أولوية تفعيل المواطنة

بمناسبة الانتخابات البلدية ..

أولوية تفعيل المُواطنة*

جريدة الطريق الجديد ، أفريل 2005

بمناسبة إجراء الانتخابات البلدية ببلادنا المقرّرة ليوم الأحد 09 ماي القادم، وهي مناسبة ممتازة لممارسة المواطنة في علاقة مباشرة بالشأن العام المحلي وفي التعاطي مع مشاغل المتساكنين وحالة المدينة ومستوى جودة الحياة، وفي ظل حالة العزوف غير الخافية لدى أعداد كبيرة من المواطنين، بما في ذلك أوساط النخب،عن الاهتمام بهذه الانتخابات، يجدر بنا تناول وضع المواطنة في ربوعنا، باستحضار أهم دلالاتها وعوامل ضمورها وتكلفة ذلك وحيوية تفعيلها في تحقيق الإصلاح السياسي المتأكد ومواجهة مختلف التحديات.
شكل عصر الأنوار في أوروبا مرحلة نوعية بجعل المواطنة حقا إنسانيا يتمتع به الجميع على قدم المساواة، حين أسّس روّاد التنوير الاجتماع السياسي على فكرة التعاقد وجعلوا المواطن عضوا في الدولة تربطه بها علاقة حقوق وواجبات . وجعلت الثورة الفرنسية المواطنة حقا قانونيا بإعلانها حقوق الإنسان والمواطنة، وترسّخت هذه المواطنة في أوروبا وأمريكا عبر الأجيال، بتطوير منظومة حقوق الإنسان وتغيير القوانين باطراد، باتجاه مزيد من التحررية وضمان المساواة والكرامة. أما في منطقتنا العربية فيبدو أن مفهوم الغَلبَة، الضارب بجذوره في القرون الخوالي، ظل يؤسس الاجتماع السياسي في الدول الحديثة بدل مفهوم التعاقد. فالحاكم يستمدّ مشروعيته من قهر خصومه وغلبتهم وبسط نفوذه على الأغلبية التي وصفها الكواكبي بقوله: “عليهم يصول و بهم على غيرهم يجول” . وكان من الطبيعي أن تغيب المواطنة أو تضمر في ظل حكم الغلبة. وتلك من أهم معوقات الديمقراطية وحقوق الإنسان في ربوعنا وإحدى الفوارق النوعية بين أوضاعنا السياسية ونظيرها في المجتمعات الديمقراطية. وهي فوارق تشمل السلوك المُواطني للحكام والمحكومين في آن.
*
في دلالة المواطنة
المواطنة مفهوم حديث يعني الانتماء إلى وطن تسوده علاقات مبنية على ضمان الحقوق والالتزام بالواجبات. فأن تكون مواطنا، يعني ببساطة أن تكون عضوا في دولة ديمقراطية مؤسسة على علاقة تعاقدية يتساوى فيها الجميع في الحقوق والواجبات الأساسية وأمام القانون ويكون فيها الحاكم منتخبا ويكون فيها للفرد المحكوم الحق في تدبير شؤونه الخاصة وتدبير شؤون مدينته ومجتمعه، بإبداء رأيه بحرية واتخاذ المبادرات التي تهدف إلى تحسين وضع الجماعة محليا ووطنيا، والمشاركة في الحكم باعتباره ناخبا أو مُرشحا لسلطة يخضع لها المجتمع لمدة محددة ويكون للناخبين حق مساءلة تلك السلطة أو مقاضاتها أو عزلها إذا لزم الأمر. ولا تتحدد المواطنة من خلال علاقة الفرد بالدولة فقط، بل أيضا من خلال حياة جماعية قائمة على روابط ثقافية وتشريعية وسياسية تقوم على تلازم الحق والواجب، وتقترن بتطور الإنسان وسعيه الدؤوب نحو مزيد من الحرية والمساواة والكرامة. والمواطنة بهذا المعنى، مفهوم ديناميكي يتطور بتطور المجتمعات ووعيها بحقوقها وتطويرها لمنظومة المشاركة السياسية، بترسيخ قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان عن طريق التنشئة الاجتماعية والتوعية المستمرة التي تساهم فيها الأسرة والمدرسة، والمنظمات الأهلية والهيئات الحزبية وكل الفاعلين في المجتمع.
ولئن حاول البعض تأصيل مفهوم المواطنة في تراثنا، فإني أميل إلى اعتباره مفهوما حديثا غربي المنشأ، ولا أرى في ذلك أيّ تعارض مع العمل على تبيئته واستخدامه بدلالته الأصلية. ومن جهة ثانية فإننا حين نستحضر هذا المفهوم للمواطنة في سياقه الغربي وبأبعاده المختلفة السياسية والاجتماعية والثقافية، النظرية والعملية، يذهب البعض إلى الجزم بانعدام المواطنة في ربوعنا وغُربة هذا المفهوم عن بيئتنا الثقافية، ويرون أن المطلوب إحداث تغييرات عميقة في الثقافة والممارسة السياسية من أجل تأسيس المواطنة. وهذا القول بالتأسيس في موضوع المواطنة، كما في مواضيع أخرى عديدة، يصدر عن رؤية في التغيير تقوم على الدعوة إلى إلغاء الوضع القائم وبناء الجديد على أنقاضه. وبصرف النظر عن مدى واقعية هذه الرؤية، أرى من المهم الإشارة إلى أن الرؤية الإصلاحية التي أصدر عنها في هذه المقاربة، تقوم على تطوير الواقع باتخاذ مرتكزات فيه ودفع الأمور تدريجيا في الاتجاهات التي نرومها. لذلك أرى في موضوع الحال أن المطلوب ليس تأسيس المواطنة في واقعنا، بل تفعيلها. فالمواطنة موجودة في نص الدستور وفي النصوص القانونية التي تنظم الدولة والمجتمع، وفي الخطابات المتداولة، ولكن المشكلة تظل في ضمور هذه المواطنة وإفراغها من محتوياتها.
ومن جهة أخرى، فلئن دأب البعض على حصر حركة المواطنة في البلاد العربية، في منظمات المجتمع المدني وأحزاب المعارضة، باعتبار أهدافها المعلنة في نشر الثقافة الديمقراطية والعمل من أجل تحقيقها في الواقع في مواجهة أنظمة الاستبداد، وباعتبارها بديلا محتملا للأنظمة القائمة. فإني أذهب إلى أن مستقبل المواطنة في ربوعنا لا يتوقف على هؤلاء الفاعلين الاجتماعيين على أهميتهم، بل يبدو رهين دينامكية سياسية تعمل بجاذبية الديمقراطية، باتجاه تطوير ثقافة ومنظومة المشاركة السياسية، بالتوافق بين السلطة والمجتمع، بين الأحزاب الحاكمة والمعارضة، وبمساهمة نشطة لمؤسسات التنشئة الاجتماعية المختلفة وفي مقدمتها الأسرة والمدرسة والإعلام . كما يتوقف على إعادة تأهيل طرفي المعادلة السياسية، أعني السلطة والمعارضة أيضا.
*
تكلفة ضمور المواطنة
كان من الطبيعي، في ظل حكم الغلبة، أن تضمر المواطنة في دولة ما بعد الاستقلال رغم وجهها الحداثي، ولا تستفيد بلادنا، وسائر البلدان العربية، من كل طاقاتها. فلم يساعد تعطّل التنمية السياسية على تحقيق تقدم نوعي على صعيد تفعيل المواطنة، فساد نظام الحزب الواحد وتقلصت فرص المشاركة السياسية، وعرفت العديد من الطاقات والفئات الإقصاء أو التهميش. لكن الأخطر من ذلك أنه ممّا ساهم بقوة في غياب المواطنة أو ضمورها في ربوعنا وممّا ضاعف جاذبية التسلط في مجتمعاتنا، أن مفهوم الغلبة انتقل من الحكم إلى المعارضة، ومن السلطة إلى المجتمع.
ففي غياب التعددية السياسية وانسداد أبواب المشاركة واستحالة تغيير الأوضاع بالآليات المتاحة، انصب تفكير المعارضين المتمرّدين على امتلاك عناصر الغلبة لقلب الأوضاع . ولم تساعد ظروف العمل السياسي السري ومغالبة السلطة ، على التفكير في أساليب التوعية بالمواطنة ومضامينها ونشر ثقافة الديمقراطية وتعزيز قدرات المجتمع المدني في مواجهة تغوّل الدولة. وربما صارت الغلبة ثقافة، فتحدث المصلحون عن قهر الحاكم للرجل و قهر الرجل للمرأة وانتشرت أدبيات في تحليل انتشار الاستبداد في ألياف المجتمع المختلفة(الأسرة ، المدرسة، ومؤسسة العمل…). ولم تستطع جهود المعارضة، رغم التضحيات الجسيمة، أن تغيير المعادلة وتفتح أفقا مغايرا للمجتمع.
وفي ظل حكم الغلبة انكفأ المواطن على نفسه وضعف انتماؤه للوطن، فتفشت اللامبالاة وعزف أغلب الناس عن المشاركة في الحياة العامة واستسلموا إلى ضرب من القدرية وفقدوا كل أمل في تغيير الأوضاع وسكنهم الإحباط. فالسياسة شأن لا يعنيهم، بل هي خطر يجب الحذر منه، والصراع بين الحكم والمعارضة، صراع على الكراسيومن أجل مصالح شخصية لا ناقة لهم فيه ولا جمل. والديمقراطية والانتخابات والمشاركة والمواطنةكلمات جميلة تثير ضحكهم، وهي أقرب للشعارات الرنانة، وإن كان لها صلة بالواقع ففي ربوع غير ربوعهم.

*أولوية تفعيل المواطنة
دفعت التحولات العالمية وخاصة الثورة الاتصالية واستخلاصات عقود من الصراع بين الحكم والمعارضة في بلادنا إلى أن صار الحديث عن الإصلاح والديمقراطية ودولة القانون والمؤسسات، من ثوابت خطاب السلطة والمعارضة ومن المشتركات بينهما، ومن المفيد أن ينتبه طرفا المعادلة السياسية إلى حيوية تحدي تفعيل المواطنة بما يضعنا على طريق الحكم الراشد الذي يعد من شروط المناعة والبقاء والنجاح في مواجهة التحديات المستقبلية لعالمنا المليء بالتقلبات. فإذا ضاع هذا الهدف وتبدّدت الجهود في المُغالبة وإدارة الملفات الظرفية، نخشى أن يستمر منطق حكم الغلبة على حساب ذهنية المواطنة ودولة المؤسسات، فنخسر رهانات الحاضر والمستقبل. وإذا كان من المشروع والمهم أن تنشغل السلطة والأحزاب السياسية بالاستحقاقات العاجلة، فمن باب أولى أن يُعيروا الاهتمام اللازم للمستقبل المنظور والبعيد لتونس.
إن أيّ تعبئة للمواطنين في رفع التحديات كما تريد السلطة، وإن أيّ إصلاح سياسي كما تريد المعارضة، لن يتحققا إلاّ بتسهيل دخول المواطن معترك الحياة العامة والارتقاء به إلى مستوى المواطنة بما تحمله من حقوق وواجبات والتعبير عن رأيه والمشاركة الفاعلة في صياغة القرار ونقاشه، ذلك أنّ الازدهار الاقتصادي وحده غير كاف لتعزيز الانتماء للوطن، كما أن الاحتجاج على السلبيات غير كاف وحده لبناء مواطنة فاعلة. ولن نستطيع في كل الأحوال، سلطة ومعارضة، معالجة المشاكل ومواجهة التحديات ودرء المخاطر مع إبقاء المواطن في وضع سلبي فاقد للاهتمام بالشأن العام، مُنسحِبا ومُستقيلا كلّيا من الحياة العامة، نافرا من العمل الاجتماعي ومشكّكا في أيّ تجربة وفي مؤسسات الدولة، فاقدا للثقة في المعارضة وفي الحكومة، متّهما الجميع بشتّى التّهم، ومكتفيا بعلاقته الزبونية ومتخلّيا عن مواطنته ومسؤوليّته. ولهذا كله ممّا تقدم بسطه، ولغيره ممّا لم يسمح به المجال، نعد ّتفعيل المواطنة في مقدّمة أولوياتنا.

محمد القوماني

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مقال منشور بجريدة الطريق الجديد ، أفريل 2005

مشاركة
    0 Comments

    No Comment.

    %d مدونون معجبون بهذه: