إرادة برلمانية مُعزّزة في الحلّ: هل يتجاوب معها رئيس الجمهورية؟

       وافق نوّاب الشعب في جلستهم العامة ليوم الثلاثاء 04 ماي 2021 بأغلبية مُعزّزة بلغت 141 صوتا، على مشروع القانون الأساسي المتعلق بتنقيح وإتمام قانون المحكمة الدستورية عدد50 لسنة 2015، بعد ردّه من قبل رئيس الجمهورية لقراءة ثانية. وبهذا التصوبت الحاسم، الذي صدّق حسابات البعض وسفّه توقّعات آخرين، عبّر البرلمان عن إرادة أغلبية معزّزة في الوصول إلى حلّ في استكمال الأعضاء الثلاثة الراجعين إليه بالنظر في تركيبة المحكمة الدستورية التي تأخر إرساؤها أكثر من خمس سنوات. بل إنّ التنقيحات الأخيرة المصادق عليها تتجاوز عراقيل أخرى تمّ الانتباه إليها في القانون، وتفتح آفاقا جديدة لتسريع إرساء هذه المحكمة التي كشفت الأزمة السياسية الأخيرة بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة الحاجة المتأكدة إليها. وربّما كانت تلك الحاجة أحد عوامل بلوغ هذه النسبة العالية من الأصوات لصالح التنقيحات في القراءة الثانية، في برلمان يعاني من حدّة الانقسام ووسط تجاذبات غير خافية في علاقة مباشرة بالأزمة المُركّبة والمتشابكة التي تعيشها تونس في هذه المرحلة.

       عرفت الجلسة العامة بعض الاختلافات  والتجاذبات، بسبب أنّ البرلمان يتعاطى لأول مرة مع مشروع قانون يردّه رئيس الجمهورية طبقا لما يمنحه له الفصل 81 من حقوق في ختم القوانين ونشرها بالرائد الرسمي، أو الطعن فيها بعدم الدستورية، أو ردّه إلى البرلمان للمصادقة عليه في قراءة ثانية بأغلبية مطلقة(109) في مشاريع القوانين العادية أو باغلبية ثلاثة أخمس (131) في مشاريع القوانين الأساسية. كما يحق لرئيس الجمهورية اللجوء إلى الاستفتاء في حالات مضبوطة. وقد زاد عدم تفصيل النظام الداخلي للمجلس في موضوع الردّ في خلافات النواب حول الإجراءات، علاوة على الأجندات السياسية المتباينة ذات الصلة التي كشفتها المداولات.

       تركّزت مداخلات النواب المعارضين للتعديلات على تحميل المسؤوليات السياسية في تأخير إرساء المحكمة الدستورية، مستهدفين حركة النهضة في المقام الأول، وشكّكوا في نوايا الحرص على إرسائها في هذه المرحلة. وتمسّكوا بأغلبية الثلثين التي يدركون تعذّرها تعطيلا للمسار. ولم يدافع عن رسالة رئيس الجمهورية في الردّ إلاّ نواب قليلون من حركة الشعب أساسا. فهي الرسالة الشهيرة شكلا ومضمونا التي تمّت قراءتها في مفتتح الجلسة من مقرّر لجنة التشريع العام، والمُشبعة بالإحالات الأدبية والقضايا الخلافية التي شملت حتى صيغة التحية في أولها وآخرها. وكان رئيس الجمهورية متردّدا في رسالته بين الطعن والردّ. فهو من جهة يبدو رافضا لمسار إرساء المحكمة الدستورية التي انقضت آجالها الدستورية حسب رأيه وقد لا يختم هذا القانون المتعلق بها، ويحمل المسؤولية في ذلك للبرلمان، وهذا في أصل موضوع طعن انقضت آجاله. والرئيس من جهة أخرى يمارس حقه في الردّ على تنقيحات في القانون لم تستأثر باهتمام كبير في رسالته وبما تفترضه من جدال قانوني، وهذا الحق في الردّ يستوجب تصويتا معزّزا من البرلمان كما أسلفنا. وهذا ما حصل فعلا.

       وفي المقابل تركّزت مداخلات المؤيدين للتعديلات على بيان المسؤولية المشتركة في تأخير إرساء المحكمة الدستورية بسبب التجاذبات السياسية وتعذّر تحقيق توافق ب145 صوتا، الذي حصل مرة واحدة في اختيار عضو، خلال عديد جلسات التصويت، وهو ما يدلّ على رغبة في إنجاز المهمة، ويكشف في نفس الوقت عن خلل في القانون نفسه. وبعد معاينة الصعوبات والاعتراف بالأخطاء تم اقتراح ثلاثة تنقيحات في القانون تتصل الأولى بفتح المجال للترشّحات الحرة بدل ترشيح الكتل، إبعادا لشبهة تحزيب المحكمة. ويتصل التنقيح الثاني بحذف عبارة “تباعا” حتى يتسنى لرئيس الجمهورية تعيين الأعضاء الأربعة الراجعين إليه بالاختيار، وكذلك المجلس الأعلى للقضاء، دون اشتراط انتظار تصويت مجلس نواب الشعب. ويتعلق التنقيح الثالث بالنزول بالأغلبية من الثلثين (145) في محاولة أولى تشمل 3 دورات إلى ثلاثة أخماس (131) في الدورات الموالية، ليسهل على البرلمان استكمال انتحاب الأعضاء الثلاثة. وقد حازت هذه التنقيحات على الأغلبية المطلقة في مرة أولى وعلى أغلبية معززة في قراءة ثانية، مما يدلّ على وجاهتها ودوافعها الواضحة في حلّ المشكل.

       وكانت المحكمة الإدارية والهيئة الوقتية لمراقبة دستورية القوانين وخبراء في القانون قد أجمعوا في الفترة الأخيرة على الاختصاص الحصري للمحكمة الدستورية في تأويل نصوص الدستور وحسم الخلافات في الصلاحيات بين مراكز السلطة في الدولة. وقد زادت التأويلات المثيرة للجدال التي استند إليها رئيس الجمهورية في تعطيل التحوير الوزاري الأخير أو فيما يتصل بإرساء المحكمة الدستورية أو في صلاحياته بصفته قائدا أعلى للقوات المسلحة، في تأكيد الحاجة إلى المحكمة الدستورية كجهة محكمة أمام تنامي معارك الصلاحيات ومخاوف احتكار رئيس الجمهورية لتأويل النصوص واستغلاله لتوسيع صلاحياته وربما النزوع إلى حكم فردي مطلق، وإدخال أجهزة الدولة الصلبة على غرار الجيش والأمن في التجاذبات السياسية بما يهدّد وحدة الدولة واستقرار الحكم.

       مع دفاعنا عن التعدّدية وحق الاختلاف، وتفهّمنا للأجندات السياسية المتباينة للأحزاب والأشخاص ومقتضيات الصراع السياسي، نشدّد على أنّه ليس في معارك المصلحة الوطنية غالب ومغلوب. وليس من التشاؤم في شيء أن نصف وضعنا السياسي بأنّه خطير جدا، ممّا يفاقم خطورة الأوضاع الصحية والاقتصادية والاجتماعية التي تظل ذات الأولوية. وقد تتدحرج الأمور إلى ما لا يحمد عقباه وندخل مرحلة عصيبة إذا استمر العناد الذي لا يستحضر المخاطر بما يكفي. فالتصويت المعزّز  والمريح على تنقيحات القانون المحكمة الدستورية رسالة قوية  في وجود إرادة برلمانية للحلّ. نرجو أن يتفاعل معها رئيس الجمهورية إيجابيا بختم القانون ونشره خلال الأربعة أيام  حسب أحكام الدستور، بعد أن مارس حقه في الردّ. وفي انتظار أن يستكمل مجلس نواب الشعب الأعضاء الثلاثة قريبا، بات جائزا في الأثناء، أن يتمّ تعيين رئيس الجمهورية والمجلس الأعلى للقضاء الثمانية أعضاء الآخرين لتتوفر أغلبية ويصبح انعقاد المحكمة ممكنا.

       ومع الأمل في طيّ صفحة المحكمة الدستورية التي سيساعد إرساؤها قريبا على حلّ جانبا مهما من الخلافات بين قرطاج والقصبة وباردو، تبقى الأزمة المركبة ببلادنا أكبر من ذلك وبحاجة إلى خطوات أخرى أهم على طريق الحوار الوطني دون إقصاء أو شروط مسبقة، للتوافق على برنامج وطني للإنقاذ وتشكيل حكومة وطنية ترعاه، وتعيد للتونسيين بعض الاطمئنان والأمل وتبعث برسائل إيجابية عاجلة لم تعد تقبل الانتظار أكثر، للمانحين ولشركاء تونس وللمستثمرين في الداخل والخارج. ويبقى الأمل معقودا على العقلاء خاصة في أيّ موقع للعمل الحثيث في اتجاه تجميع الفرقاء والتنادي من أجل المصلحة الوطنية العليا وإنهاء وضع الأزمة المترنّحة منذ مدة. وما ذلك علينا بعزيز ولنا في تجارب الماضي ما يشجّعنا.

محمد القوماني

*منشور بجريدة الرأي العام، العدد 205، تونس  في  06 ماي 2021    

 

مشاركة
    0 Comments

    No Comment.

    %d مدونون معجبون بهذه: