الانتخابات التشريعية الفلسطينية تدشين للانتفاضة الديمقراطية

الانتخابات التشريعية الفلسطينية

تدشين للانتفاضة الديمقراطية

 

جريدة “الموقف” بتاريخ03 فيفري 2006.

 

 

لا خلاف على أن القضية الفلسطينية ظلت في قلب الأحداث العربية على مدى العقود الأخيرة.و لا نبالغ إذا قلنا أنه بسببها قامت أنظمة و سقطت أخرى،و تشكلت حركات سياسية وتوسعت،  و انقرضت أخرى أو تراجعت.عقدت من أجلها جل القمم العربية، وكانت موضوع نشاط أحزاب ومنظمات وجمعيات أهلية،و أسالت حبرا لا نظير له نثرا وشعرا ومقالات صحفية.لذلك لا عجب أن تكون الانتخابات التشريعية الفلسطينية الأخيرة التي فاز فيها مرشحو حماس بأغلبية المقاعد مثار ردود أفعال واسعة ومتباينة على جميع الأصعدة الفلسطينية والعربية والإسلامية وحتى الدولية.لكن ما الجديد في هذه الانتخابات بالذات؟ولماذا وصفت بالزلزال السياسي؟ وماهي أبرز تداعياتها المستقبلية؟

 

وصف القائد الأسير مروان البرغوثي في حوار مباشر له مع قناة الجزيرة قبل يوم الاقتراع الانتخابات الأخيرة بالانتفاضة الديمقراطية،وبدا  حاملا على الفساد ومشدّدا على ضرورة الإصلاح ومتطلّعا إلى وجوه جديدة سيفرزها الصندوق،تتمتع بالشعبية والمصداقية وتحمل هموم الناس والوطن،دون أن يقطع بترجيح فوز هذا الفريق أو ذاك.ولست أجد أفضل من وصف أحد أبطال انتفاضة الأقصى، في تقدير ما تؤشر عليه نتائج الانتخابات الفلسطينية.فتنظيم انتخابات حرة وشفافة ونزيهة بشهادة كل المراقبين، انجاز فلسطيني آخر يضاف إلى أمجاد هذا الشعب العظيم. فالانتخابات الحرة انتفاضة ضدّ تزييف الإرادة الشعبية الذي أدمن عليه النظام العربي في إدامة استبداده،وهي انتفاضة ضد حكم الحزب الواحد وفتح لباب التداول السلمي على الحكم الذي تستميت الأنظمة العربية في رفضه بل في تأجيله غير عابئة بالفاتورة الباهظة التي تدفعها الشعوب جراء استمرار الأنظمة في انغلاقها السياسي و تعطيل أي مسار للانتقال الديمقراطي. وهي انتفاضة في وجه العدو الصهيوني و في وجه المعايير المزدوجة و الظالمة للحكومات الغربية التي طالما برّرت مجازر إسرائيل ضدّ الفلسطينيين بأنها أعمال مشروعة تنفذها حكومة ديمقراطية منتخبة . فقد آن لرئيس فلسطين السيد محمود عباس أن يفاخر بهذا الانجاز الذي تعهد به و رعاه ووفّى بعهده. و حق له أن يرفع رأسه و أن يدافع عن مصالح الفلسطينيين و خياراتهم في المقاومة و الدفاع عن حقوقهم الوطنية ، باعتباره رئيسا شرعيا منتخبا ديمقراطيا، و باعتبارها خيارات حكومة شرعية منبثقة عن برلمان فلسطيني لن يشكك أحد بعد اليوم في تمثيله للإرادة الفلسطينية .

لقد  ضرب الشعب الفلسطيني مثالا سيظل مدويا في المنطقة ، في ممارسة المواطنة و الديمقراطية بجرأة   وانضباط نادرين . و برهن للعالم تحت عدسات الكاميرا، أن حمل السلاح دفاعا عن الأرض و العرض ضدّ العدوان الخارجي، لا يمنع في شيء الاحتكام إلى صندوق الاقتراع ، و أن الخلافات بين الفر قاء السياسيين  مهما عظمت يمكن حسمها ديمقراطيا و الاحتكام فيها للرأي  العام . فقد حمت أسلحة السلطة و أسلحة المقاومة الشعبية بجميع فصائلها العرس الديمقراطي الفلسطيني، و انتصرت المعارضة ممثلة في حركة حماس و انهزم الحزب الحاكم ممثلا في حركة فتح.  فرح الفريق الأول بالانتصار دون غرور أو إقصاء، مادّا يديه للتعاون مع الجميع. وقبل الفريق الثاني الهزيمة دون يأس، مهنئا المنتصرين و عازما على المراجعة و الإصلاح وتلافي أسباب الهزيمة في عرس انتخابي قادم.

لقد شارك الفلسطينيون في الانتخابات بنسبة عالية مقارنة ببلدان أخرى بما فيها البلدان الغربية و تنافست أطراف مختلفة و كانت تعددية حقيقية في البرامج و الرؤى عكستها و سائل الإعلام المحلية و الخارجية أثناء الحملة الانتخابية. لكن المهم في كل ذلك و الضامن للنجاح الذي تحقق في الانتخابات الفلسطينية، كان توازن القوّة بين السلطة و المعارضة، بين فتح و حماس أساسا. فالسلطة حين تكون قوية و ذات سند شعبي لا تخشى المنافسة. والمعارضة حين تكون قوية و ذات امتداد شعبي تحمي صناديق الاقتراع بنفسها و تحمل السلطة على القبول بشروط الانتخابات الحرة و النزيهة. و لا شك أن هذا التوازن المفقود بين السلطة و المعارضة في سائر البلدان العربية سيظل العائق الأكبر في طريق الانتقال الديمقراطي.

فازت حركة حماس بأكثر من نصف مقاعد المجلس التشريعي الفلسطيني و حق لها أن تشكل الحكومة الفلسطينية القادمة بالتشاور مع الرئيس محمود عباس . و بذلك تكون حماس ثاني حركة إسلامية بعد حزب العدالة و التنمية في تركيا  تصل إلى الحكم عن طريق صناديق الاقتراع ، و ربما يكون المثال الثالث في المغرب الأقصى  خلال العام القادم ، و تلك دلالة على غاية من الأهمية . ففوز حماس لم يأت من فراغ و لم يكن مفاجئا  بالنسبة لكثير من المتابعين . و لحظات نشوة الانتصار  لا تحجب سنوات الكفاح و التضحية و زفّ الشهداء و هدم البيوت و تقديم الخدمات الاجتماعية  و تأطير قطاع واسع من الجماهير الفلسطينية في الانتفاضة الأولى و الثانية .

وقد برهنت حركة حماس تحت القمع الوحشي للاحتلال و الضغوط الداخلية و الخارجية، العربية و الغربية، أن القمع و تخويف الناس لا يفسران لوحدهما ضعف حركات المعارضة. و أكد فوز حماس مرة أخرى أن الديمقراطية تخدم الإسلاميين و قد توصلهم إلى سدّة الحكم ، و لا ضير في ذلك ، فهذا من شأنه أن يعزز  ثقة الإسلاميين بالديمقراطية  و دفاعهم عنها.  و هم أيضا تحفيز لغير الإسلاميين على أن يعمّقوا مراجعاتهم الذاتية و أن يبحثوا عمّا يجدد دماءهم و خطابهم من أجل صراع سياسي سلمي مع الإسلاميين  بعيدا عن التشكيك بالنوايا و سياسات الاستئصال و الحلول الأمنية . و يبقى الأهم من كل ذلك اختبار الإسلاميين في الحكم بعد نجاحهم في الاحتجاج والمعارضة. فبعد نجاح حزب العدالة و التنمية التركي إلى حد الآن في إدارة السلطة وتحقيق التنمية في دولة علمانية ، يقع التحدي على كاهل حركة حماس الإسلامية في فلسطين . فللسلطة مقتضياتها في تعديل الخطاب وواقعيّة الحلول و القدرة على الاقتراح و تفصيل البرامج في المجالات المختلفة.

و اظن أن قيادة حماس في الداخل و الخارج تدرك التحديات جيدا و إن شاء الله ستكون موفقة في رفعها باقتدار .  و في انتظار ما سيفصح عنه  قادم الأيام، يمكن التأكيد منذ الآن أن اختبار قوة سياسية ما في السلطة، هو نجاح في حد ذاته . لأن ذلك مقتضى الديمقراطية و التداول أولاّ  و لأنه يتيح الفرصة أمام خيارات جديدة ثانيا . و بالنسبة للحركة الإسلامية بالذات فان التجربة لئن قادت إلى فشل ما  لا قدّر الله  فهي من شأنها أن تطبّع العلاقة مع هذه الحركة و أن تخرجها من” الطهورية ”  التي اكتسبتها بسبب القمع و الإقصاء في موقع المعارضة ، و عدم خوض تجربة الخطأ و الصواب في موقع السلطة كبقية الحركات . كما أن الفشل في محطّة انتخابية قادمة  من شأنه أن يكرّس التداول و يرسّخه ليكون صندوق الاقتراع حكما دائما، و لا تكون انتخابات لمرّة واحدة كما يلوّح بعض المتشائمين .

إن تحمّل حماس لمسؤولية الحكم في هذه المرحلة خير كله.  فهو إنهاء للفساد الذي ضاق به الفلسطينيون ضرعا،  و هو فتح لآفاق جديدة بعد انسداد طريق  السلطة حاليا، و هو إنضاج لتجربة حماس الواعدة ،و هو في المحصّلة  تصحيح لحركة فتح بتاريخها و مجدها ووزنها ،  و إصلاح للمؤسسات الفلسطينية المختلفة . و هنا أعود مرة أخرى إلى ما دعا إليه البرغوثي قبل الانتخابات و بعد إعلان النتائج ،من ضرورة التعجيل بعقد مؤتمر تصحيحي لحركة فتح هذا العام ،و من ضرورة إصلاح مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية و إعادة الشرعية و الحيوية للمجلس الوطني الفلسطيني الذي يجمع الداخل بالشتات الفلسطيني  في الخارج . و هي الدعوة التي باتت أغلب قواعد فتح تطالب بها في مظاهراتها الاحتجاجية بقطاع غزة و بالضفة الغربية . و أظنها أيضا  تتقاطع جوهريا مع البرنامج الذي أعلنه رئيس المكتب السياسي  لحركة حماس الأستاذ خالد مشعل بندوته الصحفية بدمشق بعد فوز حركته في الانتخابات.

فهنيئا للشعب الفلسطيني الشقيق بهذه الانتصارات على درب تحرير فلسطين، و على طريق تحقيق الانتقال الديمقراطي في البلدان العربية . ففلسطين البداية و فلسطين النهاية للحلم العربي بكل أطيافه .

نم أيها الرئيس ياسر عرفات هانئا في قبرك فالبيت الفلسطيني بخير من بعدك، و قد آذن عهد المؤسسات الفلسطينية الديمقراطية بالبلج ليملأ الفراغ الذي تركه رحيلك . ونم أيها الشيخ المؤسس احمد ياسين مطمئنا فقد زكى الشعب الفلسطيني خيار المقاومة من بعدك في استفتاء شعبي لا يزايد احد على مصداقيته .ونم أيها الدكتور الرنتيسي هانئا مطمئنا فحركة حماس منتصرة في ظل قيادتك و مع خلفك. ولينم كل الشهداء هانئين مطمئنين،       و ليخسأ شارون وكل جلادي الشعب الفلسطيني و المتنكّرين لحقوقه المشروعة.

– محمد القوماني –

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

جريدة “الموقف” (أسبوعية تونسية) ، العدد345 بتاريخ03 فيفري 2006.

 

مشاركة
    0 Comments

    No Comment.

    %d مدونون معجبون بهذه: