الانعطافة الإستراتيجية لحركة النهضة بعد الثورة

جريدة الرأي العام، العدد 36، تونس في 21 ديسمبر 2017

انعقدت بالحمامات الندوة السنوية الأولى لحركة النهضة يومي 23 و24 ديسمبر 2017 تحت شعار “وحدة وطنية من أجل الإصلاح والاستقرار”. افتتح الأستاذ راشد الغنوشي أشغال الندوة بكلمة أكدّ فيها على أهميّة انعقاد هذه المؤسّسة الوليدة التي استحدثها المؤتمر العاشر، والسياق الوطني والدولي الذي تنعقد فيه. وقد تضمّن البيان الختامي للندوة أفكارا وتوصيات تعلّقت بإدارة الملف السياسي والاقتصادي، وتكريس الانعطافة الاستراتيجية للحزب، وبرنامج الإصلاح الداخلي، رأينا فيها إضافة نوعية في خطاب النهضة وتوجّهاتها. ونركّز حديثنا في هذا المقال على دلالات الدعوة إلى “تسريع تحقيق الانعطافة الإستراتيجية للحركة”، لصلته بمخرجات المؤتمر العاشر من جهة، وبتفاعلات الحركة مع المستجدات السياسية للساحة الوطنية واستعداداتها للاستحقاقات الانتخابية القادمة من جهة ثانية.
انعطافة ما بعد الثورة
أشار البيان الختامي إلى أنّ الندوة السنوية تأتي في سياق “تعزيز الديمقراطية الداخلية وتكريس المنهج التشاركي في أخذ القرارات وتقييم الأداء وتدقيق المسارات”. وينص الفصل 36 من القانون الأساسي على تركيبة الندوة التي تجمع أغلب كوادر الحركة المحلية والجهوية والمركزية وأعضاء الكتلة النيابية، وعلى وجوب انعقادها سنويا. ناقش الحضور تقاريرا من المكتب التنفيذي ومجلس الشورى، وتداولوا في الوضع العام بالبلاد وخيارات الحركة وسياساتها، وانتهوا إلى مجموعة من التوصيات. فهذه الهيئة ذات طابع استشاري، يعمل مجلس الشورى لاحقا على تحويل توصياتها إلى قرارات. وكان لافتا في هذا البيان تخصيص عنوانه الثاني إلى “تسريع تحقيق الانعطافة الإستراتيجية للحزب وتعميق هويته الاجتماعية وتموقعه”. وهو عنوان يحيل على مخرجات المؤتمر العاشر الذي عبّرت مختلف لوائحه المُصادق عليها بالأغلبية المريحة، على التطلّع إلى بناء حالة جديدة للحزب، بما يجعل منها انعطافة إستراتيجية، تستفيد من مكتسبات الثورة وتؤهّل الحزب بصفته حزبا مدنيا تونسيا أصيلا وحداثيا، إلى تحمّل أعباء المرحلة الجديدة التي انتقل فيها من “جماعة دينية” إلى “حزب سياسي”، ومن معارك “الدفاع عن الإسلام” إلى معارك ضمان حقوق الإنسان وبناء الديمقراطية وتحقيق التنمية العادلة والشاملة، ومن المعارضة الاحتجاجية إلى المساهمة في إعادة بناء الدولة. وما يقتضيه ذلك حسب البيان من:

1. التحرّر من الشمولية وتكريس التخصّص في العمل السياسي تحت سقف الدولة المدنية والديمقراطية، استفادة من مكاسب الثورة واهتداء بالدستور وقيمه. وما يستلزمه ذلك من تمييز جليّ بين فضاءات الشأن العام السياسي وفضاء المجتمع المدني بمعناه الواسع.
2. دعم نهج الشراكة والتوافق باعتباره خيارا وسياسة عليا للحركة في إدارة علاقتها ببقية الشركاء والفاعلين السياسيين والاجتماعيين.
3. الانفتاح على الكفاءات التونسية المختلفة، استفادة من تجاربها في إثراء برنامج النهضة وتعزيز قدراتها على الإنجاز وتقديم الحلول لمشاغل التونسيين، تأكيدا للبعد الوطني للحزب .
4. تعزيز موقع النساء والشباب في مؤسسات القرار داخل الحركة وضمان الديمقراطية الداخلية عموديا وأفقيا للحفاظ على ديمومة ديمقراطية الحياة الحزبية وفضاء الشأن العام.
فحركة النهضة التي تحتفظ بالسبق في المراجعات والتقييم المستمر لمسيرتها، والاستفادة من مرونتها في التعاطي مع متطلبات المرحلة والواقع، تُثبت مرّة أخرى حيويّتها المستمرة التي تمدّها بالطاقة المتجدّدة وتؤهّلها لتكون من أعرق الأحزاب التونسية الحالية وأهمّها. إذ لم تخل هذه الندوة السنوية من الإضافة والتطوير، فتمّ تأكيد خيارات المؤتمر العاشر واستحثاث القيادة على تسريع تنزيلها.
حيويّة تسريع تحقيق الانعطافة الإستراتيجية
أوصت الندوة “بمسارعة إطارات الحزب من المُتحمّلين لمسؤوليات حزبية والناشطين في المجتمع المدني، إلى تسوية وضعياتهم بما يتناسب مع توجهات الحركة في التخصّص وما تقتضيه قوانين الدولة الجاري بها العمل”. وفي ذلك تأكيد واضح على تثبيت خيار التحرّر من الشمولية، لإعطائه مصداقية وجعله مثالا يُحتذى من الأحزاب الأخرى. فقد كان نظام الاستبداد وظروف العمل السرّي ونموذج الحزب الدستوري المهيمن على الدولة والمجتمع لعقود، من أسباب نزوع عموم الأحزاب التونسية إلى الشمولية في المواجهة، والاحتماء بالمجتمع المدني للفعل السياسي. وقد زالت هذه الأسباب بعد الثورة، وكانت لتجربة حركة النهضة في الحكم آثارا إيجابية واضحة في التوجهات الجديدة للتمييز بين العمل الجمعياتي المدني والعمل الحزبي السياسي. وضمن هذا السياق أيضا تتنزّل التوصية بمساهمة الحزب في “بلورة سياسات عمومية حكومية لإدارة الشأن الديني في بلادنا، تضمن رعاية هذا المجال وحمايته بالمنسوب اللازم من الحريّات لضمان نمائه وتطوّره وحفظه من التوظيف والتشدد والتطرّف، تحقيقا للأمن الرّوحي للتونسيين، طبقا لمقتضيات الدستور واحترام القانون”.
ومن جهة ثانية أوصت ندوة الإطارات بمزيد عمل الحزب على “اعتماد رؤية اقتصادية وخطاب اجتماعي مميّزين، يعزّزان خياره في الاقتصاد الاجتماعي والتضامني وتطلّعه إلى التموقع في الوسط الاجتماعي العريض”. فالندوة لم تكتف بتأكيد “الحاجة إلى استثمار النجاح السياسي الذي يحظى بتقدير العالم، لصالح نجاح الانتقال الاقتصادي والاجتماعي الذي يشكّل أولويات الحاضر والمستقبل”، وتجديد دعوتها السابقة إلى تنظيم حوار وطني اقتصادي واجتماعي، بل شدّدت على مجموعة من الاقتراحات والتوصيات التي تجسّد هذا التوجّه. ومن ذلك الدعوة إلى “دعم جهود الحكومة وسائر مؤسسات الدولة في مكافحة الفساد، وتنقية مناخ الأعمال من رواسب فترة الاستبداد وتداعيات ضعف مؤسسات الدولة والانفلات لفترة ما بعد الثورة”. وهذا وضوح أكبر تُعرب عنه الندوة في استحضار خطر الفساد وحيوية الحرب عليه، وينتظر من القيادة حسن التنزيل، انحيازا لروح الثورة وفهما لمقتضيات المرحلة وتفنيدا للادّعاءات المضلّلة بتشويه خيارات النهضة وتصنيفها ضمن اليمين المعادي لمصالح الطبقات الوسطى والمفقّرة. وحتّى تكتمل التوجّهات الاجتماعية مع الروح التحرّرية في خطاب النهضة وحرصها على الوحدة الوطنية في آن، تمّت التوصية أيضا ب “بلورة منهج في التعامل مع القضايا المجتمعية المختلفة، يستحضر مقصد توحيد التونسيين على قاعدة تنوّعهم وعلى مبدأ عدم التدخل في المجال الخاص للأفراد، وعلى حقّ الجميع في حريّة التعبير عن مواقفهم في كلّ القضايا المطروحة في الفضاء العام.
النهضة الجديدة
شدّدت ندوة الإطارات على “تسريع تحقيق الانعطافة الإستراتيجية للحزب وتعميق هويته الاجتماعية وتموقعه”، وعلى “إصلاح الحزب وتطويره تعزيزا للديمقراطية الداخلية وضمانا للنجاعة”، ويبدو واضحا من خلال ذلك أنّ حركة النهضة قد دخلت الزمن الانتخابي. فهي تدرك جيّدا أنّ بلادنا مُقدمة على انتخابات محلية خلال بضعة أشهر، تليها استحقاقات انتخابية أخرى على غاية من الأهمية، دعت في بيانها إلى “الحرص على تأمين مناخ تنافسي غير عدائي” لخوضها “بما يعزّز الوحدة الوطنية وبناء الثقة والاستقرار السياسي”. وتريد “النهضة الجديدة” أن تكون على أتمّ الاستعداد للمنافسة فيها.
محمد القوماني
https://scontent.ftun3-1.fna.fbcdn.net/v/t1.0-9/26167003_1774927512531025_1453640894469374894_n.jpg?oh=188d7d08f93c7a6b71bc7edc8df2ed50&oe=5AC0948A

مشاركة
    0 Comments

    No Comment.

    %d مدونون معجبون بهذه: