحة الذي يحظى بالأولوية في هذه الفترة، يكفي أن نذكر أنّ أكثر من 300 ألف من سكان باجة لا يتوفّر على ذمتهم بالمستشفى الجهوي بمركز الولاية سوى سريران فقط للإنعاش، دون طبيب مختص في الإنعاش. وهو مستشفى عجوز متهالك عاينت اللجنة البرلمانية للتحقيق في فاجعة عمدون حالته المزرية وقدّرت أنه غير قابل للإصلاح. وأوصت بالتعجيل بإنجاز مشروع إنشاء مستشفى متعدّد الاختصاصات لتفادي الخلل في المنظومة الصحية العمومية بالجهة، بمعالجة المشاكل القانونية التي تحول دون تنفيذ اتفاقية التمويل السابقة مع جهة بريطانية، والبحث عن خط تمويل جديد.
ومن أمثلة الإخلالات الفاضحة في حق الجهة أن المستشفى الجهوي بمجاز الباب الذي أنشئ لتحسين الخدمات الصحية وبدأ العمل به منذ حوالي 5 سنوات، تستمرّ قاعات العمليات به مغلقة، حتى صارت التجهيزات الباهظة به مهدّدة بالتلف، لطول فترة عدم استعمالها. ولم يحسم وزراء الصحة المتعاقبون خلال المرحلة الأخيرة القرار بشأن خلاف مع المقاول الذي أنجز تلك القاعات ووقفت الجهات المعنية على إخلالات جزئية بالقسم المذكور. أمّا القسم الثالث من المشروع فتأخرت أشغاله أصلا، بما جعل المؤسسة لا تحمل من المستشفى الجهوي سوى التسمية. وعن حالة المستشفيات المحلية ومراكز الصحة الأساسية والمخابر ومراكز رعاية الأم والطفل، فحدّث ولا حرج، عن تشقّق البنايات وفقدان الإطار الطبي وشبه الطبي وانعدام الأجهزة والأدوية المطلوبة وضعف أسطول العربات وسيارات الإسعاف. وليس من المبالغة في شيء القول بأنّ أهالي باجة لا يفتقدون فقط للخدمات الدنيا لعلاجهم من إصابات كوفيد 19 أو حمايتهم من انتشار العدوى، بل يجدون أيضا صعوبات جمّة في إكرام موتاهم بتأمين نقلهم إلى المقابر ودفنهم في ظروف مناسبة.
حين تواجه مديري المؤسسات الصحية أو المسؤولين الجهويين عن الصحة أو غيرها، يواجهونك بكمّ المراسلات للوزارات والجهات المختصة التي تُعلم بالنواقص أو تطلب التعويض او الإصلاح والتزويد، ولكن لا مجيب. وكم تحدّثت شخصيا بصفتي نائب عن دائرة باجة وتحدّث زملائي في هذه الفترة النيابية وقبلها عن أحوال الصحة المتردّية وأوضاع الجهة المحرومة من حقها في التنمية العادلة، وضرورة تفعيل مقتضيات الفصل 12 من الدستور في العدالة الاجتماعية والتوازن بين الجهات ومبدإ التمييز الإيجابي، ولكن لا حياة لمن تنادي. وكم حصلت زيارات لوزراء مختلفين للولاية، وعقدت جلسات للنظر في أوضاع الجهة، وأشهرها المجلس الجهوي الذي ترأسه رئيس الحكومة يوسف الشاهد سنة 2017 والمجلس الجهوي للصحة الخاص بولاية باجة المنعقد بوزارة الصحة في 27 أوت 2019 بإشراف الوزيرة سنية بن الشيخ والمجلس الجهوي للتنمية المنعقد بمقر الولاية في 01 فيفري 2020 بإشراف وزير الشؤون الاجتماعية محمد الطرابلسي. وقد انبثقت عن هذه المجالس قرارات وتوصيات ظلت في أغلبها حبرا على ورق، ولو تحققت لكانت الأوضاع أفضل بالتأكيد.
لا نحتاج إل مزيد تشريح مؤشرات التنمية الجهوية وتوصيف الأوضاع المتردّية بباجة وتعداد مطالب الأهالي في مختلف معتمدبات الولاية وعماداتها، فما ذكرناه كاف وزيادة، لنخلص إلى أنّ المطالب المشروعة تجعل حالة التململ مرشّحة لمزيد التصعيد. فإمّا أن تستبق الحكومة الأحداث فتبادر بقرارات وإجراءات تخفّض الاحتقان وتطمئن السكان. ويشترط الاتحاد الجهوي للشغل في الحدّ الأدنى عقد مجلس وزاري خاص بالتنمية بباجة للتخلي عن تنفيذ الإضراب العام الجهوي. وإمّا أن تتجاهل السلطات الجهوية والمركزية مؤشرات تململ الباجية الموجوعين، لتتراكم وتتوسّع وتأخذ مسار الغضب الاجتماعي الذي كان أهمّ عناوبن ثورة الحرية والكرامة نهاية 2010 ومطلع 2011. ومن أنذر فقد أعذر.
محمد القوماني
*منشور بجريدة الرأي العام، العدد 178، تونس في 22 أكتوبر 2020
مقالات ذات صلة
25 جويلية: جمهورية مغدورة.. وذكرى حزينة..
2023-07-25